أبو القاسم علي الربو

البازين طبق طعام ليبي تقليدي، ولا سيما في المنطقتين الغربية والوسطى، وتمتدّ شهرته إلى كثير من مناطق الجنوب التونسي، ويكاد لا يخلو بيت في هذه المناطق إلا والبازين بين أصناف الطعام التي يتم إعدادها فيها بانتظام.

وعادة ما يتم تناول هذه الوجبة في يوم الجمعة، يوم العطلة الرسمي في البلاد، لأنه من الوجبات الدسمة التي تحتاج راحة إجبارية لاستعادة التوازن بعدها، خصوصا إذا كان مغطّى بلحم الخروف الوطني، وهي الطريقة التي يقدّم بها في العادة.

كما أن هذا الطبق الشهير يتم تقديمه في الأفراح والمناسبات والحفلات، وتقديمه للضيف يعدّ من قبيل الاحتفاء والاهتمام به.

هذه المقدمة لمعرفة الصور التي تناولتها وسائل الإعلام المختلفة لمبعوث الأمم المتحدة في ليبيا عبد الله باتيلي وهو يفترش الأرض جالسا ويتناول البازين مع بعض الضباط في اجتماع القيادات العسكرية من المنطقتين الشرقية والغربية في طرابلس بإشراف البعثة الأممية.

وقد أظهرت الصور أجواء ودّية بين الفرقاء وهم يتناولون هذه الوجبة. وبيّنت حرص باتيلي على إظهار سعادته ورضاه من خلال الابتسامات التي ارتسمت على وجهه، وتعكس النجاح الذي حققه برعاية هذا اللقاء، وربما تبين أيضا إعجابه بالبازين وبطريقة أكله باليد، وهو أمر صعب، كما صعوبة مهمته التي كلفته بها الأمم المتحدة.

لقاء مهم عقد في طرابلس، وهي المرة الأولى التي يتم فيها مثل هذا الحدث داخل ليبيا بهذا المستوى من التمثيل، حيث ضمّ، للمرّة الأولى، أسماء كثيرة كان يُنظر إليها شخصيات جدلية من كل طرف، فسبق أن وصف المعسكر الشرقي، بقيادة خليفة حفتر، كثيرين من هذه الشخصيات بأنها مليشيات فرضت نفسها بقوة السلاح، وأنها استفزّت الحكومات المتعاقبة حتى أصبحت تمتلك قراراتٍ كثيرة، وازداد تغوّلها في كل فترة، من خلال الأموال التي تحصلت عليها، وارتبط كثير منها بعلاقات إقليمية، بل ودولية، إلى درجةٍ أصبحت دولة داخل دولة.

وعليه، كان يُنظر إلى أن الجلوس والتحاور معها يعني الاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها ولا تزال ترتكبها.

أما المعسكر الغربي في طرابلس، فكان، في المقابل، لا يبدي أي نية في لقاء الطرف الآخر، متعلّلا بأن تلك الشخصيات لا تمثل المنطقة الشرقية، بل تمثل حفتر وأبناءه الذين صادروا حقّ برقة في التعبير عن نفسها أو اختيار من يمثلها، وأن تلك الشخصيات تضع مصلحة حفتر وأبنائه فوق كل اعتبار.
ظلّ كل طرفٍ متمسّكا بموقفه سنوات، واقتصرت اللقاءات على لجنة 5 + 5 العسكرية، والتي لم تكن اجتماعاتها، هي الأخرى، سلسة في كل الأوقات.

ولطالما تعرّضت إلى ضغوطٍ كادت أن توقف عملها في أكثر من مرّة، بالإضافة إلى لقاءاتٍ أخرى جمعت رئيس الأركان محمد الحداد، ورئيس الأركان التابع لحفتر عبد الرزاق الناظوري.

وساهم تمسك هذه الأطراف في عرقلة محاولاتٍ كثيرةٍ لتقريب وجهات النظر، ولم يُكتب لمجهودات كل من سبق باتيلي النجاح، ربما لعدم وجود رغبة من المجتمع الدولي، أو النافذين فيه، لعقد مثل هذه اللقاءات، لأن ذلك قد يساعد على إذابة الثلج وتقريب وجهات النظر، وهو ما لا تسعى إليه دولٌ كثيرة، وخصوصا أن كثيرا منها تعتبر هذه الأوضاع نموذجية لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية، قد يحول قيام الدولة وتوحيد المؤسسات دون تحقيقها.

