محمد أبوالفضل

حسابات القوى الداخلية والخارجية تمنع وصول التفاهمات إلى أهدافها. والانتخابات مطلب شعبي تعرقله الأجندات السياسية.

كثرة المتدخلين وتناقض الأجندات محليا وخارجيا يجعل من الصعوبة بمكان على الليبيين التوصل إلى حل. وعلى العكس، فإن مختلف القوى تسعى لمنع الوصول إلى تسوية شاملة لأن هذه التسوية يمكن أن تقوض حسابات الكثيرين. ولأجل ذلك يعمل كل طرف من ناحيته على عرقلة التقدم نحو هذه التسوية.

حظيت الأزمة الليبية بزخم سياسي كبير من الداخل والخارج خلال الأيام الماضية، وبدت الكثير من تعقيداتها الدستورية على وشك تفكيكها، والانتخابات يمكن أن تُجرى قبل نهاية العام الحالي. فجأة عادت غالبية الأطراف المنخرطة في الأزمة والمهتمة بها إلى مناوشات تؤكد أن التسوية السياسية الشاملة بعيدة، والوصول إلى محطة الانتخابات سوف تظل عملية مستعصية أو خطا أحمر يصعب تجاوزه.

تريد الكثير من القوى المعنية بالأزمة الليبية بقاء الأوضاع على ما هي عليه إذا لم يحقق كل منها الهدف الذي يسعى إليه، ولأن عددا كبيرا من الأهداف متعارض ويصعب التوفيق بين أصحابها، كان عدم التسوية خيارا في حد ذاته، يضمن عدم قيام طرف أو أكثر بقطف الثمار وتكبيد آخرين خسائر أو حرمانهم من مكاسب.

يلخص هذه الفحوى الكثير من الملامح التي تمر بها الأزمة الليبية وحسابات اللاعبين الرئيسيين فيها، ويفسر لماذا كلما اقتربت التسوية من طرق أبوابها ابتعدت، ولماذا يتناغم البعض من الأطراف معا ثم ينقلبون ويتحول التوافق إلى خصام، فالمصالح التي تحكم القوى الفاعلة تنطلق من قاعدة عدم النجاح في الوصول إلى الأهداف يحتم حرمان الآخرين منها، وهي قاعدة أشبه بالمعادلة الصفرية الشهيرة، لكنها في ليبيا أشد صعوبة لوجود أكثر من طرفين، كل واحد منها يحمّل الآخر مسؤولية امتداد الأزمة.

ترى أطراف محلية أن جوهر الأزمة يقع على عاتق المجتمع الدولي الذي لا يقوم بمهامه كاملة حيال التسوية، إذ تتولى قوى كبرى تغذية الأزمة والعمل على استمرارها، ووسط كمّ التناقضات من الطبيعي أن تتواصل الحلقات السلبية وتتراجع الإيجابية، فقد باتت ليبيا جزءا من التفاعلات الدولية بين قوى كبرى تتصارع للسيطرة على أماكن متباينة وسعت لتشكيل أذرع وأنياب داخل دول عدة، من بينها ليبيا.

من الصعب إقناع السياسيين الليبيين بالموافقة على الانتخابات .. المستوى الهائل من عدم الثقة يحول دون التوافق حولها

بينما ترى أطراف خارجية أن الخلافات المتجذرة بين النخبة الليبية سبب أساسي في عدم تمكنها من وقف الأزمة وفرملة تداعياتها، حيث يتنافس السياسيون للحصول على المزيد من المكاسب، وتتصارع الميليشيات والحركات المسلحة جريا وراء تمتين حضورها في المشهد الليبي في المستقبل، وخوفا من فقدان المزايا الراهنة تعمل قوى عديدة على وقف التسوية ووضع المطبات في طريق الانتخابات.

قال المبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا وسفير الولايات المتحدة في طرابلس ريتشارد نورلاند، الجمعة، إنه “من الصعب إقناع السياسيين الليبيين بالموافقة على الانتخابات”، مؤكدا أن المستوى الهائل من عدم الثقة بين السياسيين يحول دون التوافق حولها.

خرج نورلاند بهذه النتيجة بعد أسبوعين من لقاءات أجراها مع مسؤولين في طرابلس حول مخرجات لجنة 6+6 وحشد الدعم للعملية الانتخابية والسياسية، ما يشي بأن التسوية أمر بعيد المنال، وتحتاج إلى جهود كبيرة من القوى الداخلية والخارجية لوضع حدة للملهاة أو السيرك السياسي الذي تستمتع بعض الأطراف بعروضه المتنوعة، وكلما توقف أحدها جرى تأليف آخر، ومن المهم أن يستمر الدوران في الحلقات المفرغة التي تجعل ليبيا أسيرة لخلافات وتجاذبات وتراشقات وحسابات معقدة.

