تسلط تحركات الصين في الشرق الأوسط الضوء على إمكانية انخراطها في أزمات المنطقة، منذ انعقاد القمة العربية – الصينية، ومن بينها الأزمة الليبية، لا سيما أن ليبيا تمثل واحدة من المحطات الاقتصادية الهامة في مشروع الصين “الحزام والطريق”، كما أن بعض الليبيين يطالبون بعودة الصين إلى العمل على الساحة الليبية.

لكن الصين تتريث في التعامل مع الملف الليبي، إدراكاً منها لحجم تعقيدات هذا الملف، كما أنها تنهج تكتيك العودة الهادئة، إذ تربط عودتها إلى الساحة الليبية بالاستقرار السياسي والأمني أولاً.

ومع ترقب انفراجة في هذه الأوضاع ستكون الصين لاعباً مهماً على الساحة الليبية، خاصة على المستوى الاقتصادي ومن خلال برنامج إعادة إعمار ليبيا.

لفترة طويلة اقتصر الدور الصيني في ملف الأزمة الليبية على إبداء المواقف في مجلس الأمن والتي تؤكد باستمرار على ضرورة العمل من أجل استقرار ليبيا.

وأجلت الصين عودة بعثتها الدبلوماسية إلى ليبيا بخلاف العديد من القوى الدولية والإقليمية التي عادت بالفعل إلى العمل من طرابلس، أو على الأقل ترتب للعودة في المستقبل القريب، على الرغم من أن حجم مصالح الصين في ليبيا في المرحلة الحالية والمتوقع له مستقبلاً قد يشكل دافعاً لاستعجال هذه الخطوة.

وفي المقابل لذلك، طالب رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي خلال مشاركته في القمة العربية – الصينية، التي انعقدت في الرياض (ديسمبر 2022)، بأن تلعب الصين دوراً يناسب ثقلها الدولي بما يسهم في استقرار ليبيا وضمان استقلالها ووحدة أراضيها.

كما أكد “المنفي” على تطلع بلاده إلى الاستفادة من الخبرات والإمكانات الصينية لإعادة بناء الاقتصاد الليبي والبنى الأساسية، وأشاد بمبادرة “الحزام والطريق” التي انضمت إليها طرابلس عام 2018، معتبراً أنها تعد “فرصة واعدة للتنمية المستدامة، وتطوير العلاقة الثنائية بين البلدين”.

تكيف حذر

على الرغم من أن الصين حاولت أكثر من مرة العودة إلى الانخراط على الساحة الليبية، إلا أن اندلاع الحروب الأهلية تارة وظروف الانقسام السياسي تارة أخرى حال دون ذلك، فقد كان للصين علاقات اقتصادية واسعة في ليبيا إبان النظام السابق، وربما كانت أكبر قوة دولية لديها حضور في ليبيا آنذاك.

فقد كان هناك 75 شركة صينية تعمل في 50 مشروعاً من خلال 36 ألف عامل في قطاعات البناء والسكك الحديدية والاتصالات والطاقة، وكانت بكين تحصل على 150 ألف برميل من نفط ليبيا بما يعادل 3% من احتياجاتها.

لكن أدت أحداث 2011 في ليبيا إلى سقوط النظام، ومن ثم مغادرة تلك الشركات والعمال وتوقف الأنشطة، بل إن قصف “الناتو” لليبيا أدى إلى انهيار تلك البنية.

ومع تشكيل المجلس الانتقالي الليبي، سعت الصين إلى استئناف العمل في ليبيا من خلال رئيس الوزراء حينذاكمحمود جبريل، لكن سرعان ما انهارت تلك المساعي على خلفية اندلاع الحرب الأهلية، ومع توقيع اتفاق الصخيرات 2016 حاولت الصين مرة أخرى.

تقدمت تلك المساعي خطوة هامة بتوقيع اتفاق مع حكومة الوفاق يضع ليبيا ضمن خريطة المغرب العربي على مشروع “الحزام والطريق”، لكن اندلاع حرب طرابلس أدى إلى إحباط تلك المحاولة كسابقتها.

ومع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية لم تسارع الصين إلى العودة مرة أخرى إلى الساحة الليبية، أو استئناف العمل من طرابلس، وبقيت تباشر مصالحها المحدودة من خلال القائم بالأعمال في تونس.

وذلك على الرغم من أن التبادل التجاري بين الطرفين عاد يشهد طفرة مرة أخرى، حيث تجاوز سقف 6 مليارات دولار وهو ما يعادل ثلث حجم الميزان التجاري الذي تجاوز سقف 18 مليار دولار في مرحلة ما قبل سقوط النظام السابق.

