ماجد كيالي

بدت ثورات «الربيع العربي» في بداياتها مبشرة بغد أفضل للمجتمعات العربية، بخاصة أنها تمخضت في فترة قصيرة جداً، وبأكلاف بشرية ومادية قليلة، عن انهيار سلطتي بن علي في تونس ومبارك في مصر.

وفي حينه كانت الثورات العربية التي شملت بلداناً عدة بمثابة حدث مدهش، وغير مسبوق، في تاريخ مجتمعات هذه المنطقة التي عاشت في ركود، وفي حالة إخضاع سياسي، منذ مئات السنين، إذ استطاعت تلك الثورات، مع كل مشكلاتها وثغراتها، إحداث متغيّرين اثنين لا بد منهما للدخول في السياسة:

الأول كشف طبيعة السلطات، والتجرؤ عليها.

والثاني صعود الشعب إلى مسرح التاريخ كفاعل، وكسيّد على مصيره، بعد قرون من التهميش والحرمان من الحقوق والحريات.

المشكلة أن الآمال، أو اليقينيّات التي انبنت على سرعة سقوط بن علي ومبارك، وسهولتها في شأن تحقيق ثورات نموذجية، أي نظيفة وقليلة التكاليف وكاملة الإنجاز، سرعان ما تبدّدت وتكشفت عن توهّمات، إذ بات الواقع أكثر تعقيداً مما يبدو، سواء بسبب طريقة إسقاط نظام القذافي وكلفته وتداعياته، أم بسبب مآلات الثورة اليمنية، وتالياً بسبب الكلفة البشرية والمادية والأخلاقية الباهظة جداً للثورة السورية؛ وهو واقع مستمر بمخاطره وكوارثه حتى الآن، أي بعد 12 عاماً.

هكذا تصدّعت وعود «الربيع العربي»، بخاصّة مع ظهور أعراض أخرى، مبكراً، الأمر الذي تمثل:

أولاً، بتحوّلات ثورة السوريين نحو العسكرة، التي نشأت بداية كردّ فعل اضطراري على انتهاج النظام العنف المفرط، والتي طغت على الحراكات الشعبية، بدفع من المداخلات الخارجية المريبة والمضرّة، ما نجم عنه صعود التيارات الإسلامية المتطرّفة التي باتت تغطّي على مشهد الصراع الجاري في سوريا، باعتباره ثورة من أجل التغيير الديموقراطي، وتهميشه لمصلحة إقامة سلطات أوتوقراطية، تتغطى بالدين، ولا تقل تسلطية عن السلطة التي تقاتلها.

ثانياً، ضعف إدراكات القوى السياسية، الإسلامية والعلمانية والقومية واليسارية، المتصدّرة للثورات، أهمية تحميل الفكرة الديموقراطية بالفكرة الليبرالية، المتعلقة بالحريات الفردية والسياسية ومفهوم المواطَنة والتمييز بين نظام الحكم والدولة.

ثالثاً، الافتقار إلى العقلانية السياسية في علاقات التيارات السياسية العربية، باختلاف تلاوينها، والتي تصرفت بعقليات أيديولوجية مغلقة، ونقلت الصراع إلى الحيّز الهوياتي، بحيث بات الصراع بين تيار وآخر وكأنه صراع صفري على الوجود، وهذا ما فتح المجال أمام التلاعب بهذه الثورات، لحرفها عن مقاصدها.

رابعاً، بيّنت الثورات العربية هشاشة الحداثة العربية التي بدت وكأنها مجرّد معطى خارجي، ذلك أن الثورات العربية وضعت المجتمعات العربية أمام ذاتها إزاء حقيقتها واختلافاتها ومشتركاتها، بطريقة فجائية وصادمة وعنيفة ومكلفة ومؤلمة، ما حمّل هذه الثورات، إلى مهمة التغيير الديموقراطي، مهمةَ إعادة بناء الهويات والإجماعات الوطنية بناءً على معطى داخلي هذه المرة.

خامساً، بقدر ما كشفت هذه الثورات عن هشاشة المجتمعات العربية وضعف إجماعاتها، فإنها بينت أيضاً مدى انكشافها وضعفها إزاء الخارج، الذي يملك قوة التأثير باعتباره أحد العوامل المحدّدة للدول، وربما للإجماعات المجتمعية أيضاً، وهذا بالتأكيد نتيجة للاستبداد الذي أضعف هذه المجتمعات وهمّشها طوال العقود الخمسة الماضية.

