أرنست خوري

مجموعة من الأكاذيب تحاصر الحرب السودانية الحالية. بعضها يتم ترديدها عن جهل وبعضها الآخر ترغب قوى سودانية وأخرى إقليمية ودولية في تكريسها حقائق جديدة.

الأكذوبة الكبرى أنّها حرب داخل الجيش الذي يُراد له أن يتألف من الجيش النظامي وقوات الدعم السريع التي يندر العثور على من يسمّيها باسمها الحقيقي، مليشيا.

تحاول بلدان عربية عديدة، فضلاً عن روسيا، ترسيخ فكرة أن الحرب تجري داخل البيت الواحد، وبالتالي، فإنّها لا بد أن تنتهي باتفاق بين جناحي هذا الجيش وقائديه، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) على أساس تقاسم جديد للنفوذ جغرافياً واقتصادياً وسياسياً، بشكل يرسّخ أن للبلد جيشين نظاميين برأسين.

وهو ما يضيف عموداً إلى عمارة حالة الاستثناء الرائجة في بلدان عربية عديدة منذ سنوات، مشرقية (العراق وسورية ولبنان) وشمال أفريقية انطلاقاً من السودان الذي تجاوره ليبيا التي لم تعرف جيشاً حقيقياً طوال حكم معمّر القذافي، بل كانت مليشيا كبيرة تابعة للديكتاتور.

انفجرت المليشيا الكبيرة منذ 2011 فأنجبت مجموعة هائلة من المليشيات الصغيرة، عدد كبير منها مدعوم من الأطراف نفسها التي تسند الدعم السريعاليوم، أكانت روسيا ومرتزقتها فاغنرأو بلدان عربية أبرزها الإمارات.

لا أهمية كبيرة لما يقوله الدستور والقانون عن المليشيات العربية الموازية للجيوش مقارنة مع الواقع المعاش، أكان في السودان مع الدعم السريعأو في العراق مع الحشد الشعبي“. كلاهما في القانون والدستور تابع للجيش وللقائد الأعلى للقوات المسلحة.

لكن كلاً منهما في الحقيقة مستقل عن الجيش وعن القائد الأعلى، وأقوى في حرب العصابات من المؤسّسة الرسمية التي يفترض أن تحتكر العنف الشرعي في أي بلد يستحق أن يحمل اسم دولة.

قوات الدعم السريع أكبر بعام واحد من الحشد الشعبي العراقي.

الأولى حوّلها عمر البشير بكبسة زر، كالسحر، في أغسطس/ آب 2013 من مليشيا الجنجويد التي ارتكبت أفظع الجرائم في حرب دارفور، إلى فصيل تابع للمخابرات العامة والأمن الوطني باسم رشيق محترم هو قوات الدعم السريع، وذلك حين بدأ الرجل محاولاته تلميع صورته وصورة نظامه أمام الغرب.

وبسرعة البرق، صارت هذه المليشيا تنافس الجيش في قوته أو تتفوّق عليه حتى، بدعم من بلدان خليجية كانت تريد بقاء عمر البشير، لكنها في الوقت نفسه تعتبر أن جيشه النظامي إسلامي أكثر من اللازم“.

وسريعاً جداً، صارت لـالدعم السريعإمبراطوريات اقتصادية ليست مناجم الذهب إلا أحد قطاعاتها، وصارت لها علاقات خارجية مستقلة وصار زعيمها حميدتي في 2019 نائباً لرئيس مجلس السيادة، قائد الجيش البرهان، وهو ما رسّخ وضعيته المستقلة في مؤسّسات السلطة كأقوى الحكّام أو كثاني أقواهم.

الاقتتال بين الجيش النظامي ومليشيا الدعم السريع في السودان اليوم مرشح لأن يتكرر في بلدان عربية عديدة. ربما يكون اليوم السودان وغداً العراق“.

هناك، الوضع فادح لناحية حجم الإهانة الموجّهة يومياً للجيش الوطني من مليشيا دينية (الحشد الشعبي) تتبع في ولائها لبلد أجنبي هو إيران منذ صيف 2014.

هل يضمن أحدهم أن يظلّ الجيش العراقي وضباطه صامتين عن تقاسم مهمة العنف الشرعي مع مليشيا لا يمتلك أفرادها العقيدة الوطنية العراقية، ولا هم خرّيجو الكليات العسكرية، وتقتصر علاقتهم بالدولة العراقية على تلقي الرواتب منها؟

يعاني الجيش السوداني من كل أمراض الجيوش العربية، لكنه يبقى الجيش النظامي الذي كان ولا يزال وسيبقى موجوداً، ببساطة، لأن ما من بلد تمكّن من ابتكار طريقة للبقاء من دون جيش وطني نظامي.

الجيش السيئ يمكن إصلاحه، يمكن يوماً ما تحييده عن السياسة وإخضاعه للسلطة السياسية في نظام ديمقراطي.

أما المليشيا، فستبقى مليشيا إلى يوم القيامة ولو تغير اسمها عشرات المرّات، ولو صار زعماؤها يُستقبلون كالرؤساء ويرتدون ربطات العنق.

***

أرنست خوري ـ مدير تحرير العربي الجديد

___________

مواد ذات علاقة