بعدما ذهبت السكرة وجاء وقت الحساب، بدأت جهات ليبية ودولية تطالب بمساءلة المتهمعن مأساة درنة الليبية، موجهة أصابع الاتهام إلى الجنرال الانقلابي المسيطر على شرق ليبيا خليفة حفتر.

ويرجع ذلك إلى وجود أدلة عديدة على إهمال حفتر المدينة عن قصد واحتكار مواردها، ورفض إخلاء السكان بطلب من عمدتها، أو إصلاح السدود التي كانت معرضة للانهيار.

كثيرون وجهوا أصابع الاتهام إلى حفتر، مشيرين إلى أنه تعمد إهمال المدينة المعادية له، وتصفية الحسابات السياسية معها، واستحوذ هو وأبناؤه على ثروات وميزانية الشرق الليبي، ولم يهتم بإصلاح مشكلات المدينة، ما كان السبب المباشر للكارثة.

وأُثيرت شبهات من جانب حسابات ليبية وصحف غربية حول شبهة إهمال متعمدمن جانب خليفة حفتر الذي تسيطر قواته على المدينة منذ 2018، مؤكدين أن هذا ما فاقم حجم الخسائر في الأرواح والممتلكات إلى مستويات غير مسبوقة.

وتخضع درنةلسلطة حفتر، والحكومة التابعة له، وبالتالي فهو المسؤول عن المدينة، والكارثة.

وكانت درنة معقلاً للمعارضة الإسلامية المسلحة لنظام حكم معمر القذافي، وثارت ضد الأخير بشكل نادر الحدوث في ليبيا قبل الثورة، وخلال الثورة كانت من أوائل المدن التي تحررت من القذافي.

ثم سيطر عليها تنظيم الدولةلفترة قبل أن تطرده قوات مجلس شورى مجاهدي درنةوهي جماعة إسلامية تعاونت مع حكومة طرابلس.

لكن هذه القوات تعرضت لهجوم من قبل حفتر بالطائرات والمدفعية، ضمن محاولته السيطرة على شرق ليبيا، لينجح في السيطرة عليها في عام 2016.

أدلة الاتهام

صحيفة تليغرافالبريطانية نقلت في 12 سبتمبر/أيلول 2023 عن مصادر محلية أن عمدة درنة أكرم عبد العزيز، طلب الإذن بإخلاء المدينة مع اقتراب الإعصار، وهو ما رفضه حفتر وسلطات الشرق الليبي.

كما نقلت عن جلال حرشاوي، الخبير الليبي في المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI) أن سلطات حفتر في شرق ليبيا قالت بوضوح: لا لعمليات الإخلاء، مرجعاً ذلك إلى عدم الثقة في سكان المدينة والرغبة في إبقائهم في حالة حصار دائم.

حرشاويقال أيضا في حديث مع موقع ميدل إيست آيالبريطاني في 14 سبتمبر، إن درنة كانت من أكثر المدن استعصاءً على قوات خليفة حفتر التي حاصرتها بين عامي 2015 و2018، قبل أن تستطيع الاستيلاء عليها.

ولذلك رافق حفتر توجس وغياب للثقة إزاء سكان المدينة، التي دائماً ما كانت مركزاً للمثقفين في البلاد.

قال إن حفتر أمر جميع سكان درنة بالبقاء في منازلهم، وهو ما يعد أسوأ قرار يمكن أن يتخذه بعد فوات الأوان“.

وقالت مصادر في درنة لـميدل إيست آي، إن السلطات لم تبادر لإجراءات وقائية، واعتمدت على رد الفعل، ثم أعلنت في نهاية المطاف أن البلدات والمدن المتضررة منطقة كوارث، لكن الأوان كان قد فات!

أيضا كشف موقع بوابة الوسطالليبية في 13 سبتمبر، أن دراسة نُشرت بالمجلة العلمية لـجامعة سبهاالليبية يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، حذرت من كارثة ستلحق بالمدينة، بسبب سوء صيانة السدود“.

