فريدريك ويري

تهتم الأطراف الخارجية بشكل متزايد بهذه الدولة الافريقية الغنية بالنفط والغاز والتي تم إغلاق السفارة الأمريكية فيها منذ عام 2014.

***

يعتمد النجاح في الدبلوماسية وفي الحياة ـ كما يقول المثل القديم ـ إلى حد كبير على أن تكون موجود. لكن لأكثر من نصف عقد لم تكن الولايات المتحدة متواجدة في ليبيا بطريقة مستدامة وذات مغزى. هذا الأمر يعكس نهج الخارجية الأمريكية تجاه ليبيا والذي غالبا ما كان أقرب إلى سياسة الشعارات وخطاب التمني أكثر من كونها سياسة خارجية عملية قابلة للتنفيذ.

بعد أن واجه الدبلوماسيون الأمريكيون نيران القتال بين الميليشيات الذي اندلع في أنحاء العاصمة الليبية طرابلس في صيف 2014، أغلقت الولايات المتحدة سفارتها وتم إجلاء العاملين إلى تونس، ولم تعد السفارة إلى هذه اللحظة بالرغم من أن الظروف في ليبيا أصبحت أكثر أمانا إلى حد كبير في السنوات الأخيرة. كما أعيد فتح سفارات أجنبية أخرى أو هي بصدد القيام بذلك.

يرجع غياب السفارات جزئيا إلى الإرث المسيّس للهجوم الإرهابي عام 2012 على موقع دبلوماسي أمركي في بنغازي والذي أسفر عن مقتل السفير الأمريكي آنذاك كريستوفر سينفنز وثلاثة دبلوماسيين آخرين وأطلق العنان لمجموعة من الحزب الجمهوري الأمريكي الذين استغلوا هذه الحادثة كذريعة في الصراع السياسي داخل الكونغرس لم ينته حتى هذه اللحظة.

هذه الواقعة المأساوية جعل مسؤولي إدارة بايدن يكرهون المخاطرة عندما يأتي الأمر للموافقة النهائية على عودة السفارة إلى ليبيا.

في وقت سابق من هذا الشهر، كانت هناك مؤشرات تفاؤل حذر بأن هذا قد يتغير. في 22 مارس وفي جلسة استماع للجنة الفرعية لمخصصات مجلس الشيوخ، أفاد وزير الخارجية بلينكن أن وزارته تعمل بنشاطعلى إعادة تأسيس وجود دبلوماسي أمريكي دائم في ليبيا، على الرغم من أنه رفض الخوض في تفاصيل حول الخطوات التي كانت وزارة الخارجية تتخذها أو تحديد جدول زمني.

خصصت الخارجية الامريكية ميزانية لعودة السفارة إلى طرابلس في الميزانية المقدمة إلى الكونغرس وهذه خطوة إيجابية ولكن ليس غير واضح ما إذا كان هذا التمويل سيوافق عليه مجلس النواب الذي يخضع لسيطرة الحزب الجمهوري، ما إذا كان بلينكين سيمضي نحو إعادة الإفتتاح ومتى.

في ظل غياب التواجد الرسمي في ليبيا سيستمر الدبلوماسيون الأمريكيون يعملون من مواقعهم في السفارة الأمريكية بتونس. ومن خلال ما شاهدته بنفسي خلال العمل الميداني الممتد في ليبيا على مر السنين الماضية فإن العديد من الليبيين الذين لهم أهمية في المشهد لا يستطيعون أو ربما لا يرغبون في الذهاب إلى تونس غالبا لأسباب مالية أو سياسية.

نتيجة لذلك لا يستطيع الدبلوماسيون الأمركيون بناء الثقة مع اللاعبين الليبيين الرئيسيين وفهمهم والتأثير عليهم. إن الرحلات النصف يوممن قبل كبار المسؤولين الأمريكيين إلى المطارات أو الوزارات الخاضعة لترتيبات أمنية مشددة في ليبيا ليست بديلا قابلا للتطبيق لسياسة خارجية مستدامة وفعالة.

وقد تفاقمت أثار هذا التغيّب عن المشهد مع تنامي أهمية الاستقرار الأمني وموارد الطاقة في السنوات الأخيرة، وأخذت مجموعة من القوى الخارجية اهتماما متزايدا بالدولة الإفريقية الغنية بالنفط.

نشرت روسيا الألاف من مرتزقة مجموعة فاغنر والعسكريين النظاميين، بالاضافة إلى أسلحة متطورة خلال عامي 2019 و 2020 لدعم محاولة عسكرية قادها أمير الحرب في شرق ليبيا خليفة حفتر. سعى حفتر للإطاحة بالحكومة المعترف بها دوليا في العاصمة.