فضلاً عما تقدم، ربما يجدر التنويه هنا بأن التأثّر في ما بين الثورات العربية لم يكن كله إيجابياً، فثمة تأثّرات سلبية أيضاً، وضمن ذلك تأثّر الثورة السورية في بدايتها بالتجربة الليبية، إذ إن هذه نمّت الأوهام عند بعض الأوساط السياسية والشعبية بشأن إمكان تدخّل خارجي، على غرار ما جرى في ليبيا (وقبله في العراق 2003)، ما يرجّح كفّة الثورة في مواجهة النظام، وهو ما شجّع أيضاً على تنمية البعد العسكري على حساب البعد الشعبي

معلوم أن العديد من القوى الدولية والإقليمية والعربية ساهمت في تنمية هذه التوهّمات، وضمنها الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي تحدث أكثر من مرة عن نفاد وقت الأسد، وأن عليه أن يتنحّى، وقيام سفراء أميركا وفرنسا بزيارة تجمّعات المتظاهرين في حماة وحمص (عام 2011)، وتأكيد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عدم السماح بتكرار تجربة حماة، وتكراره القول بأن حلب «خط أحمر»، ناهيك بتشجيعات بعض الدول العربية.

التأثر الثاني الحاصل، وربما هو الأكثر خطورة، تمثل بانعكاس التجربة السورية على التجربة المصرية، مع استحواذ «الإخوان المسلمين» على السلطة في مصر.

والحال أن صعود التيار الإسلامي المتطرّف وغلبته على مشهد الثورة السورية، نمّى المخاوف من تيار الإسلام السياسي بمجمله، بخاصّة أن قوى الثورة السورية غطت على هذه الجماعات المتطرفة بدلاً من أن تتبرأ منها وتعزلها وتتمايز عنها، وهذا يشمل جماعة «الإخوان المسلمين» السورية، التي عزفت عن تفنيد أطروحات هذا التيار (القاعدة وأخواتها مثل جبهة النصرة مثلاً) وكشف لا معقوليته، للتمايز عنه، لمصلحة تغليب الطابع الوطني للثورة السورية.

المشكلة أن قوى الثورة السورية لم تفعل ما عليها، رغم أن هذه الجماعات المسلحة لم تخف ولاءها لتنظيم «القاعدة»، بل جاهرت حتى بعدم صلتها بهياكل الثورة السورية السياسية والعسكرية.

والأنكى أن هذه الجماعات المسلحة، التي تتغطّى بالإسلام، باتت تتصرّف بطريقة استفزازية ومشينة في الأماكن التي تسيطر عليها بقوة السلاح، إلى درجة أن هذه المناطق لم تعد تبدو كمناطق محررة حقاً.

 بديهي أن ذلك أثقل على السوريين، وفاقم الإحباط في صفوفهم، بعدما باتوا بين مطرقة النظام وسندان هذه الجماعات (خصوصاً في الشمال والشمال الشرقي)، التي لا تنتمي إلى ثقافة السوريين، ولا حتى إلى مجتمعهم، ناهيك بالشبهات التي تحيط بمرجعياتها ومصادر دعمها، التي لا تخلو من توظيفات استخبارية، مباشرة أو غير مباشرة.

على أي حال، ربما الأجدى رؤية التحولات الجارية والتداعيات المؤلمة والمعقدة في الثورات العربية باعتبارها جزءاً من عملية التغيير ذاتها، وأن المشكلة لا تكمن في الواقع ولا في مجتمعاتنا، فقط، بل تكمن أيضاً في الصورة المتخيّلة والجاهزة والرومانسية عن الثورات في إدراكات كثر منا.

ما ينبغي إدراكه بهذا الخصوص أيضاً، أن الثورات ليست مجرّد عملية انقلابية تغيّر في أشهر أو عام أو عامين تركة عميقة وثقيلة عمرها عقود أو قرون، فهي يمكن أن تسقط نظام حكم وطغمة حاكمة، لكن عملية التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ربما تحتاج إلى سنوات طويلة وربما إلى عقود.

وما ينبغي إدراكه تبعاً لذلك أيضاً، أن عمليات التغيير، لا سيما الاجتماعي والثقافي والفكري والاقتصادي، تحدث بطريقة تدريجية وبطيئة، بحسب المؤرخ الأميركي كرين برينتن في كتابه المتميز: “تشريح الثورات”، وأن العنف لا يسرّع في كل ذلك شيئاً، باستثناء تغيير نخبة حاكمة بغيرها.

_________

مواد ذات علاقة