تطور جديد

في أعقاب القمة الصينيةالعربية التي شارك فيها الرئيس الصيني شي جين بينغ، بدأت الصين تنخرط تدريجياً في الملف الليبي، حيث قام القائم بالأعمال الصيني بإجراء لقاء مع رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، وجرى الحديث عن إمكانيات عودة السفارة الصينية إلى العمل من ليبيا.

إلا أن مصادر دبلوماسية صينية أكدت على أن بكين ستبقى على سياستها الحذرة تجاه ليبيا، إذ إنها لن تعود إلى الساحة الليبية فعلياً حتى تتشكل حكومة ليبية موحدة ومستقرة بعد إجراء الانتخابات المؤجلة.

ووفقاً لرؤية أحد تلك المصادر الدبلوماسية في القاهرة فإن اللقاءات التي تجري مع المسؤولين الليبيين في العديد من المناسبات لا تزال رمزية، ولا تعكس أكثر من الاستماع إلى الليبيين واستكشاف ما الذي يجري على الساحة هناك.

مؤكداً على أن الصين تنتهج سياسة “الصبر الاستراتيجي” لحين استقرار البلاد فعلياً حتى لا تكون العودة مغامرة غير محسوبة أو غير مأمونة العواقب في ظل المخاوف من عودة التوتر إلى الساحة مرة أخرى.

محددات حاكمة

ويمكن تفسير سياسة “الصبر الاستراتيجي” الصينية تجاه ليبيا في ضوء عدد من المحددات التي يُمكن في ضوئها عودة الصين إلى الساحة الليبية، ومنها على سبيل المثال:

1- إتمام عملية الانتقال السياسي الليبية: 

والتي تتمثل في إجراء الانتخابات كمحطة أولى في مسار الاستقرار المطلوب، لكي يمكن للصين العودة إلى بيئة مستقرة سياسياً، وحتى لا يتكرر ما جرى خلال المراحل الانتقالية السابقة، حيث تؤكد الصين أن العودة مرتبطة بوجود حكومة شرعية مركزية في ليبيا.

ومن الملاحظ على سبيل المثالأن خريطة المصالح الصينية لم تكن تقتصر على غرب ليبيا، وإنما شملت الشرق والجنوب أيضاً، وبالتالي لا يمكنها العودة إلى العمل في تلك المناطق التي تتواجد فيها حكومة ليبية موازية، كما أن الصين تتعامل في غرب ليبيا مع المجلس الرئاسي وليس حكومة الوحدة الوطنية.

2- دعم خطة “باتيلي” في إطار التعاون الدولي: 

وهي نقطة محورية في تطور الانخراط السياسي الصيني تجاه ليبيا، فقد كان من اللافت أن بكين دعمت خطة المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي، التي طرحها في 10 مارس 2023، ثم أكدت على تلك الخطوة من خلال موافقتها على البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن والدعم لخطة “باتيلي”.

وفي أعقاب ذلك أكد “باتيلي” أنه بحث مبادرته مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ونائب الممثل الدائم للصين لدى الأمم المتحدة داي بينغ، حيث جرى التأكيد على ضرورة دعم إجراء الانتخابات الليبية في عام 2023.

في مؤشر على أن الصين لا تسعى إلى منافسة الدور الأمريكي في ليبيا، أو مزاحمتها سياسياً هناك.

3- استقرار الوضع الأمني في ليبيا: 

وهو ما أكد عليه الرئيس “شي” في لقائه مع “المنفي” على هامش القمة الصينيةالعربية، حيث اشترط الرئيس “شي” تحقيق الاستقرار واستتباب الأمن في البلاد لاستئناف أعمال الشركات الصينية بليبيا.

وهي الصيغة نفسها التي عبر عنها باستفاضة القائم بأعمال السفير الصيني في ليبيا وانغ شيمين في مقال له نشرته وكالة الأنباء الليبية (وال) في 5 نوفمبر 2022 قبيل نحو شهر من انعقاد القمة في السعودية، حيث أكد أن موقف بكين ثابت وواضح، وهو التمسك بدعم سيادة ليبيا واستقلالها وسلامة أراضيها وانسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة في أقرب الآجال.

4- أولوية المصالح الاقتصادية:

عودة دور لبكين على الساحة الليبية ارتبطت بشكل رئيسي بإمكانية عودة الشركات الصينية للعمل في ليبيا، ومن الواضح أن الصين تركز على موقع ليبيا على خريطة مشروع “الحزام والطريق”.

وبالتالي فإن حدود انخراطها السياسي وتأكيدها على ضرورة استقرار ليبيا يدور حول مصالحها الاقتصادية في ليبيا في المقام الأول، وبالتالي لا يعتقد أنها تسعى إلى مزاحمة اللاعبين الآخرين في ليبيا.