من يسترجع أحداث الفترة الماضية بشأن الأداء العام للجنتي 6+ 6 العسكرية والخاصة بالانتخابات وما بينهما من تطورات متسارعة أوحت بأن التفاهمات قريبة يشعر أن هناك مايسترو غير ظاهر يعزف لحنا نشازا يحوي موسيقى صاخبة هدفها التشويش على المحاولات الرامية لوضع الحصان أمام العجلة، وكلما بدت الأمور في طريقها لضبط توازناتها تعمد المايسترو خلط الأوراق والعودة إلى نقطة البداية.

المشكلة أنه لا يوجد مايسترو واحد يعزف اللحن، فهناك أشخاص عديدون يعتقدون أن مصلحتهم تكمن في قطع الطريق على التسوية الشاملة التي تؤدي إلى إجراء انتخابات تفرز سلطة جديدة من المرجح أن تتخلص من كل أو جزء معتبر ممن شاركوا في المرحلة الانتقالية الممتدة واستفادوا منها.

يعمل هؤلاء بكل جد في هذا المسار، ووضعوا خطا أحمر ضمنيا بلا اتفاق مباشر بينهم، لأنهم يدركون أن المرحلة التالية للانتخابات تجبّ ما قبلها، وقد تجرف معها كل من أسهموا في استمرار اشتعال الأزمة، وهؤلاء ليسوا أفرادا أو جماعات ليبية فقط، بل هناك قوى إقليمية ودولية تشارك في المهمة بأساليبها وأدواتها التي تمكّنها من الحفاظ على المشهد الراهن بكل تعقيداته وتركيباته المشوهة.

لا يعني ذلك التسليم بالأوضاع الحالية والقبول بها والتعامل معها كقدر سماوي، بل السعي نحو كسر حلقاتها الصلبة والسعي نحو تشكيل نواة جديدة تجبر الطبقة السياسية الحاكمة والقريبة منها على تغيير سلوكها، وتفرض على المجتمع الدولي التعامل بالمزيد من الجدية مع الأزمة، إذ أصبحت هناك قوى كبرى ترى أن الحالة التي وصلت إليها من الغليان المنضبط جيدة بالنسبة إليها، ويجب الحفاظ عليها إذا لم تتمكن من حسم الموقف لصالح قيادة تساعدها في الحفاظ على مصالحها.

على القوى الوطنية الليبية المشاركة في اللعبة بدرجات متفاوتة والعمل حثيثا على منع انهيار ما تحقق في الفترة الماضية من توافق بين مجلسي النواب والأعلى للدولة بشأن الانتخابات، والتخلّي عن التحالفات المتغيرة الهادفة للدفاع عن المصالح الشخصية والسياسية والاجتماعية، فالمرحلة التي وصلت إليها الأزمة مفتوحة على احتمالي المزيد من الفوضى أو الاستقرار.

يتطلب الأول صب زيت إضافي فقط على النار لتزداد اشتعالا، فكل الظروف مهيأة لهذا الاحتمال، من ميليشيات وجماعات مسلحة ومرتزقة وقيادات سياسية لن تتورع عن ارتكاب حماقات في سبيل الدفاع عن مصالحها، وأطراف خارجية مستعدة لتقديم الدعم لمن تعتقد أنه يمكن أن ينتصر ويدافع عن أهدافها الخفية، وعدم قدرة المجتمع الدولي على معاقبة من تسببوا في وأد المبادرات الإيجابية.

يتطلب الاحتمال الثاني (الاستقرار) تضحيات كبيرة وتنازلات نوعية تتجاوز حدود التفاهمات التقليدية التي لم تتمكن من وضع حد للمأساة، لأنها تنطلق دوما من تقديرات ضيقة لا تراعي مصلحة الدولة، فكان من السهل نقضها وعدم صمودها أمام رياح عاتية جاءتها من اتجاهات مختلفة، حالت دون تطبيق ما جرى التوصل إليه من اتفاقات، فلا يوجد اتفاق قاوم ونجح في مقاومته، لأن القائمين عليه استسلموا بسهولة.

يمكن كسر الجمود الذي يعتري التسوية السياسية وحوّلها إلى ما يشبه الخطر الأحمر من خلال التضحية بما هو قريب لما هو بعيد، لأن ما بين اللاسلم واللاحرب شعرة يمكن أن تنقطع في أيّ لحظة، وقد يكون من الصعوبة الحفاظ عليها فترة طويلة، ولأن العودة إلى الحرب هي السيناريو الأقرب يمكن أن تنزلق البلاد إليها بصورة أشد قسوة مما كانت عليها قبل تثبيت وقف إطلاق النار منذ نحو ثلاثة أعوام.

ولعل عودة الطيران المجهول لقصف بعض المناطق في الشرق الليبي رسالة بأن الانجرار وراء التصعيد أصبح قاب قوسين أو أدني، فهناك حزمة كبيرة من المقومات تساعد على الدخول فيه، ويومها لن يعود الحديث عن التسوية مجديا.

***

محمد أبوالفضل ـ كاتب مصري

_________________

مواد ذات علاقة