منصف السليمي

يبدو أن ما تكشّف حتى الآن عن الأدوار الحسّاسة التي تقوم بها مجموعة فاغنر الروسية في الصراع بالسودان، ليس سوى قمة جبل الجليد. فما تقوم به هذه المجموعة شبه العسكرية كرأس حربة للكرملين في رقعة شطرنج أفريقية شاسعة خطير جدا.

يبدو أن المعلومات التي تكشف عنها وثائق مسربة للمخابرات الأمريكية وتحقيقات لصحف عالمية وهيئات ومعاهد متخصصة في الأزمات والصراعات، تُظهر أبعادا أخرى لمجموعة فاغنر الروسية التي يتزعمها الأوليغارشي يفغيني بريغوجين، المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين، تتجاوز بكثير في خطورتها وتأثيرها ما كان يتردد عن دورها العسكري المباشر في أوكرانيا وسوريا وليبيا أو غير المباشر عبر عمليات خاصة ومحدودة في دول أفريقية.

وفيما تُسلط الأضواء على دور فاغنر في الصراع المسلح الدائر حاليا في السودان، تتكشف المزيد من المعلومات عن أدوارها الحسّاسة في القارة الأفريقية.

ورغم أن تقارير عديدة نشرت في كبريات وسائل الإعلام أمريكية وبريطانية وألمانية، ركزت على عمليات دعم يقدمها مرتزقة فاغنر لقوات الدعم السريعبقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، انطلاقا من قواعد عسكرية بليبيا (قاعدتي الخروبة شرقا والجفرة جنوبا) تحت سيطرة خليفة حفتر، تم رصدها عبر أقمار اصطناعية، تظهر عمليات نقل جوي ودعم لقوات الدعم السريعبعتاد عسكري وصواريخ وتدريبات وربما نقل مقاتلين مرتزقة من الجنجويد شاركوا سنة 2019 مع قوات حفتر في الهجوم على العاصمة طرابلس، نفت قوات حفتر انحيازها لأي طرف في الصراع المسلح الدائر بالسودان.

وفي تصريحات له في نيويورك حاول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف التقليل من أدوار فاغنر وقال إن السودان يمكنه أن يستفيد من خدماتها التي قارنها بشركات أمن أمريكية وأوروبية

إلا أن نظرة فاحصة في الأدوار المتعددة التي تقوم بها المجموعة شبه العسكرية الروسية، تكشف أن شبكة عملياتها ونطاقها تكتسي تعقيدا أكبر في عشرة دول أفريقية على الأقل، ضمنها السودان، حيث تتمتع بمواقع تأثير حسّاسة مثلا في مراقبة مناجم الذهب أو في علاقاتها مع الجبهة المقابلة في الصراع التي يقودها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان.

قطعة محورية في استراتيجية موسكو ضد الغرب

ترسم وثيقة الاستراتيجية الجديدة التي أعلنت عنها روسيا مؤخرا، ملامح عقيدة جديدة في السياسة الخارجية قوامها تصنيف الغرب على أنه تهديد وجوديلروسيا. وتكشف الوثيقة بأن الصراع في أوكرانيا ليس سوى جبهة من جبهات مواجهة واسعة النطاق بين روسيا والغرب.

وتكشف الوثيقة التي تقع في أكثر من 40 صفحة، بأن الحرب الهجينةتحل محل الحرب الباردة، في استراتيجية روسيا التي تقدم نفسها حصناللعالم الناطق بالروسية، في مواجهة هيمنة الغربومحاولاته تفكيك روسيا الاتحادية“.

ويرصد خبراء بأن مجموعة فاغنر وفرق مرتبطة بها بشكل أو بآخر مثل مجموعة وايت باور رينجر سكواد“WPRS وروسيتش، تلعب كشبكة شبه عسكرية دورا محوريا في الجبهات المفتوحة بين روسيا والغرب بدءا من أوكرانيا، ومرورا بسوريا، ووصولا إلى القارة الأفريقية التي تشكل المسرح الأوسع فيما يبدو لهذه المواجهة.

وتفيد مصادر غربية بأن قوام قوات فاغنر في أوكرانيا يقدر بحوالي أربعين ألف عنصر، وفي ليبيا بألفين وخمسمائة عنصر. وقد تكون موسكو سحبت منهم النصف ليلتحقوا بجبهات القتال في أوكرانيا، وضمن الوحدات المتبقية في ليبيا مرتزقة أفارقة.