على الرغم من فشل هذا الجهد بسبب التدخل العسكري التركي لا تزال روسيا تتمتع بنفوذ مؤثر ومدمّر في ليبيا. والأهم من ذلك أنها تدعم التحالف المسلح لحفتر مما يمنحه الوسائل للحفاظ على قبضته على مساحات شاسعة من الأراضي الليبية ومنع تصدير النفط الليبي ـ كما فعل في الفترة من أبريل إلى يوليو 2022، على وجه التحديد عندما ارتفعت أسعار النفط الخام بشكل كبير بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وتسبب ذلك في أضرار كبيرة لمصالح الشعب الليبي والذي يعتمد على الصادرات بشكل رئيسي، كما أضر بمصالح الدول الأوروبية التي تتلقى صادرات الطاقة الليبية والاقتصاد العالمي، بينما استفاد الكرملين من هذا الإقفال بشكل ملائم لمصالحه في المنطقة.

كما تحصنت مقاتلات فاغنر حول حقول النفط وداخل القواعد الجوية عبر جنوب وشرق ليبيا، والتي نقلوا منها الأفراد والمواد إلى الدول الافريقية في منطقة الساحل، ومن خلال هذه الخطوة قدموا أنفسهم كبديل جذاب لما يعتبره السكان المحليين نظاما استعماريا جديدا فرنسيا وأمريكيا متعجفرفا، حيث يقدمون مجموعة من الخدمات المستبدة، بدءً من التدريب العسكري ومكافحة التمرد والجريمة مصاحبة بحملة بروباغندا ودعاية مضللة تلمّع وتظهر بعض الشخصيات بشكل لامع، بالرغم من ارتكاب انتهاكات مروعة خلال القيام بذلك.

هذا الوضع يعتبر أحد مؤشرات الجدية التي تنظر بها إدارة بايدن إلى ليبيا كنقطة انطلاق النفوذ الروسي، فضلا عن كونها مصدرا محتملا للتمويل غير المشروع حيث يقال بالفعل أن فاغنر يستغلون عائدات النفط الليبي.

قامت إدارة بايدن بإرسال مسؤولين رفيعي المستوى إلى شرق ليبيا للقاء حفتر، حيث سافر مدير وكالة المخابرات المركزية، ويليام بيرنز، إلى بنغازي في يناير الماضي، وتبعته مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف في شهر مارس.

لا تزال تفاصيل مناقشتهم الكاملة مع حفتر المتشدد غير واضحة، لكنها تركزت على الأرجح على دعمه للانتخابات المخطّط لها في ليبيا في وقت لاحق من هذا العام، ومزيج من الضغوط والتحذيرات والحوافز لإجباره على قطع علاقاته مع موسكو وإخراج مرتزقة روسيا من الأراضي الليبية.

وفي هذا تكمن المشكلة التقليدية في سياسة واشنطن تجاه طرابلس، وهي مشكلة قد تعالج جزئيا من خلال التواجد الدبلوماسي المستمر ولكنها لن تنتهي بالكامل.

ينظر المسؤولون الأمريكيون من الإدارات المتعاقبة تاريخيا إلى ليبيا من خلال عدسة المصالح الأمريكية الكبرى ويمنحها دور الداعم لقضايا كبيرة استراتيجية مثل توفير مصادر آمنة للطاقة ومكافحة الإرهاب ـ وخاصة تنظيم الدولة الاسلامية، الذي أنشأ فرعا قويا في ليبيا ـ والأن أصبح التنافس بين الولايات المتحدة وما يسمى بالقوى العظمى التي يرى الكثيرون في واشنطن أنها تلعب في جميع أنحاء القارة الأفريقية والشرق الأوسط بتفوق.

نيجة لذلك، اتبعت الولايات المتحدة وحلفاؤها سياسات متناقضة في ليبيا مكّنت مجموعة من الشخصيات الليبية الفاسدة بزمام الأمور وتركت البلاد أكثر انقساما.

وعلى صعيد متصل، غالبا ما ضحى المسؤولون الأمريكيون بمصالح هذه الدولة في شمال أفريقيا، وتركوها تذبح لغرض تحقيق مصالح أخرى أكثر إلحاحا في الشرق الأوسط ـ وبالتحديد، إيران والصراع العربي الاسرائيلي ـ عندما يعتقدون أن الولايات المتحدة تتطلب دعم الدول العربية الرئيسية مثل مصر والإمارات، وهما من المعروف عنهم التدخل المباشر في السياسة الليبية.

وفقا لهذه الحسابات فإن تجاوزات هؤلاء الشركاء العرب في ليبيا، بما في ذلك كسر حظر الأسلحة، وتمكين محاولة حفتر غير المشروعة للوصول إلى السلطة وجرائم الحرب وقتل المدنيين في ضربات بطائرات بدون طيار، قررت الإدارة الإمريكية عدم إنفاق رأس مال دبلوماسي في شكل توبيخ حازم أو أي نوع من التعبير عن الإدانة لهذه الأفعال.

كما أدى غياب الولايات المتحدة عن ليبيا وعدم اهتمامها بها إلى قراءة قصيرة النظر للتحديات المعقدة التي تواجهها البلاد.

إن التركيز الحالي على عملية يقودها الليبيوننحو الانتخابات البرلمانية والرئاسية هو أفضل مثال على الفهم الخاطئ للأزمة.

