كرم سعيد

قام رئيس البرلمان الليبي المستشار عقيلة صالح بزيارة إلى تركيا، على رأس وفد برلماني، في 13 ديسمبر الجاري، التقى خلالها الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس البرلمان نعمان كورتولموش، وهي الزيارة الثانية لصالح إلى تركيا، حيث كانت الأولى في 2 أغسطس 2022 تلبية لدعوة من نظيره التركي (السابق) مصطفى شنطوب.

وجاءت زيارة صالح في إطار تعزيز الجهود المبذولة لتوحيد الموقف السياسي لحل الأزمة الليبية مع الأطراف الفاعلة، فضلاً عن كونها تأتي بعدما عمدت أنقرة خلال الأشهر الماضية إلى تحسين علاقاتها مع القوى الرئيسية في شرق ليبيا، والانفتاح على الفاعلين المحليين في المشهد الليبي.

سياقات مغايرة

جاءت زيارة صالح إلى تركيا في ضوء مجموعة من المتغيرات التي ألقت بظلالها على المشهد الليبي، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- تمديد مهام القوات التركية في ليبيا:

وافق البرلمان التركي، في نهاية نوفمبر الماضي، على مذكرة مقدمة من الرئاسة التركية لتمديد مهمة القوات التركية في غرب ليبيا لـ24 شهراً إضافياً، وهو ما أثار قلق سلطة شرق ليبيا التي تُعارض وجود أي قوات أجنبية على الأراضي الليبية، باعتبار ذلك يرسخ انقسام المؤسسات العسكرية والأمنية في البلاد، ويعرقل الجهود الأممية لتوحيدها. ويُعد ملف الوجود العسكري التركي المنتشر في البلاد منذ عام 2019 إحدى أبرز القضايا الخلافية بين أنقرة وشرق ليبيا.

2- استباق اجتماعات الطاولة الخماسية:

 أثار توقيت زيارة عقيلة صالح إلى تركيا تساؤلات عدة، حيث جاءت الزيارة قبل يومين من استضافة تونس للاجتماعات التحضيرية للطاولة الخماسية التي دعا إليها المبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باتيلي، بهدف إنهاء حالة الجمود السياسي المستمرة، والتي وصلت إلى الذروة بعد إخفاق مجلسي النواب والأعلى للدولة في التوصل إلى توافق حول القوانين الانتخابية التي أعدتها لجنة “6+6” في يونيو الماضي. ومن ناحية أخرى، تأتي زيارة صالح في ظل الحديث عن خريطة طريق جديدة مرتقبة، والتي يمكن أن تُعيد تأطير المشهد السياسي والأمني في البلاد.

3- تصاعد الخلاف بين الفرقاء المحليين:

 أشارت بعضُ التقديرات إلى وجود تخوفات متزايدة لدى معسكر الشرق الليبي من أن تنتهي محاولات تشكيل حكومة جديدة قبل العملية الانتخابية بالفشل وتكريس دور حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة برئاسة عبدالحميد الدبيبة في صدارة المشهد حتى موعد الانتخابات بالنظر إلى الدعم الذي تحظى به من جانب تركيا. ويتبنى مجلس النواب الليبي موقفاً محدداً إزاء أسباب الأزمة الحالية يتمثل في أن إحدى العقبات التي تحول دون إجراء الانتخابات في ليبيا هى مسألة السلطة التنفيذية، في ظل إصرار الدبيبة على التمسك بشرعية حكومته، مؤكداً أنه لن يسلم السلطة إلا لسلطة منتخبة. في المقابل، فإن مجلس النواب وجزءاً مهماً من المجلس الأعلى للدولة يطالبون بحكومة جديدة.

4- تفاقم الأزمة الإنسانية في درنة:

 لا تزال تداعيات إعصار “دانيال” الذي تعرضت له مدينة درنة شرق ليبيا في الفترة من 4 إلى 12 سبتمبر الماضي تمثل تحدياً لحكومة شرق ليبيا، خاصة فيما يتعلق بعمليات إعادة الإعمار وإغاثة المتضررين. ووفقاً لتقرير نشرته الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في 11 ديسمبر الجاري، فثمة حاجة إلى نحو 71 مليون دولار تقريباً لمساعدة 250 ألف شخص في ليبيا خلال الشهر الجاري من المتضررين من الإعصار، وهو ملف يحظى باهتمام خاص من جانب الطرفين.