حذرت الدراسة من أنه إذا لم تبدأ السلطات في إجراءات فورية، لصيانة السدود وحماية سكان المنازل التي تقع في مجرى وادي درنة، فإن المدينة ستكون في خطر عظيم، لكن سلطات حفتر لم تفعل شيئا.

الدراسة، التي أعدها الباحث عبد الونيس عاشور، من كلية الهندسة بجامعة عمر المختار في البيضاء، أكد فيها أن الوضع القائم في حوض وادي درنة، يحتم على المسؤولين اتخاذ إجراءات فورية، بإجراء عملية الصيانة الدورية للسدود القائمة“.

وتوقعت الدراسة أنه في حالة حدوث فيضان ضخم، فإن النتيجة ستكون كارثية على سكان الوادي والمدينة، لوجود بعض المساكن مبنية داخل حوض وادي درنة ما يجعل سكانها مهددين في حال وقوع فيضانات

وهو ما حدث بالفعل حين جرفت مياه سيول وفيضانات العاصفة دانيال المناطق القريبة من مجرى الوادي، وخلفت مئات الوفيات إضافة إلى فقدان الآلاف ونزوح الكثير من سكان المدينة.

وفي مقابلة عبر الهاتف مع صحيفة نيويورك تايمزالأميركية في 16 سبتمبر، قال الباحث عاشورإنه فقد العديد من أفراد عائلته بسبب الفيضانات، مضيفًا أن الحكومة تجاهلت سنوات من التحذيرات، بما في ذلك تلك التي أوردها بحثه.

وأضاف أن الدولة لم تكن مهتمة، وبدلا من ذلك مارسوا الفساد، وانشغلوا بالمشاحنات السياسية“.

وقد أكد تقرير ديوان المحاسبةالأخير رصد تخصيص مبالغ مالية لمشروع صيانة وإعادة تأهيل سدي درنة وأبو منصور بمبلغ 2.28 مليون يورو.  

بالإضافة إلى مشروع تجميع مياه وادي درنة المرحلة الثانية بقيمة 1.32 مليون دولار، ولا يُعرف أين ذهبت هذه الأموال؟!

وهذا ما دفع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي خلال اجتماع مع فريق الطوارئ والاستجابة السريعة التابع لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، إلى الدعوة لمحاربة الفساد كي تعود درنة لوضعها الطبيعي.

المنفي شدد على ضرورة ردع الفاسدين وتجار الأزمات، وقال: “لتعود درنة يتطلب منا جميعا حلول حقيقية وآليات واقعية وفاعلة تشمل مكافحة الفساد ومنع استغلال الأزمات أو تعطيل المساعدات أو الاستيلاء عليها“.

تبرير الفشل

ربما لهذا لزم حفتر الصمت، واكتفي بزيارة دعائية للمدينة المنكوبة بعد الكارثة ليحظى بلقطات تظهر تضامنه مع من تبقى من الأحياء.

وكان حفتر قد وصف الكارثة في مقطع فيديو نشره موقع قوات شرق ليبيا، عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، بقوله: “إنها لحظات صعبة ومؤلمة مرت على المناطق والمدن والقرى الليبية في الجبل الأخضر“.

وأرجع الكارثة لأسباب تتعلق بالمناخ، قائلا إن هذه المناطق تعرضت لهطول كميات غزيرة جدا من الأمطار، وصلت ذروتها إلى نسبة 400 مليمتر، وهو رقم لم يسجل عبر تاريخ ليبيا، دون أن يشير لإهماله في إخلاء المدينة أو إصلاح السدود.

أما حليفه، رئيس برلمان شرق ليبيا، عقيلة صالح، فحاول إعفاء حكومة حفتر وسلطات شرق ليبيا من المسئولية عن الكارثة، زاعما أيضا أمام مجلس النواب في 14 سبتمبر، أن الدمار الواسع النطاق الذي ضرب المدينة كان كارثة طبيعية لا مفر منها“.

