ثانياحرية تكوين الجمعيات بعد الإعلان الدستوري 2011

في 2011، ومع صدور الإعلان الدستوري الجديد، كفلت المادة 15 منه حق الأفراد في حرية تكوين الجمعيات، والتي يجب أن ينظمها قانون عن السلطة التشريعية الوطنية. وبذلك سقط الإعلان الدستوري 1969، وسقطت معه كل تشريعات وقرارات وقوانين نظام القذافي وأجهزته التنفيذية.

وفي 2013، صدر القانون رقم 29 المتعلق بالعدالة الانتقالية الذي نص صراحة في المادة على بطلان وعدم شرعية جميع التشريعات الجائرة الصادرة قبل 2011. وهو ما ينطبق تمامًا على القانون 19 الصادر عام 2001 بشأن حرية تكوين الجمعيات، والقانون رقم (80) لسنة 1975 بشأن تعديل وإلغاء بعض أحكام قانون العقوبات، بما في ذلك المواد التي تجرم حرية التجمع وتعاقب عليها بعقوبات قاسية تصل للإعدام (المادة 206).

وكان من المنتظر أن تُصدر السلطة التشريعية قانون جديد ينظم عمل الجمعيات، امتثالًا للإعلان الدستوري، على أن يتوافق هذا القانون الوطني الجديد مع التزامات ليبيا الدولية بشأن حرية التنظيم، حتى في حالات الاستثناء، ويتوافق مع المبادئ الأساسية الواجب توافرها في أي قانون وطني ينظم عمل الجمعيات، والتي أقرها المقرر الخاص المعني بحرية التنظيم في الأمم المتحدة، في تقريره عام 2012 وهي؛

  • أن تكون منظمات المجتمع المدني قادرة على التسجيل لدى الهيئة الإدارية المختصة من خلال عملية الإخطار وليس الترخيص.

  • إذا ارتكبت جمعية ما انتهاك، على السلطات التنفيذية، بما في ذلك المؤسسات الأمنية، الطعن في التسجيل أمام سلطة قضائية محايدة ولا يمكنها رفض التسجيل دون إشراف قضائي.

  • يجب أن يكون لمنظمات المجتمع المدني الحق في فتح حساب مصرفي دون إذن من السلطة التنفيذية، ولا يمكن تجميد هذا الحساب المصرفي إلا بحكم من السلطة القضائية.

  • يجب على السلطات ألا تطلب من منظمات المجتمع المدني التسجيل مرة أخرى إذا كانت قد سجّلت بالفعل؛ يُعد الالتزام بتجديد التسجيل انتهاكًا لحرية تكوين الجمعيات.

  • يجب على السلطات السماح لمنظمات المجتمع المدني بالاجتماع مع المجتمعات المحلية والدولية دون موافقة مسبقة.

  • لا يمكن للسلطات تعليق أو حل جمعية دون حكم من القضاء يحترم مبادئ المحاكمة العادلة.

جدير بالذكر أنه وفقًا للمادة 4 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، لا يعتبر الحق في حرية تكوين الجمعيات حقًا مطلقًا، لكن في حالات استثنائية، يمكن وضع قيود عليه، شريطة أن تكون قانونية وضرورية في المجتمعات الديمقراطية. ويشير التعليق العام رقم 27 للجنة الأممية المعنية بحقوق الإنسان عام 1999 بشأن حرية التنقل، أنه: «على الدول، عند اعتماد قوانين تنص على قيود أن تسترشد دائمًا بالمبدأ القائل بأن القيود لا تعرقل جوهر الحق. ويجب ألا تغير العلاقة بين الحق والقيد، بين القاعدة والاستثناء».

ومن ثم، فثمة شروط ينبغي التأكد من استيفائها حين ترغب الدول في تقييد هذا الحق، كما يجب تبرير أي قيود بناءً على إحدى المصالح المحدودة المشار إليها أعلاه (قانونية وضرورية).

