الحبيب الأسود

هناك عمل دؤوب لتكريس واقع التقسيم بين الشرق والغرب وهناك أطراف تعمل على وضع أياديها بالقوة على السلطة والثروة عبر قوة السلاح والتحالفات وهي لا تفكر أبدا في التخلي عن الحكم.

وأخيرا.. اعترف المبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باتيلي بأن “هناك شعورا بالإعياء والاستياء الشديد بسبب تكتيكات التأخير التي تلعبها بعض الأطراف السياسية الليبية”، وهو ما يعني أنه أدرك تفاصيل ما يدور فوق الركح ومن وراء الستار، وبات قادرا على تحليل الواقع بشكل أكثر عقلانية، فتكتيكات التأخير التي  تحدّث عنها هي أساس المواجهة في سياقات تقاسم المصالح بين القوى الفاعلة في دولة ريعية تحقق يوميا إيرادات تصدير 1.2 مليون برميل من النفط بالإضافة إلى عشرات الآلاف من البراميل التي تباع خارج الإطار الرسمي سواء لهذا الطرف أو ذاك.

كشف باتيلي في إحاطته أمام مجلس الأمن لهذا الشهر عن مستجدات مبادرته التي سعى من خلالها إلى اجتماع “قمة” بين الخمسة الكبار المفروضين على أرض الواقع، وهم رئيس المجلس الرئاسي ورئيس مجلس النواب والقائد العام للجيش ورئيس مجلس الدولة ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، وفسّر مواقف المدعوين بما يعطي صورة تقريبية عن الموقف العام من المبادرة، في خمس نقاط:

أولا: المجلس الرئاسي أبدى دعما واضحا وملموسا، حيث ما فتئ رئيسه محمد المنفي يبين حسن نواياه، وهو يعكف على بحث كل السبل التي تكفل نجاح هذا الحوار.

ثانيا: رئيس مجلس النواب عقيلة صالح وضع شرطا لمشاركته بأن يركز جدول الأعمال على تشكيل حكومة جديدة تعنى بالانتخابات، في الوقت الذي يرفض فيه أيضا مشاركة حكومة الوحدة الوطنية ورئيسها.

ثالثا: رئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة أعلن عن اختيار أسماء ممثلي المجلس الثلاثة للمشاركة في الاجتماع التحضيري على الرغم من رفضه في البداية لنسختي القانونين المنظمين للانتخابات اللذين نشرهما رئيس مجلس النواب.

رابعا: رئيس وزراء حكومة الوحدة قدم بدوره أسماء ممثلي حكومة الوحدة الوطنية. وبينما أعرب عن استعداده لمناقشة المسائل التي تتعلق بقانوني الانتخابات، إلا أنه يرفض رفضا قاطعا أيّ مناقشات حول حكومة جديدة.

خامسا: قائد الجيش الوطني الليبي الجنرال خليفة حفتر أعرب عن استعداده للحوار، إلا أنه اعتبر مشاركة حكومة الوحدة الوطنية ممكنة في حالة واحدة وهي إشراك الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب. وبالمقابل، فإنه سيقبل المشاركة إذا جرى استبعاد كلتا الحكومتين.

في 16 ديسمبر الجاري، تم الإعلان عن اجتماع انعقد بالقاهرة بين كل من حفتر والمنفي وصالح الذين رحبوا بالمشاركة في جولة الحوار الذي دعت إليه بعثة الأمم المتحدة في ليبيا “دون إقصاء لأيّ طرف مع مراعاة تحفظات ومطالب المجتمعين والأخذ بها” وهو ما يعني موافقة مشروطة على المشاركة في مبادرة باتيلي .

في 18 ديسمبر، عقد رئيس مجلس الدولة محمد تكالة والنائبان بالمجلس الرئاسي الليبي موسى الكوني وعبدالله اللافي ورئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة اجتماعا تشاوريا في العاصمة طرابلس أكدوا فيه أن الحل يكمن في إيجاد قوانين انتخابية عادلة ونزيهة تعبر بالبلاد مباشرة نحو مرحلة الاستقرار، وذلك بإنهاء المراحل الانتقالية الحالية والرحيل المتزامن لكل الأجسام الحالية، وطالبوا جميع الأطراف بالترفع الكامل عن أيّ حساسيات ذات بعد جهوي أو فئوي، وعدم الرضوخ لسطوة السلاح والاستبداد، أو التورط في صفقات مشبوهة لغرض تشتيت الجهود المحلية المدعومة بتوافق دولي.

لا أحد يعطي أهمية تذكر للكلمات المختارة بدقة التي تتضمنها بيانات المجتمعين في القاهرة أو طرابلس، فهي في الأخير من نوع “ما يطلبه المستمعون” أو ما يطلبه المجتمع الدولي، حيث يحاول كل طرف تبرئة ذمته عبر تبني مواقف في العلن عكس ما يضمره في السرّ.