ووصف صالح الانتقادات التي وجهت للمسؤولين واتهامهم بعدم الكفاءة وسوء الإدارة بأنه غير عادلقائلا: “لا تقل إنه كان ينبغي لنا أن نفعل هذا أو ذاك، وفق تقرير آخر نشره ميدل إيست آيفي 15 سبتمبر.

وهو ما أثار غضب الليبيين بعد أن وصف مقتل الآلاف في فيضانات درنة بأنه قدر، ونفى أنه كان من الممكن القيام بأي شيء لمنعها.

وجاءت تبريرات صالحبعد يوم واحد فقط من تحذير الأمم المتحدة من أن معظم الوفيات الناجمة عن الفيضانات في ليبيا، كان من الممكن تجنبها إذا كانت أنظمة الإنذار المبكر وإدارة الطوارئ تعمل بشكل جيد.

وذلك رغم أن ميدل إيست آيأكد أن خبراء فحصوا سدي وادي درنة في 2022، وخلصوا إلى أنهما معرضان للانهيار، وأصدروا تحذيرات، وقالوا إنه يجب تنبيه السكان في المنطقة إلى هذا الخطر.

ومع ذلك، استمرت السلطات المحلية وحكومتا الشرق والغرب في الإعلان عن أن الوضع تحت السيطرة، وأنكرت السلطات في درنة التقارير الواردة عن الانهيار الوشيك للسد، على الرغم من أن كثيراً من التقارير الإخبارية كانت قد توقعت ذلك.

وفي نفس يوم كارثة درنة، طمأنت وزارة الموارد المائية المسؤولة عن سدود المدينة المواطنين بأن حالة السدود جيدة وتحت السيطرة، بحسب موقع ليبيا برس“.

وقال عضو المجلس البلدي في درنة، أحمد امدودر في تصريح لـالجزيرة نتفي 13 سبتمبر 2023 إن انهيار السدين تسبب في انهيار 4 جسور رئيسة تربط أنحاء المدينة، وجسر آخر في اتجاه ساحل درنة.

وقال المتحدث باسم جهاز الإسعاف الليبي أسامة علي، لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سيفي 13 سبتمبر إن انهيار سدي درنة جاء بسبب عدم صيانة السدّين الأمر الذي كان له تأثير واضح في حدوث الانهيار“.

أيضا أكد وزير الموارد المائية بالحكومة الليبية المكلفة من البرلمان شرق ليبيا، محمد دومة لـالجزيرة نت، أن السدود المائية في مدينة درنة قديمة جداً وبحاجة إلى صيانة، وأنها لم تُبن وفق المواصفات والمعايير الحديثة، ما جعلها لا تستطيع الوقوف في وجه مثل هذه الظواهر الطبيعية الغريبة عن المنطقة.

وأشار دومةإلى أن الانقسام السياسي الذي تشهده ليبيا طيلة الأعوام السابقة، ووجود حكومتين في البلاد حال دون الالتفات إلى عمليات الصيانة وتأهيل البنى التحتية في جميع مناطق البلاد، مشيراً إلى أن مدينة درنة كانت تشهد حروباً وحالة من عدم الاستقرار في أغلب السنوات الماضية.

تحقيقات رسمية

هذه الاتهامات الموجهة لقوات حفتر وسلطاته التي يسيطر عليها في شرق ليبيا، بأنه مسئول عن الكارثة، دفعت المجلس الرئاسي لمطالبة النائب العام بفتح تحقيقات عاجلة في الكارثة.

رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، قال في 13 سبتمبر إنه طلب من النائب العام فتح تحقيق شامل في كارثة الفيضانات التي ضربت مدينة درنة، وفق ما أفادت وكالة أنباء العالم العربي“.

وأضاف أنه طلب محاسبة كل من أخطأ أو أهمل بالامتناع أو القيام بأفعال نجم عنها انهيار سدي مدينة درنة، على أن تمتد التحقيقات إلى كل من قام بتعطيل جهود الاستغاثة الدولية أو وصولها للمدن المنكوبة“.

كما أعلن الدبيبة أنه طلب من النائب العام فتح تحقيق عاجل في ملابسات انهيار سديْ درنة، وقال إنه وجه الأجهزة المعنية بالتعاون الكامل في التحقيق.

