الأسباب ‬‫الجذرّيّة‬ ‫لضعف‬ ‫الدولة‬ ‫الليبي‬‫ة ‬‫في ‫الوقت الحالي

تعود جذور اللصوصقراطية الحالية في ليبيا إلى ممارسات الحكم الخاصة بنظام القذافي. ويبرز هذا الأرث بشكل أوضح اليوم إذ لا توجد أي إصلاحات مؤسسية أو إصلاحات تشريعية حقيقية منذ سقوط المستبد . وقد قام نظام القذافي، خلال فترة حكمه، بإعادة توزيع الثروة والامتيازات من خلال تركيز السيطرة على الأصول التي تديرها الدولة في أيدي أقطاب النظام والمقربين منه.

وقد أدار الجهاز الأمني السائد التابع للنظام توزيع الأصول وعاقب من خرجوا عن نهجه، ولكنه تجاوز عند تنفيذ ذلك حدود القانون، وتغاضى عن العديد من الممارسات غير الشرعية.

كان الفساد والكسب غير المشروع متفشيا، خاصة خلال العقد الأخير من ولاية النظام. وشكلت سياسات القذافي الأساس لتوسع القطاع غير المشروع إلى نطاقة الحالي.

تظل هيمنة الدولة وملكيتها للموارد سمة مميزة للصوصقراطية في ليبيا. وقد قام القذافي في أواخر السبعينيات بتأميم الشركات الكبرى في الدولة، مما ادى إلى القضاء على القطاع الخاص وسيطرة الدولة على كافة جوانب الحياة في ليبيا. على سبيل المثال، أصبح مصرف ليبيا المركزي يمتلك الكثير من القطاع المصرفي في ليبيا بدلا من الاقتصار على تنظيمه.

ويعني احتكار مصرف ليبيا المركزي للقطاع المصرفي تمتع محافظ المصرف المركزي بسلطات واسعة في الاقتصاد الليبي حتى يومنا هذا. ومن الجدير بالذكر أنه تم تعطيل ضمانات الدولة ضد الانتهاكات واختيار المسؤولين وتمكينهم على أساس علاقاتهم مع كبار قادة النظام.

في حين ادعى القذافي طيلة عقود من حكمه أنه ليس له أي دور قيادي في إدارة الاقتصاد الليبي، فإنه بذل في الواقع جهودا كبيرة لتعزيز نفوذه على كل أموال الدولة، وكانت أولويته القصوى هي حفاظه على السيادة والبقاء. وقد أدى هذا النمط من الحكم إلى أضعاف المؤسسات الاقتصادية من الناحية الهيكيلية، خاصة ما يتعلق بالضوابط والتوازنات الرسمية.

ولم يظهر قطاع خاص فعليّ في ليبيا مرة أخرى، نظرا إلى أن فرص النجاح في الأعمال التجارية كانت تتوقف بشكل كبير على العلاقات الداخلية مع الدولة.

في مطلع القرن العشرين، سعت الحركة الليبرالية التي نصبت نفسها بنفسها، والتي يقودها سيف القذافي، إلى إعادة تقديم الإصلاحات الاقتصادية القائمة على السوق ومواصلة عملية خصخصة المؤسسات المملوكة للدولة. ومع ذلك ظل القطاع الخاص الذي تم طرحه يعتمد على القطاع العام من خلال توفير العقود وامتيازات الوصول، في حين ظلت الهيئات التي تم تشكيلها حديثا لإستثمارات الدولة مثل المؤسسة الليبية للإستثمار تحت السيطرة الفعلية للنظام.

وقد ساهمت هذه الاتجاهات في إضعاف المؤسسات الرسمية للدولة، وتوضح جزئيا سبب عدم قدرة مؤسسات الدولة الرسمية على القيام بدور تنفيذي في نظام ما بعد 2011.

وقد حافظ القذافي على سلطته على النظام من خلال إنشاء كتائب أمنية وميليشيات موالية أخرى، بالتعاون مع الأمن الداخلي وجهاز المخابرات، والكتائب الأمنية المسلحة. وواجه معارضو النظام عواقب وخيمة تفرض خارج نطاق القضاء.