بمعنى أن الاستثناء لا بد أن يكون له أساس قانوني (يأتي بقانون أو تعديل موقوت على قانون)، تتم صياغته بما يكفي من الدقة، ويقدم مبرراته الضرورية. فعلى سبيل المثال، وفقًا للفقه القانوني لمنظمة العمل الدولية، فإن قرارات حل المنظمات العمالية «يجب ألا تحدث إلا في القضايا الخطيرة للغاية؛ وأن يتم حل مثل هذه الحالات فقط، بعد قرار قضائي يضمن حقوق الدفاع بشكل كامل».

أما اللجنة الافريقية لحقوق الإنسان والشعوب فقد وجدت أن أي قيود شاملة على من يمكنه تكوين الجمعيات هي في جوهرها غير قانونية. وأنه لا يوجد نص آخر بشأن من يمكن تقييد هذا الحق عليه أو متى يمكن تقييده، كما هو المنصوص عليه في المادة 10 والمبادئ التوجيهية بشأن حرية تكوين الجمعيات و التجمع السلمي الصادرة من اللجنة الافريقية لحقوق الإنسان والشعوب في الدورة الـ 60 للجنة المنعقدة في نيامي، النيجر، في الفترة من 8 إلى 22 مايو 2017.

ثالثاغياب التشريع وتعدي السلطات التنفيذية على اختصاص مجلس النواب

غياب هذا التشريع الجديد الذي يقتضيه الإعلان الدستوري، ولمدة أكثر من 10 سنوات، فتح المجال أمام السلطات التنفيذية للتعدي على اختصاص مجلس النواب في تنظيم العمل الأهلي وتكوين الجمعيات الوطنية والدولية. فأصدرت منذ 2016 وحتى مارس 2023، أربعة قرارات ولوائح إدارية تعكس إصرار السلطات الحاكمة في الشرق والغرب على خنق حرية تكوين الجمعيات الوطنية والدولية، وخاصة الحقوقية التي تفضح انتهاكاتها، والسيطرة عليها. هذه اللوائح والقرارات هي؛

  • اللائحتين 1 و2 لعام 2016 الصادر عن حكومة الشرق برئاسة عبد الله الثني.

  • القرار رقم 286 لسنة 2019 الصادر عن المجلس الرئاسي في طرابلس برئاسة فايز السراج.

  • القرار رقم 5 لسنة 2023 لمفوضية المجتمع المدني التابعة للمجلس الرئاسي بطرابلس برئاسة محمد المنفي

حدت هذه القرارات واللوائح من عمل الجمعيات المحلية والدولية في ليبيا، وقيدت حرية الأفراد في تكوين الجمعيات الأهلية من خلال وضع نظام ترخيص يتطلب موافقة الجهة الإدارية (مفوضية المجتمع المدني) بدلًا من نظام الإخطار. كما تُجبر هذه القرارات واللوائح المنظمات العاملة على إعادة التسجيل مرارًا وتكرارًا تحت تهديد الحل. وعند التسجيل، يُطلب منها التوقيع على تعهد بأنها لن تدخل في اتصال مع سفارة أو كيان دولي دون إذن مسبق من السلطات التنفيذية. كما تمنح هذه اللوائح والقرارات للجهة الإدارية حق اقتحام مقار الجمعيات وتفتيشها وحلها وتعليق نشاطها بشكل مؤقت وتجميد حسابها البنكي دون حكم قضائي.

وتُجبر الجمعيات على الحصول على موافقة الجهة الإدارية لتلقي تمويلات لمشروعاتها، أو تنظيم أية فعاليات تندرج ضمن أنشطتها. هذا بالإضافة إلى تدخّل الجهة الإدارية بموجب هذه اللوائح في عمل الجمعيات، لدرجة المطالبة بالكشف حتى عن أسماء الضحايا المستفيدين من أعمال الجمعية في انتهاك لخصوصيتهم، كثيرًا ما يعرضهم للخطر.

والحقيقة أن هذه القرارات واللوائح في مجملها باطلة؛ لأنها صادرة عن غير جهة اختصاص، ومن ثم ينطبق عليها ما خلص له الطعن الإداري رقم 37/39 الصادر عن المحكمة العليا الليبية أن «القانون التنفيذي يفقد صحته وصلاحيته ويعتبر باطلًا عندما يشوب القرار التنفيذي عيب جسيم وجوهري. كأن تباشر السلطة التنفيذية عملًا من اختصاص السلطة التشريعية أو السلطة القضائية».