يعلن باتيلي بوضوح أن “بعض القادة الليبيين مستمرون في المماطلة ولا يبدون، في الوقت الحاضر، التزاما حاسما بإنهاء الانسداد الذي طال أمده والذي تسبب في معاناة جمة للشعب الليبي”، وهذا الأمر معلوم منذ سنوات من قبل المبعوثين السابقين، ولا يعتبر اكتشافا جديدا لأيّ مراقب أو متابع لمجريات الأحداث في ليبيا.

 يضيف باتيلي أنهم لم “يرفضوا الدعوة إلى الاجتماع الخماسي بشكل مباشر، لكن البعض منهم وضع شروطا للمشاركة”، وهو بذلك يقترب من توصيف الواقع، حيث أن الموافقة على المشاركة كرفضها، لا تعني في الأخير اتفاقا ضمنيا بين الفرقاء الليبيين على عرقلة أيّ مسار أممي للحل السياسي في البلاد، وقد أثبتت التجربة أن لدى هؤلاء الفرقاء بالذات قدرة فائقة على ابتزاز المجتمع الدولي والتلاعب بخياراته والعبث بجهوده وتحويلها إلى أداة لإبقاء الأوضاع على ما هي عليه إلى أجل غير مسمى.

وكما أوضح المبعوث الأممي، فإن قوانين الانتخابات وحدها لا يمكن أن تجعل الانتخابات أمرا ممكنا ما لم تلتزم الأطراف المعنية بشكل صادق وحقيقي بتنفيذها. وهذا ما تبين بالخصوص من مواقف مجلس الدولة وحكومة الوحدة الوطنية ومن بعض مراكز القرار في المجلس الرئاسي، الرافضة للقوانين الصادرة عن مجلس النواب في الثاني من أكتوبر – تشرين الأول الماضي، والتي تم نشرها بالجريدة الرسمية من دون أن تجد لنفسها شرعية التنفيذ على أرض الواقع.

أما تشكيل حكومة موحدة تسير بالبلاد نحو الانتخابات، بحسب ما تقتضيه القوانين الانتخابية، فلا يمكن أن يتحقق ما لم تعمل الأطراف الرئيسية بروح التوافق السياسي مع تجديد التزامها بوحدة وطنها. ويدرك باتيلي أن الموضوع مرتبط بتوازنات داخلية وإقليمية ودولية، وبمصالح وحسابات سياسية واقتصادية ومالية وفئوية، وبواقع مرتبط بالملفات الأكثر تعقيدا ومنها القوات الأجنبية والمرتزقة والسلاح المنفلت والميليشيات التي لا تزال تبسط نفوذها في المنطقة الغربية بالخصوص.

وعندما يقول المبعوث الأممي إنه “يجب علينا تفادي تكرار ما حدث في أغسطس 2022، عندما أدى تشكيل الحكومة بشكل أحادي إلى صراع عنيف كان من نتائجه مقتل العديد من الليبيين” فهو يشير بما لا يدع مجالا للشك، بأن لا فائدة من محاولة مضايقة الحكومة الحالية أو مجرد التوهم بأنها قد تتخلى عن السلطة طواعية لفائدة حكومة جديدة تشرف على الانتخابات.

في ختام كلمته، قال باتيلي بوضوح إنه “باستثناء عدد قليل ممن يشغلون مناصب سياسية وانتهت مدة ولايتهم، والذين يجعلون من البلاد رهينة لطموحاتهم الخاصة، فإن الليبيين من جميع مناحي الحياة يعبّرون عن تطلعهم القوي إلى الانتخابات وإلى مؤسسات شرعية وموحدة وإلى السلام والاستقرار ووحدة البلاد”، ورغم أن هذا الاستنتاج أقرب ما يكون إلى الواقع، إلا أن المسألة ليست بتلك البساطة، فالفرقاء الذين يتمسكون بمقاليد السلطة من مواقعهم التي أخضعوها لسيطرتهم قبل سنوات، لا يمكن فصلهم عن القوى المحلية المستفيدة من بقائهم في الحكم، ولا عن الأطراف الخارجية التي تتقاسم النفوذ في البلاد، وتعمل على تأجيل لحظة الحسم إلى حين الانتهاء من الملفات الأخرى في المنطقة.

الصورة الأكثر قربا للواقع اليوم في ليبيا هي أن هناك عملا يوميا دؤوبا لتكريس واقع التقسيم بين الشرق والغرب، وهناك أطراف تعمل على وضع أياديها بالقوة على السلطة والثروة عبر قوة السلاح والتحالفات الإقليمية والدولية، وهي لا تفكر أبدا في التخلي عن الحكم ولا عن الامتيازات التي تنعم بها، وإنما ترغب في توريثها لمن يأتي بعدها من الأبناء أو أبناء العمومة أو من شركاء المصالح والأجندات.

________________

مواد ذات علاقة