وبالتالي تمكن القذافي من خلال توطيد السلطة داخل الأجهزة الأمنية ـ التي ركزت بشكل أساسي على حماية النظام من الانقلابات بدلا من حماية الدولة، وذلك بالحكم المباشر، على الرغم من عدم وجود أي دور رسمي له داخل الحكومة أو بيروقراطية الدولة.

غضت الأجهزة الأمنية النظر عن الممارسات غير القانونية التي أصبحت تشكّل العمود الفقري للأنشطة الاقتصادية غير المشروعة التي نشأت منذ عام 2000، وإن كان على نطاق محدود، في حين استمر القذافي في تطبيق القانون بشكل انتقائي للغاية، حيث تغاضى النظام عن بعض الأنشطة مثل تهريب البشر والوقود، مستخدما تهريب البشر كوسيلة للضغط على الحكومات الأوروبية، وتهريب الوقود كوسيلة لاستمالة النخب المحلية والتأثير على الدول المجاورة.

في حين أن هذه الأنشطة شهدت زيادة كبيرة من حيث الحجم والتعقيد في نظام بعد 2011، فإن الجريمة المنظمة كانت منتشرة قبل الإطاحة بالنظام.

اللصوص القدامى والجدد

أتت الاطاحة بالنظام وانهيار أجهزته الأمنية في عام 2011 إلى إلغاء الضوابط المحدودة القائمة على نهب الثروات العامة في كل من القطاع العام والقطاع غير المشروع المتفاقم، مما أدى إلى انشاء انماط التنافس للسيطرة على الدولة وأصولها التي هي على المحك اليوم.

في عام 2023، كان اللصوصيوقراطيون الرئيسيون في ليبيا مزيجا من الجهات الفاعلة التي برزت في عهد القذافي قبل 2011، والجهات الفاعلة الجديدة ـ التي يقبع معظمها في قطاع الأمن ـ التي اكتسبت وسائل مهمة لإبراز القوة المادية على الأرض بعد اندلاع الانتفاضة المناهضة للقذافي في فبراير 2011.

ومنذ ذلك الحين، لم يتم تنفيذ أي جهود إصلاحية جوهرية تقريبا: فلا يزال معظم الاقتصاد يعتمد على استخراج النفط والغاز، في حين ازداد عدد موظفي القطاع العام. ورغم وجود قطاع خاص رسمي إلا أنه يعتمد بشكل كبير على الدولة في العقود والتمويل والتجارة، حيث يستفيد روّاد الأعمال ذوو العلاقات الجيدة من المعارق الشخصية داخل الدولة للحصول على فرص تجارية مفيدة.

من الناحية القانونية، يعد الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي في الوقت الحالة متواضعا في أفضل الأحوال، حيث يقوم أصحاب النفوذ غير المنتخبين الذين يسيطرون على القطاعات الامنية والاقتصادية والسياسية في الدولة بشكل معتاد باقتناص الفرص أو بمساعدة شركائهم للحصول على الموارد مع الاحتفاظ بالامتيازات والنفوذ.

في أعقاب ثورة عام 2011 مباشرة، لم يكن السياسيون الأكثر تأثيرا في ليبيا مرتبطين بالجيل الجديد الناشئ من الجماعات المسلحة، ولكن سرعان ما أدركت هاتان الفئتان من الجهات الفاعلة قيم الشراكة مع بعضها البعض.

بالاضافة إلى ذلك، أصبحت شخصيات غير مسلحة تتمتع بإمكانية الوصول إلى رأس المال ـ بما في ذلك رجال الأعمال والتكنوقراطيين في الدولة ـ على وعي بكيفية توظيف الأموال من أجل التأثير على الجماعات المسلحة القائمة أو تشكل جماعات جديدة مواليه لها.