وبالمثل اعتبر الطعن الإداري رقم 163/49 الصادر في نوفمبر 2005 من المحكمة العليا الليبية أن: «القرار الإداري إذا كان مشوبًا بعيب عدم الاختصاص، فإنه يكون معدومًا بسبب ما شابه من عيب جسيم ولا يتقيد رفع الدعوى في هذه الحالة بميعاد معين». وبناءً عليه، فالقرارات الصادرة عن السلطات التنفيذية بشأن تنظيم الجمعيات، قرارات إدارية مشوبة بعيب عدم الاختصاص، باطلة لانطوائها على عيب جسيم وجوهري يكمن في مباشرة السلطة التنفيذية اختصاص السلطة التشريعية.

التقدير نفسه خلصت إليه دائرة الأمور المستعجلة بمحكمة جنوب بنغازي في 18 يوليو 2022، والتي أقرت تعليق المرسوم 286/2019 الصادر عن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، والذي ينظم عمل مفوضية المجتمع المدني، بعدما تقدمت منظمات المنصة الليبية بطعن على القرار أمام المحكمة.

ولعل الإقرار بعدم شرعية هذه القرارات واللوائح التنفيذية كان موطن الاتفاق الوحيد مع الرأي القانوني الصادر في 7 مارس 2023، عن إدارة القانون الليبية، والذي أقر بعدم مشروعية القرار 286/2019 وأمثاله من القرارات الصادرة عن جهات تنفيذية غير مختصة، ولكنه تضمن رأيًا خطيرًا أخرًا مفاده أن: «جميع الجمعيات المسجلة قبل الثورة بموجب القانون رقم 19 لسنة 2001 الخاص بتنظيم المنظمات سارية وتسجيلها قائم، بينما كل المنظمات والجمعيات المحلية والدولية المسجلة بعد 2011 يعتبر تسجيلها لاغي وباطل».

وما هي إلا أيام وصدر في 13 مارس التعميم العام رقم 5803، والذي يقضي بعدم شرعية جميع الجمعيات المسجلة بعد عام 2011 ووقف عملها، ومن ثم يبيح للأمن الداخلي اقتحام مقراتها وغلقها بالقوة ويعرض العاملين فيها للمساءلة القانونية بتهمة عضوية منظمات غير شرعية، ويهددهم بعقوبات بالغة تصل حد الإعدام.

ولآن اللائحة التنفيذية الخاصة بقرار تشكيل إدارة القانون أقرت في المادة 6 بأن: «الرأي القانوني للإدارة ملزم إلا إذا تعارض مع مبادئ المحكمة العليا».

ولما كان الرأي القانوني الخاص بإلغاء ترخيص الجمعيات المسجلة بعد 2011 يعارض مبدأ المحكمة العليا في الطعن الدستوري رقم 57/1، الصادر في 23 ديسمبر 2013، والتوصية رقم 96 من تقرير المقرر الخاص المعني بحرية تكوين الجمعيات، والخاصة بأنه؛ لا يمكن للدول الموقعة على العهد الدولي تجريم عمل الجمعيات غير المسجلة، حتى ولو بموجب قانون وطني، لأن الاتفاقية الدولية تعلو على القانون الوطني ويتعين على السلطات التنفيذية الالتزام بها.

أصدرت حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة منشورًا (رقم7/2023) في 21 مارس 2023، يسمح للجمعيات المحلية والدولية في ليبيا بمواصلة عملها مؤقتًا، ويقر بشرعيتها (المؤقتة)، وذلك لحين (تصحيح) أوضاعها وفق قانون 19/2001 ا لتنظيم الجمعيات.

وبذلك عاد هذا القانون القمعي المخالف للمعايير الدولية (والذي أضحى بعد 2011 غير دستوري وباطل) مرة أخرى ليكون الإطار التشريعي الناظم لعمل الجمعيات الوطنية والدولية في ليبيا بعد 12 سنة من ثورة 2011.

_____________________

مواد ذات علاقة