غير أن المتغيرات الدولية، والحرب الروسية الأوكرانية، وأزمة الغاز التي شهدتها أوروبا نتيجة هذه الحرب، وسعي روسيا الذي لم يعد سرّا إلى فرض وجودها في جنوب الساحل والصحراء، وجود يحتاج إلى إقامة قواعد عسكرية في ليبيا، تمهد له وتساعد على نجاحه، خصوصا في منطقة الجنوب الذي حرصت روسيا على الوجود فيها، بعدما استنجد بها حفتر في حربه على طرابلس، ناهيك عن وجود قوات فاغنر في كل من شرق البلاد ووسطها.

ألقت كل هذه المتغيرات وغيرها بظلالها على المشهد الليبي الذي أصبح مرتبطا وبصورة مباشرة مع هذه الأحداث، الأمر الذي جعل  ليبيا محلّ اهتمام متزايدٍ من الدول الكبرى، وخصوصا أميركا التي أدركت أن بقاء الوضع على ما هو عليه في ظل الانقسام والتشظّي، رغم استفادتها منه، سلاح ذو حدّين يمكن أن يوفّر المناخ المناسب لزيادة تغلغل روسيا في هذه المنطقة الاستراتيجية التي تحاول روسيا استعادة وجودها فيها.

وفي هذا الإطار، شهدت ليبيا، أخيرا، زياراتٍ ملحوظة من مسؤولين على مستويات عالية في الإدارة الأميركية، لعل أهمها زيارة مدير وكالة المخابرات المركزية وليامز بيرنز، وصفت بالنادرة، التقى فيها خليفة حفتر في شرق البلاد وعبد الحميد الدبيبة في غربها.

وعلى الرغم من محاولة كل طرفٍ من أطراف الأزمة في ليبيا توظيف هذه الزيارة لصالحه، إلا أنها لم تكن لدعم طرفٍ أو لإضعاف آخر، بقدر ما كانت رسالةً إلى جميع الأطراف بضرورة الوصول إلى حالٍ ينهي هذا الانقسام، والذي سبق أن أدّى، فيما أدّى إليه، إلى وجود قوات فاغنر في مناطق عدّة، الأمر الذي سبب قلقا أميركيا وأوروبيا، تصاعد بعد الحرب الروسية الأوكرانية.

وقد تلت زيارة مدير المخابرات زيارة أخرى لا تقلّ أهمية، أدّتها نائبة وزير الخارجية باربارا ليف.

وعلى المنوال نفسه، التقت حفتر في الشرق والدبيبة في الغرب، وكانت أكثر وضوحا، وقالت إن الولايات المتحدة تدعم جهود باتيلي لبناء توافق في الآراء يؤدّي الى انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل نهاية العام، مضيفة بوضوح أكبر أنه يجب وضروري احترام وقف إطلاق النار، بمغادرة جميع المقاتلين والقوات المرتزقة الأجانب ليبيا ومقاتلي فاغنر قبل كل شيء“.

في المقابل، لم تكتف روسيا بمشاهدة الأحداث، فوجّهت دعوة إلى مجلس النواب لزيارة روسيا، فالتقى وفد منه فيها مع الممثل الخاص لرئيس الاتحاد الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا، وناقش، حسب تقارير صادرة عن الطرفين، تطوير العلاقات الليبية الروسية.

كما سرّبت بعض التقارير انزعاج روسيا من تحكّم أميركا في المسألة الليبية عن طريق المبعوث الأممي باتيلي، وطالبت وفد مجلس النواب بالتمسّك بقيادة الأزمة من دون الخضوع للأوامر والإملاءات الأميركية التي تهدف إلى التفرّد المطلق بالشأن الليبي، بما يخدم مصالحها.

على كل حال، يبدو أن الأزمة الليبية ستشهد تطوراتٍ كثيرة في القريب، وستكون هناك أحداث كثيرة نتيجة تداخل مصالح أطراف الصراع، وحرص معظم الأطراف المؤثّرة على المشاركة والمساهمة في الوصول إلى حالة من الاستقرار تخدم مصالحها.

التقارب المتزايد في الآراء بين قيادات الشرق والغرب، واجتماع القيادات العسكرية أخيرا في طرابلس، والاتفاق على عقد الاجتماع الثاني في بنغازي، واتفاق مجلسي الدولة والنواب على القاعدة الدستورية، يمكن أن يؤدّي إلى إجراء انتخاباتٍ انتظرها الليبيون، باعتبارها المخرج الآمن للأزمة السياسية الليبية.

فهل سيكون لوجبة البازين التي تناولتها الأطراف المتنازعة تحت إشراف المبعوث الأممي تأثيرها في تفاهم فرقاء فرّقتهم السياسة والمصالح الضيقة؟ 

_____________

مواد ذات علاقة