د. إسماعيل علي الشريف

لا خيرَ في خيرٍ ترى الشرّ دونه .. (طرفه بن العبد)

***

الانتخابات وسيلة فاعلة ومجربة لانتقال سلمي للسلطة، وعملية فاصلة لإدارة الصراع (إيجابياً) حول الحُكم والقيادة، ويرتبط بشكل أساسي نجاح إجراء الانتخابات على ثلاث عوامل:

ـ المنظومة الدستورية والقانونية الناظمة للدولة

ـ ورصيد القيم الإنسانية والأخلاقية المجتمعية

ـ منسوب الوعي الحضاري الحقيقي للنخبة

فكرة الانتخابات تقوم على التجديد (سلمياً) لأركان السلطة ضمن إطار زمني متفق عليه محلياً، هي عملية مؤسسية تفاعلية تقوم على مدخلات واضحة المعالم القانونية والإجرائية، تحت إشراف كيان إداري وطني متخصص ومستقل، وتنتهي بمخرجات كمية مقاسة ومقبولة لجميع الأطراف تؤسس للاستقرار السياسي وتطور الأمة، هذه هي ببساطة الخريطة البنيوية للاستحقاق الانتخابي.

الدول التي سبقتنا بعقود زمنية في بلوغ الاستقرار السياسي ومضمار التقدم المعرفي ونتائجه تعتمد الانتخابات كأداة حاسمة لإدارة الانتقال الديمقراطي والتحولات السياسية، لأنها تمثل صيغة لعقد اجتماعي ورؤية توافقية لتداول المسئولية أكثر من كونها فوز بالسلطة.

والانتخابات هي ضامن لاستدامة حالة السلم الأهلي وإن شابها بعض الشروخات والخروقات كنتيجة طبيعية للتنافس والصراع الإنساني المتأصل والغريزي.

تبين الشواهد والتجارب الانتخابية الدولية (العريقة) أن مجتمعاتها تخطت مراحل التصادم واللجوء للعنف والاحتكام للقوة عند تلقي نتائج العملية الانتخابية على أي مستوى بلدي أو برلماني أو رئاسي، لأن الانتخابات وسيلة لبلوغ غاية التداول السلمي على السلطة وضمان السلم الأهلي والوحدة الوطنية، وعليه أصبح تنظيم الانتخابات (ذات الوثوقية) العالية هو الوصفة الناجعة لضمان الثقة المجتمعية في الدولة، وإجراء أوتوماتيكي مبني على قاعدة دستورية وإعلام وقوانين محددة وإجراءات تنظيمية نمطية مُحكمة.

في فضائنا العربي والأفريقي حيث الدول والمجتمعات المتأخرة في ركب مفهوم التداول على السلطة عبر الآلية الانتخابية يكون المخاض الانتخابي عسيراً وطويلاً ومؤلماً.

هناك ثلاث دروس رئيسية من المنطقة تبين طبيعة التعاطي العبثي والهزلي أحياناً مع فكرة وآلية الانتخابات:

ـ إما أن يتم التلاعب في الاستحقاق الانتخابي وتُكيّف الانتخابات الرئاسية وتُفصل لنتائج معدة مسبقاً بنسب فوز مئوية تسعينية، كحالة البشير في السودان (1985 – 2019)، وبن علي في تونس (1987 – 2011)، ومبارك مصر (1981 -2011)، وإن كان الراحل صدام حسين (الأصدق) فيهم جميعاً حينما فاز بنسبة 100% كرئيس منتخب للعراق عام 2002!.

ـ أو أن تتحول الانتخابات لمشكلة بدلاً من الحل، وشراً بدلاً من دافعٍ للشر، وإشارة للاحتراب عوضاً عن التوافق والجنوح للسلم، فقبل نحو ثلاثين سنة في عام (1992) دخلت جارتنا الغربية بلد (المليون شهيد) في عشرية سوداء من الحرب الأهلية جراء تنظيم انتخابات برلمانية لم ترض السلطة حينها بنتائجها.

