نظام محطم

في حين أن العديد من مواطن الضعف في القطاع المصرفي الليبي، نشأت نتيجة لسياسات الاستقطاب في عام 2014، إلا أنه تم الحفاظ عليها لأنها تسهّل آلية عمل اللصوصيون في ليبيا.

ويساعد الانقسام المستمر في النظام المصرفي مجموعة من الممارسات غير المشروعة وشركات السوق السوداء حيث يستخدم المستفيدون نفوذهم وتأثيرهم لعرقلة العودة إلى الحياة الطبيعية.

ويدرك المسؤولون عن الإشراف على النظام المصرفي أنه سيكون من الأسهل استبدالهم إذا نفذوا الإصلاحات النظامية المناسبة، ولهذا السبب يتم تحفيزهم للإكتفاء بإدارة النظام المعطّل بدلا من إصلاحه.

ومن الأمثلة الواضحة على هذا الاتجاه الضرورة المستمرة لمصرف ليبيا المركزي

لتوزيع كميات كبيرة من الأوراق النقدية المادية في كل أنحاء البلاد. بالإضافة إلى ذلك، من المرجخ أن تتكرر بعض الانتهاكات المتعلقة بالأعمال المصرفية التي تمت في الفترة من 2014 إلى 2020.

على سبيل المثال، في الفترة الممتدة من 2016 إلى 2018، استخدم زعماء شرق ليبيا الأوراق النقدية المطبوعة في في روسيا لشراء كميات كبيرة من الدولارات في السوق السوداء، مما أدى إلى إضعاف سعر صرف الدينار وزيادة تآكل القوة الشرائية للأسر الليبية العادية في جميع أنحاء ليبيا.

ولا يوجد ما يمنع فصيل حفتر من استيراد عدة مليارات آخرى من الأوراق النقدية المطبوعة في روسيا، ومن المحتمل أن يحدث

ذلك نظرا إلى أنه في أواخر عام 2022، استأنف فصيل حفر الاقتراض من البنوك التجارية الشرقية دون الحصول على تصريح رسمي من طرابلس. وقد طورت عائلة حفتر نفوذها على المؤسسات الاقتصادية والمالية المتمركزة في الشرق، مما أثار مخاوف بشأن الضعف المنهجي والانتهاكات المحتملة لأموال الدولة.

وخلال الفترة الممتدة من عام 2014 إلى عام 2020، ساعد النفوذ العسكر لحفتر في إقناع البنوك التجارية في شرق ليبيا بمساعدة الهيئات المتحالفة مع قوات حفتر. وشمل ذلك مصرف التجارة والتنمية، الذي كان يرأسه جمال عبدالملك حتى مايو 2022. وفي الآونة الأخيرة، ذهبت عائلة حفتر وأقرب شركائها إلى أبعد من ذلك في ضمان الولاء السياسي للمصرفيين والممولين الرئيسيين في شرق ليبيا. وقد منحت العديد من المناصب ذات المسؤوليات المالية الحاسمة لأفراد لهم صلات وثيقة بعائلة حفتر منذ عام 2022.

ظهور السوق السوداء

في ظل عدم وجود حكم رسمي أو سيطرة للدولة، ظهرت السوق السوداء في ليبيا لتصبح منصّة سائلة منتشرة يمكن للمشاركين من خلالها تحويل كميات كبيرة من الدينار الليبي إلى دولارات. وبهذه الطريقة، يمكن تداول كميات كبيرة من العملات المادية بأمان ودون ترك أي أثر مستندي. علاوة على ذلك، ترتبط السوق السوداء في ليبيا بنظيراتها في دول أخرى، مثل الإمارات وتركيا وسوريا ولبنان.

وقد تطورت مجموعة الآليات التي تتيح التحويل والإثراء الشخصي بالتزامن مع توسّع السوق السوداء خلال العقد الماضي. خلال الفترة الممتدة من 2013 إلى 2016، أدت الانقطاعات النفطية الطويلة في الشرق على وجه الخصوص إلى انخفاض كبير في عائدات ليبيا بالدولار من النفط والغاز، مما أدى إلى نشوب أزمة ثقة كبيرة في النظام المصرفي الرسمي.

وتأثر النظام المصرفي بكاملة، وانخفضت قيمة الدينار مقابل الدولار في السوق السوداء، في حين بقي سعر الصرف الرسمي دون تغيير، وقد أتاح هامش هذا الفارق، والذي استمر حتى أواخر عام 2018، تحقيق أرباح هائلة، خاصة عبر خطابات الاعتماد. وقد أدى تعديل سعر الصرف الرسمي في عام 2020 إلى الحد من هذه الفرص بشكل كبير. واصلت خطابات الاعتماد تقديم فائدة كبيرة للفصائل الليبية المسلحة باعتبارها الشريان الوحيد للوصول إلى العملات الأجنبية داخل القطاع المصرفي الرسمي.