إن أجراء تلك الانتخابات في أواخر الخريف أو الشتاء من هذا العام هو حجر الزاوية في خارطة طريق طموحة كشف عنها مبعوث الأمم المتحدة الجديد إلى ليبيا الدبلوماسي السنغالي المخضرم عبدالله باتيلي.

تقول الولايات المتحدة ودول غربية أخرى إنها تدعم هذه الخطة بحماس، لكنها محفوفة بالمخاطر وتفتقر إلى التفاصيل ويبدو أنها مقدّر لها تكرار أخطاء الماضي.

ليس هناك شك في أن الشعب الليبي يريد ويستحق سلطة تنفيذية شرعية منتخبة بعد أكثر من عقد من الحكومات الانتقالية المعينة والهيئات التشريعية غير الفعالة.

ولكن كما يتم تفسيرها حاليا، فإن خطة باتيلي تتنازل عن قدر كبير من السيطرة على إجراء الانتخابات إلى زمرة من السياسيين وزعماء الميليشيات الليبيين الجشعين الذين يستفيدون من الوضع الراهن المجمد وسيسعوا لتفصيل الغموض المتعمد في قوانين وتشريعات الانتخابات مثل تحديد شروط الترشح والتسلسل الزمني للانتخابات وتحديد الصلاحيات، ناهيك عن المماطلة وعرقلة سير الانتخابات والسعي لتوجيه الانتخابات لصالحهم.

مع وجود الكثير من الحيل الجارية يكاد يكون من المستحيل إجراء الانتخابات في الموعد المستهدف، وأذا حدث ذلك بمعجزة ما فمن المحتمل أن يشوبها انعدام الأمن واستخدام العنف بالاضافة إلى ربما المقاطعة والعزوف وعدم وجود حملة انتخابية حرة أو فرز شفاف ودقيق للأصوات.

وفي احد السيناريوات الاكثر سوءً قد يدّعي حفتر فوزه في الجنوب والشرق واتهام المقاطعات الاخرى بالتزوير، مما يؤدي إلى مزيد من الانقسام والفوضى في البلاد ـ وهو من المفترض الأمر التي تهدف الانتخابات إلى تجنبه.

يشير كل هذا إلى أن صانعي القرار في أمريكا والذين يراهنون على خطة بعثة الأمم المتحدة، يبدوا أن لديهم توقعات غير واقعية حول ما سنتجزه الانتخابات في حد ذاتها، لا سيما عندما تظل المؤسسات السياسية والمالية والعسكرية في ليبيا منقسمة للغاية وتفلّت الشخصيات البارزة من المساءلة عن جرائم الماضي. كما سبق في الماضي، تبدو الانتخابات وكأنها غاية في ذاتها، مع غياب التفكير في اليوم التالي للتصويت.

بالنسبة للعديد من الليبيين كما هو الحال لكثير من الاجانب الذين واكبوا الانتخابات الليبية السابقة على أرض الواقع في 2012 و2014، والتي لم تضع صناديق الاقتراع في كل أنحاء البلاد حدا للنزاعات والانقسامات في ليبيا، بل إعادة تشكيلها فقط، وكذلك من خلال خطة أممية أخرى في مطلع عام 2021، التي لم تسفر عن انتخابات على الإطلاق، بالنسبة لهؤلاء تمثل خارطة طريق باتيلي خارطة للغرق مألوفة للأسف.

لكي نكون واضحين، شكلت مساعدات التنمية وسياسة الدعم الأمريكية تجاه المؤسسات الليبية على المستوى المحلي جديرة بالثناء والتقدير كما أنها كانت شاملة وركزت على تعزيز دور المجتمع المدني والاهتمام بملف حقوق الانسان والعدالة الانتقالية وترسيخ الاستقرار، من خلال برامج تدريب شملت الصحفيين ومدراء مؤسسات وورش عمل للإدارة المحلية المنتخبة، بالاضافة إلى مساعدة المواطنين الليبيين على التكيّف مع تحديات تغيّر المناخ التي تلوح في الافق.

ولكن لا يمكن القيام بأي من هذا العمل المهم بشكل فعال من خارج البلاد وعن بعد أو حتى من حدود سفارة تشبه القلعة المحصنة، وهذه خطة تبناها السفير الراحل ستيفنز ووضعها موضع التنفيذ خلال فترة عمله كسفير، وربما غامر في اهتمامه بالدبلوماسية الشخصية ودفع ثمن ذلك، إلا أنه قد تغير الكثير في العقد الماضي في كيفية تعامل وزارة الخارجية مع المخاطر وحماية دبلوماسييها في الخارج.

إن تطبيق هذه الإجراءات الأمنية المحسّنة بشكل معقول على ليبيا عند إعادة فتح السفارة الامريكية ـ مع تجنب الخوض في مشاريع الإصلاح السريعوإرساء سياسة الولايات المتحدة في الواقع الليبي المحلي ـ هو أفضل طريقة لتكريم إرث السفير الراحل ستيفنز ومساعدة الليبيين على تحقيق المستقبل الذي يستحقونه.

***

فريدريك ويري ـ أحد كبار الباحثين في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.

_____________

مواد ذات علاقة