ـ أما ثالث الدروس فهو إزاحة تنظيم الانتخابات إلى مستوى أدنى من رأس هرم السلطة (كالنموذج المغربي والكويتي) تحت غطاء أنظمة حكم سياسية (أبوية) على صورة مملكة أو إمارة أو سلطنة ونحوها.

القاسم المشترك بين هذه الدروس (الانتخابية) الثلاث هو جذور الاحتكام للعناد وعدم قبول الآخر عبر الانتخاب وبالتالي تبقى الانتخابات في أغلب منطقتنا الموبؤة بالتخلف موقداً للانفجار، مجرد ديكور يخفي وراءه النزعة الأنانية والديكتاتورية.

ومن المؤكد أن تجذّر فكرة ومفهوم وآلية الانتخاب كطريق آمن نحو تداول السلطة في العقل الجمعي والنخبوي لمنطقتنا سيستغرق عقوداً من الزمن.

في ليبيا..

القصة الأكثر دراما في المنطقة في مسار التحول الديمقراطي، حيث وفرة في الإمكانات والفرص للنهوض من جهة، ويقابله حالة (شرسة) من التصحر السياسي والاستعداد النخبوي (الفطري) للانزلاق لممارسة العنف من جهة أخرى.

أمضت النخبة السياسية المهيمنة على المشهد داخل مؤسسات البرلمان ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي والحكومة نحو عشر سنوات تدور في حلقة مفرغة من أجل إنتاج سلطة سياسية توافقية جديدة ناجمة من شرعية انتخابية.

كل ما حدث ويجري على المشهد السياسي من تسويف وإطالة ومبررات لتعطيل إجراء الانتخابات الوطنية سببه العناد اللامحدود وغياب الثقة وعدم الانصياع لفلسفة الاستحقاق الانتخابي المبنية على التداول عبر قبول واحترام نتائج اختيار الناخبين.

مؤكد أن إجراء انتخابات وطنية ضمن الإعدادات الدستورية المطروحة والسياق المتوتر والأجواء السياسية الملوثة.. سيفضي لصراع محتوم.. فهل من الضرورة السير في هذا الاتجاه الملغوم؟”.

هب أن المشير خليفة حفتر فاز بانتخابات رئاسية (موثوقة) أجريت على أساس قاعدة دستورية تقوم على تصفير شروط الترشح، هل سيقبل بالنتائج تحت أي ظرف المتمترسون خلف جدران العناد والثأرية، والمتزينون بوهم شعارات الدولة المدنية (الديمقراطية) في معسكر غرب ليبيا؟

والعكس من ناحية أخرى إذا ما خسر المشير، هل ستطمأن المؤسسة العسكرية للنتائج وتقبل برئيس آخر؟.

تنهال أسئلة كالسهام تحفزها هذه الفرضية:

ماذا سيكون القادم؟

من سيسلم لمن؟

وما الذي سيتم تسليمه؟

وأين ستجري مراسم الاحتفال بتنصيب الرئيس؟ في طرابلس أم بنغازي؟

ومن سيؤمن إجراءات انتقال السلطة؟

وكيف سيتصرف المنافسون الخاسرين لمنصب الرئاسة؟.

كل المؤشرات والمعطيات التي تدير العملية السياسية المأزومة لا تدل على إمكانية تنظيم انتخابات صحيحة في المستقبل المنظور، تتمحور الأسباب العميقة لوأد الاستحقاق الانتخابي حول أربعة قضايا رئيسية:

ـ أولها، ضعف البعثة الأممية للدعم في ليبيا أمام تعقد الأزمة السياسية وافتقارها لشخصية وفريق متمكن من توحيد وتوجيه الجهود الوطنية في هذا المسار.

ـ ثانيها، حالة التوافق الدولي والإقليمي (النادرة) ولأسباب جيوسياسية وأمنية ونفعية مختلفة للأطراف المتدخلة في القضية الليبية على أن تبقى الأزمة السياسية الليبية في حالة المراوحة وذر الرماد في العيون بالدعوة (نفاقاً) لإجراء الانتخابات.