بل على العكس تنسق الصين مع تلك القوى على نحو ما سلفت الإشارة طالما أن هذا الوضع سيقود إلى الاستقرار الذي يحقق مصلحتها في ليبيا في الحاصل الأخير.

دلالات رئيسية

وتعكس هذه المحددات في حد ذاتها عدة دلالات رئيسية، منها على سبيل المثال:

1- تدويل خطة العمل على استقرار ليبيا

فالقمة العربية الصينية أعادت التأكيد على المؤكد بالنسبة للسياسة الخارجية للصين تجاه ليبيا، وهي أن الصين لن تنخرط بشكل متسارع تجاه ليبيا بناء على طلب الليبيين، وإنما تنخرط مع القوى الدولية ومن خلال مجلس الأمن، وهي نقطة شديدة الأهمية بالنظر إلى أن الصين على سبيل المثالتنخرط مع قوى إقليمية مثل السعودية في الملف اليمني.

ولكنها لا تنخرط مع قوى إقليمية على الساحة الليبية، وإنما تدير هذا الملف بالتعاون مع الولايات المتحدة والبعثة الأممية في ليبيا.

وعلى الجانب الآخر، يؤخذ في الاعتبار أن الصين لا تنسق مع روسيا في هذا الملف رغم طبيعة العلاقات الصينية الروسية، ولكن تنظر الصين إلى أن موسكو تعد طرفاً في الأزمة الليبية ولا سيما من المنظور الأمريكي تجاه ليبيا.

وترفض الصين سياسة العسكرة في الملف الليبي، وهو ما يعد مؤشراً على سياسة الصين وأنها تدير سياساتها الخارجية في المنطقة على حسب طبيعة الملفات واللاعبين، وبما يحقق مصالحها.

2- استمرار نهج سياسة الحذر والحياد:

لا تزال الصين تنتهج سياسة الحذر تجاه الملف الليبي، فالحراك الجاري في الملف الليبي لم تظهر نتائجه بعد، بل لا يزال من المبكر معرفة إلى أين يتجه هذا الملف وما هي سيناريوهاته في ظل تعقيدات الحالة الليبية.

كما أن الصين تظل بعيدة عن الانخراط في التفاصيل الخاصة بالانقسام السياسي في ليبيا، أو غيرها من تفاصيل المشهد الليبي بشكل عام، وتؤكد بكين على حيادها وعدم الانحياز لأي طرف ليبي.

ولا يقتصر هذا الأمر على الحكومات الليبية في الشرق والغرب، وإنما أيضاً تجاه مختلف القوى السياسية، كمجموعة النظام الليبي السابق.

3- تكتيك العودة الهادئة للتأثير على الساحة الليبية

لا تثير تحركات الصين تجاه ليبيا حالة من الصخب على غرار الأدوار الدولية الأخرى التي تستقطب بعض الأطراف المحلية والإقليمية وتستبعد أطرافاً أخرى، فمؤشر التطور الرئيسي الذي يمكن رصده في ظل تنامي الاهتمام الصيني بهذا الملف مؤخراً هو مشاركة الفاعلين في إنهاء عملية الانتقال السياسي الفاشلة في ليبيا.

كما أن عودتها بعد الانتخابات ستكون عودة طبيعية وهو أمر تقليدي متوقع للصين ولغيرها من الدول، وبالتالي تنتهج بكين سياسة العودة الهادئة إلى الساحة الليبية.

إنضاج الثمار

لا شك أن الصين هي طرف مفضل لليبيين، أو في الحد الأدنى هي طرف مقبول لدى الجميع، وستعود إلى العمل في الساحة الليبية إن عاجلاً أو أجلاً، فتاريخياً لم تكن قوة استعمارية.

كما أنها عارضت التدخل الدولي بالقوة العسكرية في ليبيا، ومواقفها السياسية محل تقدير من كافة الأوساط الليبية، حيث تمتلك القدرة على التكيف مع التطورات السياسية في ليبيا، خاصة وأن تاريخ هذه العلاقات مرتبط ببرنامج التنمية الاقتصادية، ولا سيما في مجال البنية التحتية، وهو ما يعني أنها ستحصل على حصة من إعادة إعمار ليبيا.

كما أن حصتها النفطية في ليبيا لا تشكل نوعاً من المزاحمة للقوى الدولية الأخرى، ومع ذلك قد تنظر بعض القوى إلى أن الصين تستفيد من التطورات التي تلحق بها دون تكلفة كبيرة، وإنما تنتظر حتى تنضج ثمار التحركات الدولية.

لكن بالنسبة للصين، فإنها رقم لا يمكن تجاهله، ولا سيما في المرحلة الحالية بحكم موقعها في مجلس الأمن الذي يعتبر المنبر الوحيد الآن لدفع أي خطة عمل ليبية.

_____________

مواد ذات علاقة