أهداف رئيسية

يمكن القول إن ثمة أهدافاً أربعة رئيسية لزيارة عقيلة صالح إلى تركيا

أولها، محاولة إقناع أنقرة بضرورة وقف دعمها لحكومة الدبيبة، أو على الأقل تقليص هذا الدعم، باعتبار ذلك يمكن أن يساهم في جهود الدفع نحو تشكيل حكومة جديدة توافقية تتولى إدارة العملية الانتخابية المقبلة، لا سيما وأن تركيا تُعد إحدى أبرز القوى الإقليمية الداعمة لحكومة الوحدة الوطنية التي قدمت امتيازات غير مسبوقة لها.

وهنا، يمكن فهم زيارة صالح لتركيا، فثمة قناعة لديه بأن المساهمة في تغيير سياسات القوى الداعمة لحكومة الوحدة يمكن أن تفرض ضغوطاً على الدبيبة، وتوفر بيئة خصبة لإعادة تشكيل حكومة توافقية.

وثانيها، محاولة توظيف حالة التوتر الأمني في غرب ليبيا لتوجيه رسالة إلى أنقرة مفادها أن الاستمرار في دعم الدبيبة قد لا يحقق لها مصالحها في ظل الانقسامات العميقة داخل الهياكل الأمنية في غرب البلاد، فقد شهدت العاصمة طرابلس، في 14 أغسطس الماضي، اشتباكات عنيفة بين اللواء “444”، التابع لحكومة الوحدة الوطنية، وقوات جهاز الردع الخاصة، التابعة للمجلس الرئاسي.

وأثارت هذه الاشتباكات قلقاً واسعاً لدى تركيا، لا سيما وأن حدة المواجهات بين الطرفين عكست تصدّعات لافتة في التحالفات الأمنية الحالية، والتي تمثل المحور الأساسي لحكومة الدبيبة، ونقطة الاستناد الاستراتيجية لبقائها في المشهد الليبي.

وثالثها، استثمار التقارب الملحوظ بين أنقرة ومعسكر شرق ليبيا، لتعزيز دور مجلس النواب وحلفائه المحليين. وفي هذا السياق، كشفت تقديرات عديدة أنّ زيارة صالح إلى أنقرة واجتماعه بأردوغان، تعكس رسائل ضمنية مفادها أنه يمكن تفكيك التحالف بين أنقرة والدبيبة، أو على الأقل دفع تركيا إلى تبني مواقف أكثر توازناً تجاه تطورات الأوضاع في ليبيا، وعدم انحيازها إلى أيٍّ من الأطراف الفاعلة.

وربما يدعم ذلك البيان الصادر عن الرئاسة التركية عشية لقاء صالح وأردوغان، والذي أشار إلى أن الأخير أكد خلال اجتماعه بالأول أن بلاده حريصة على تعزيز العلاقات الثنائية مع مجلس النواب، بالإضافة إلى دعوته للإسراع في إيجاد حل توافقي للأزمة الليبية.

ورابعها، تحييد التداعيات السلبية التي يفرضها تعثر المفاوضات التي أجريت بين الفاعلين المحليين بشأن العملية الانتخابية. ولذلك، فإن زيارة صالح لتركيا تعكس اتجاه معسكر الشرق نحو التنسيق مع القوى الإقليمية المعنية بتطورات الأزمة الليبية. وفي هذا الإطار، أكد صالح خلال لقاءاته مع المسئولين الأتراك على أهمية الدور التركي في تقليص حدة الأزمة الليبية.

ختاماً، يمكن القول إن زيارة صالح إلى تركيا تعكس محاولة لتعزيز حضور رؤية معسكر الشرق لدى الأطراف الإقليمية المعنية بما يجري داخل ليبيا خلال الفترة المقبلة، وترتبط تحركات صالح بمحددين رئيسيين:

 الأول، مساعي مجلس النواب لتفكيك التحالفات الداعمة لحكومة الدبيبة.

والثاني، استثمار حرص تركيا على المشاركة في الترتيبات الجديدة التي يجري التحضير لها في الملف الليبي، من خلال دفعها لممارسة دور متوازن أو حيادي في صياغة التوافقات الداخلية.

______________

مواد ذات علاقة