ـ والثالثة، المصلحة المشتركة للمؤسسات السياسية الرسمية الأربع (البرلمان، مجلس الدولة، المجلس الرئاسي، حكومة الوحدة الوطنية) في بقاء الوضع على حاله لكسب المزيد من الوقت والمنافع والمزايا.

ـ أما الرابعة والأخيرة تنامي كتلة شبكات المصالح المالية والعسكرية التي تغلغلت في مفاصل الدولة واحتضنت المركز (العاصمة) كسلطة أمر واقع وصارت مسألة تفكيكها بعيد المنال.

ما هذه المتاهة المُحكمة التي وقعت فيها ليبيا؟

الكل يجري داخلها ولا مخرج منها، من المهندس (الخُرافي) المصمم لها؟

  • اثنا عشر عاماً مرحلة انتقالية،

  • وثلاثة عشر تعديلاً دستورياً،

  • ومسودة دستور طوت سنواتها الست دون استفتاء،

  • وسبعة حكومات مؤقتة وانتقالية،

  • وسجل حافل بالصدامات والمعارك الإدارية والقضائية والصراعات المسلحة والحروب،

  • لقاءات واجتماعات خارجية لا حصر لها،

  • لجان وقوانين انتخابية وحالة تزاوج بالإكراه بين مجلسي النواب والدولة،

  • وضجيج شروط الترشح للرئاسة وأسطوانة مزدوجو الجنسية والعسكريين والخلو من سوابق (الجنائية الدولية)،

  • وآخر فصول المسرحية المناكفات بين لجنة الستتين ومفوضية الانتخابات ومجلس النواب والأحزاب الداعمة والأخرى التائهة.

والمحصلة مشهد سياسي مأزوم متعاقد على إخراجه سفراء الدول الغربية المتدخلة في الملف حيث الكل يبدي (ظاهرياً) اهتماهه بإجراء الانتخابات، والواقع غير ذلك.

بهذه المعطيات نحن أمام سيناريوهين سيئين:

ـ إما انتخابات وطنية (مضغوطة) ستفضي نتائجها التي سيرفضها أحد الطرفين لحرب (مكتملة التجهيزات) ولنا في تجربة فجر ليبيا 2014 عبرة.

ـ أو اللهث وراء (سراب) إجراء انتخابات وفق السياق المطروح واستنزاف الموارد السيادية للدولة واستسلام الأمة الليبية لمصيرها المجهول والقاتم.

ليبيا لازالت تتخبل في شِباك المرحلة الانتقالية، المراحل الانتقالية والمؤقتة ذات طبيعة استثنائية والمعالجات الدستورية والمؤسساتية خلالها نسبية وغير نمطية، هناك حاجة ملحة للنخبة الوطنية الواعية للتفكير بشكل مختلف، أن يخرج مقترح بإجراء انتخابات (ذكية) ليبية للخروج من المتاهة، نحتاج إلى حلول تدريجية لتحريك حالة الانسداد السياسي وتفكيك المشهد.

أثبتت التجربة السياسية الليبية أن الحلول المثالية والمتكاملة والشاملة غير ممكنة التطبيق، دعونا نبتكر مقترحات نسبية.

ماذا لو تقرر(؟)

ـ أن تُفصل حزمة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

ـ أو أن ينتخب كل إقليم (تاريخي) ممثليه في مجلس رئاسي (منتخب) تناوبي الرئاسة.

ـ أو أن ينتخب مجلس شيوخ يقوم بتسمية رئيس مؤقت للبلد.

ـ أو أن تسمي كل دائرة انتخابية مرشحاً ويختار الثلاثة عشر مرشحاً، رئيساً مؤقتاً بينهم.

أما انتظار الأمريكان والنخبة السياسية المحلية المتآكلة ومهاترات البعثة الهزيلة (سياسياً) فلا طائل من وراءها، وسيظل الجميع حبيسي هذه المتاهة اللعينة.

***

د. إسماعيل علي الشريف ـ باحث سابق بجامعة يورك البريطانية، مستشار سابق بالمجلس الرئاسي لشؤون التنمية وسياسي مستقل.

__________

مواد ذات علاقة