وعلى هذا النحو، أدت محاولات دمج الجماعات المسلحة غير الرسمية في وزارات الدولة وهيئاتها إلى نتائج عكسية مرارا وتكرارا، حيث استولى أذكي قادة الجماعات المسلحة ـ أو أصدقاؤهم وأقاربهم الموثوق بهم ـ على مناصب رسمية منحتهم امتيازات على موارد الدولة دون الخضوع لرقابة مدنية.

يساعد الطابع الممزق للمشهد الأمني بعد عام 2011 في تفسير سبب زيادة الأنشطة غير المشروعة بشكل كبير من حيث الاتساع والحجم.

وقد عززت الجماعات المسلحة، التي تعمل بشكل وثيق مع مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة غير المسلحة، سيطرتها على الأراضي واستخدمت نموذج اقتصاد الحماية لتعزيز أنشطتها المتعلقة بالاختلاس والاحتيال في المشتريات والتهريب والإتجار في العديد من فئات السلع، بما في ذلك الأسلحة والمخدرات والبشر.

أتت هذه التطورات مجتمعة إلى إضفاء الطابع العسكري على السياسة الليبية، وتركيز السلطة بين النخبة وقادة الجماعات المسلحة، بما يمثل مجموعة صغيرة من الأفراد الذين يتنافسون أو يتفاوضون حاليا مع بعضهم البعض على الثروة والسلطة والصلاحيات. وقد أدى التنافس على الأسواق والموارد، إلى جانب دوافع أخرى مثل الأيديولوجية والانتقام والتدخل الأجنبي، إلى إشعال شرارة سلسلة من الصراعات المدنية خلال الفترة الممتدة من 2014 إلى 2020.

وفي ظل استمرار الخلافات دون تسوية، برزت حكومات متنافسة في شرق ليبيا وغربها من عام 2014 حتى عام 2021، وذلك عند تعيين حكومة الوحدة الوطنية من خلال عملية مدعومة من قبل الأمم المتحدة.

وتظرا إلى التفويض بتأهيل ليبيا للانتخابات وإعادة توحيد المؤسسات المنقسمة، كانت حكومة الوحدة الوطنية أول سلطة تنفيذية في طرابلس يقبلها الشرق منذ عام 2014، ولو لبضعة أشهر فقط. وقد أدى انهيار الانتخابات المخطط لها ـ التي كان من المقرر أجراؤها في ديسمبر 2012 ـ إلى الإنقسام مرة أخرى حيث قام مجلس النواب بتعيين حكومة منافسة في فبراير 2022. ولم تتنازل حكومة الوحدة الوطنية واستمرت في توليها السلطة في طرابلس، على الرغم من أن ولايتها لا تمتد كثير إلى خارج مناطق من شمال غرب ليبيا.

وفي مقابل حكومة الوحدة الوطنية، التي تتمتع بشبه احتكار لاستخدام القوة في معظم باقي المناطق في الدولة ، هناك ما يسمى بالقوات المسلحة العربية الليبية، وهو التحالف المسلح الذي يقوده قائد المتمردين المتمركز في الشرق، خليفة حفتر. ويرفض كل من مجلس النواب وقوات حفتر الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية كحكومة شرعية وطنية.

ويسود شعور غير حقيقي بالاستقرار حيث تتعايش الفصائل المتنافسة وتبرم صفقات قصيرة الأجل بغية الحفاظ على مصالحها في خضم هذا الوضع الراهن.

وفي حين يخفق القادة الحاليون في تحقيق أي عملية لإعادة توحيد المؤسسات بشكل ملائم أو نزع السلاح أو إصلاح قطاع الأمن أو المصالحة السياسية، إلا أنه من الواضح أن لديهم مصلحة مشتركة في فرض نظام مكن من خلاله تحقيق أساليبهم الخاصة في التعامل الذاتي، ونهب موارد الدولة، وإساءة استخدام السلطة وغيرها من الممارسات غير القانونية من دن أية قيود أو آليات للمساءلة.

يتبع

_____________

The Sentry

مواد ذات علاقة