وتوفر موسكو لمجموعة فاغنر موارد وإمكانيات هائلة من أجل اضطلاعها بمهمات حسّاسة في جبهات وحروب روسيا. ولئن انطلقت المجموعة كفرق مرتزقة تعمل في الظل مع المخابرات الروسية، فهي تتحول تدريجيا إلى قوة معترف بها داخل القوات الروسية. وقد اعترف مؤسسها مؤخرا بأنه أنشأ المجموعة سنة 2014 لحماية المصالح الروسية في دونباس شرق أوكرانيا.

ففضلا عن الارتباط الوثيق بين قيادة فاغنر بالكرملين والرئيس بوتين شخصيا، يتم رصد موارد مالية وتسليح متطور لمقاتلي المجموعة الذين يلعبون أدوار رأس الحربة في جبهات القتال، كما حدث ويحدث في أوكرانيا وسوريا منذ سنة 2014. إضافة إلى أدوار خلفية في الاختراقات الأمنية والعمليات الخاصة مثلا في بلدان أفريقية.

ويعتقد محللون أوروبيون بأنأخطاء فادحة في سياسة العواصم الغربية المؤثرة في السودان ومحيطها الأفريقي، ساهمت في توفير أرضية ملائمة لتزايد النفوذ الروسي على القوى المؤثرة في الصراع، مثل قائد قواتالدعم السريعالذي يعتمد في نفس الوقت على دعم مزدوج من الإمارات العربية المتحدة حليف الغرب وإسرائيل، وعلى دعم مرتزقة فاغنر.

إذ تلعب موسكو لعبة مزدوجة من خلال علاقاتها الوثيقة مع طرفي الصراع المسلح في السودان. وشهدت تلك العلاقات انطلاقتها في عهد الرئيس السابق الجنرال عمر حسن البشير وتعمقت مع القيادة العسكرية الحالية وعلى رأسها الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي يحظى في نفس الوقت بدعم السعودية ومصر حليفي الغرب الأساسيين في الشرق الأوسط.

ويرى يوهانس ديتريتش الكاتب الصحفي الألماني بأن أخطاء الديبلوماسية الغربية تبرز في مظاهر فشل المبعوث الأممي فولكر بيرتس، الرئيس السابق للمعهد الألمانية للسياسة الدولية والأمن، في مهمته بإدارة مفاوضات الأطراف السودانية حول عملية الانتقال السياسي.

ويستنتج دويتريتش الخبير في الشؤون الأفريقية، في مقال بعنوان الغرب يتودد إلى الأطراف الخطأنشر بصحيفة فرانكفورتر روند شاوالألمانية في عددها ليوم 21 أبريل/ نيسان الجاري، كيف آلت تلك المفاوضات إلى التفاف الجنرالات على القوى المدنية وانقسام هذه الأخيرة، وتبخرت الأحلام باحتفال العاصمة التي يلتقي حولها النيل الأبيض مع الأزرق، بقيام الديمقراطية.

وقبل السودان، شكلت ليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، حقلا خصبا لاختراقات روسية عبر قوات فاغنر، حيث استغلت موسكو أخطاء السياسة الفرنسية خصوصا والأوروبية عموما في تلك البلدان، وما تزال تواصل ضغطها على الأوروبيين والأمريكيين.

 أهداف في مرمى فاغنر بالقارة السمراء

وإلى وقت قريب كانت معظم التحقيقات والمعلومات عن عمليات عناصر فاغنر تتعلق بأدوار عسكرية أو أمنية محدودة لتحقيق أهداف روسية في أزمات أو حروب، حتى بدأت تتكشّف أبعاد أكثر خطورة في الأدوار والمهمات التي تضطلع بها هذه المنظمة شبه العسكرية، في القارة الأفريقية.

عمليات خاصة ودعم انقلابات عسكرية

تسير وتيرة التطور في العلاقات الأمنية والعسكرية والاقتصادية الروسية مع الدول الأفريقية بشكل متداخل ومتفاوت أحيانا. ويشكل تمركز عناصر فاغنر في مناطق الأزمات خاصية ملحوظة، وذلك استجابة لطبيعة الأدوار والمهمات المطلوبة من هذه المجموعة ضمن استراتيجية موسكو.

ففي ليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى ينفذ مرتزقة الفاغنر عمليات أمنية وعسكرية محددة لدعم أطراف معينة في الصراعات بتلك الدول. وتتوسع أدوار فاغنر بحسب تطور الصراع.

إذ يرى محللون بأن موجة الانقلابات العسكرية في غرب أفريقيا، بمالي وبوركينا فاسو، ومحاولات فاشلة في غينيا بيساو، تتم بدعم روسي، وتقدم قوات فاغنر أذرع مساعدة لها.

يتبع

***

منصف السليمي، صحفي خبير بالشؤون المغاربية في مؤسسة DWالألمانية

___________

مواد ذات علاقة