وأكد العديد من الخبراء، أنه كان بالإمكان تفاديحدوث المأساة المفجعة التي ضربت مدينة درنة شرقي ليبيا، عقب انهيار سدين فيها جراء الفيضانات القوية، مما قد يرفع عدد الشهداء إلى 15 أو 20 ألفا.

وقال رئيس المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، في 14 سبتمبر/، إن معظم الخسائر البشريةكان يمكن تجنبها لو أصدرت السلطات التحذيرات في الوقت المناسب، وأجلت السكان من المدينة.

وأضاف الأمين العام للمنظمة، بيتيري تالاس، خلال مؤتمر صحفي في جنيف، أنه لو كان بالإمكان إصدار إنذارات، لكانت هيئات إدارة الحالات الطارئة تمكنت من إجلاء السكان، ولكنا تفادينا معظم الخسائر البشرية“.

وأشار إلى قلة التنظيم، في ظل الفوضى المخيمة على هذا البلد منذ سقوط نظام معمر القذافي.

حيث اكتفي المسؤولون في شرق ليبيا بإعلان حظر التجول يوم 9 سبتمبر في عدة مدن، وخاصة بنغازي، أكبر مدينة في المنطقة، والتي ذهبت التوقعات إلى أنها قد تكون الأكثر تضرراً، لكن طرقها الرئيسة انهارت، فيما طال الضرر الأكبر درنة.

دمار هائل

فجر يوم 10 سبتمبر، وبينما الأمطار الغزيرة تهطل وإعصار دانياليهدر، ومياه فيضان الأمطار تنحدر بقوة باتجاه سدين في المدينة يحميان منازل تقع في طريق السيل، سمع السكان صوت انفجارات، انهار السدان الرئيسان على نهر وادي درنة، ما تسبب في انزلاقات طينية ضخمة دمّرت جسوراً وجرفت العديد من المباني مع سكانها، وحملت عمارات سكنية بأكملها وبسكانها وسياراتهم وكل متعلقاتهم إلي البحر.

السد العلوي يحمل اسم سد البلاد، بسعة تخزين تبلغ 1.5 مليون متر مكعب من المياه، في حين أن السد السفلي، سد أبو منصور، كان بسعة تخزينية تبلغ 22.5 مليون متر مكعب.

ويقول خبراء ليبيون، إن السد السفلي انهار أولا، بعد تجمع مياه تقدر بنحو 75 مليون متر مكعب أي 3 أضعاف سعة السدين، فجرفت المياه السد الثاني الأصغر متجهة نحو درنة، وكان ارتفاع السدّين يبلغ حوالي 40 مترا فقط.

وقد تحولا إلى ركام، ثم تدفقت المياه إلى درنة بمعدل يقدر بنحو 3500 متر مكعب في الساعة

ويقسم مدينة درنة الواقعة على ساحل البحر المتوسط ​​في شرق ليبيا نهر موسمي يتدفق من المناطق المرتفعة في اتجاه الجنوب، ونادراً ما تضرب السيول المدينة بسبب السدود الموجودة بها، والتي انهارت حاليا.

وأظهر مقطع على وسائل التواصل الاجتماعي أجزاء متبقية من أحد السدود المنهارة على بُعد 11.5 كيلومتر من المنبع في المدينة، حيث يلتقي واديان نهريّان تحيط بهما الآن برك ضخمة من المياه المختلطة بالطين.

وقال رئيس بلدية درنة عبد المنعم الغيثي إن عدد القتلى في مدينة درنة الليبية جراء الفيضانات الكارثية قد يصل إلى ما بين 18 و20 ألفاً، استناداً إلى عدد المناطق المدمرة.

وكشف وزير الخارجية في الحكومة التابعة لبرلمان شرق ليبيا (حكومة حفتر) عبد الهادي الحويج، أن ثلث مدينة درنة تقريبا سوي بالأرض من جراء الفيضانات التي ضربت المدينة وراح ضحيتها المئات.

____________

مواد ذات علاقة