وقد عانى السكان بشكل عام نظرا لتعاون المشاركين في السوق السوداء وكبار رجال الأعمال وقادة الجماعات المسلحة معا للإستفادة من الوضع. إن النقص المستمر والمزمن في الأوراق النقدية جعل من الصعب على الليبيين سحب الأموال النقدية من حساباتهم، مما أدى إلى أهمية السوق السوداء للأسر والشركات في أنشطتها اليومية.

في ذروة أزمة السيولة خلال الفترة الممتدة من عام 2016 إلى عام 2019، شعرت الاسر والتجار على حد سواء بالإحباط الشديد من استخراج الأموال المادية من حساباتهم، لدرجة أنه انتهى بهم الأمر إلى القيام بذلك في السوق السوداء، على الرغم من أن ذلك تطلب منهم التنازل عن جزء كبير من قيمة الصك المصرفي الخاص بهم.

ويمكن فقط للمشغلين المرتبطين بالجماعات المسلحة تقديم هذه الخدمة، نظرا إلى أهمية اللوجستيات المادية والقوة المسلحة لأي شخص يشارك في الوصول إلى الاوراق النقدية وتوزيعها.

ونتيجة لهذه الديناميات، أصبح التمييز بين القطاعين المشروع وغير المشروع في ليبيا شبه مستحيل، ويتنقل النقد باستمرار بين القطاع الرسمي للاقتصاد والسوق السوداء، مما يسهّل على الجهات الفاعلة غير المشروعة غسيل أموالها القذرة عن طريق إعادة تدويرها في حسابات مصرفية تجارية مشروعة على ما يبدو ثم إرسالها إلى الخارج على شكل دولارات.

وجدت دراسة اجراها المعهد الأقليمي لأبحاث الجريمة والعدالة التابع للأمم المتحدة أن الفساد وغسل الأموال من القضايا الشاملة التي تربط الجريمة في ليبيا بالتدفقات المالية الدولية غير المشروعة عبر الحدود.

وعلى نطاق أوسع، أدى استمرار ضعف النظام المصرفي الليبي إلى جعل اقتصادها المشروع يعتمد بشكل حيوي على السوق السوداء في التحركات الأساسية لرأس المال بين المناطق الشرقية والغربية من البلاد. وإذ أن الفرع الشرقي لمصرف ليبيا المركزي لا يزال معزولا عن نظام مقاصّة المدفوعات في طرابلس، فإن الشبكة المصرفية بأكملها في البلاد لا تزال تعتمد على التحويلات النقدية المخصصة التي ينسقها المقر الرئيسي لمصرف ليبيا المركزي. ولا يمكن سد الفجوات إلا من خلال نظام مقاصّة رقمي موحّد.

وقد سعت الأمم المتحدة إلى الاستفادة من المراجعة المالية التي تم إجراؤها دوليا لمصرف ليبيا المركزي كوسيلة لدعم إعادة توحيده، ولكن من دون أي جدوى. وما ما لم يتم إحراز تقدم على هذه الجبهة، فإن السوق السوداء الليبية ستستمر في لعب دور لا غنى عنه في الاقتصاد المشروع للبلاد، مما يؤدي صعوبة الجهود الرامية لمكافحة غسير الأموال.

طرق متعددة للربح: نظرة شاملة

تسارعت وتيرة الأنشطة اللصوصية في غرب ليبيا وشرقها على حد سواء العامين الماضيين. وإلى جانب حجمه بالدولار، فإن تطور القطاع غير المشروع وتنوعه وترسيخه المؤسسي أخذ في النمو.

تتفاقم مجموعة من نماذج الأعمال غير القانونية، حيث يستغل بعض الأفراد الأكثر نشاطا عدة قطاعات في آن واحد. وقد برزت هذه الاتجاهات في بيئة أمنية تم فيها القضاء على العنف المسلح على الأراضي الليبية نتيجة الوجود الراسخ للمرتزقة الروس والقوات التركية التي أنشأت توازن القوى في أعقاب معركة طرابلس 2019 ـ2020

منذ تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في عام 2021 واختفاء خطط الانتخابات المقرر إجراؤها في العام نفسه، بدأت الوسائل الدبلوماسية الدولية في التلاشي.

يعمل القليل من شبكات اللصوصية الليبية الأكثر صلة بالموضوع بطريقة إجرامية أو انتهازية بشكل كامل. وغالبا ما يقومون بتعزيز مساعيهم غير القانونية كما يؤدون وظائف بناءة اجتماعيا، مثل الأمن اليومي ومكافحة الإرهاب. وتجعل هذه الازدواجية من الصعب على الجهات الخارجية إدانة بعض أبرز صناع القرار الليبيين الذين تحتاج الولايات المتحدة ودون أخرى إلى تعاونهم.

ونتيجة لذلك، فإن ثقافة الإفلات من العقاب المنتشرة تحمي اللصوص الليبيين وأنشطتهم، وقد تفاقم هذا الأمر. لا توجد حاليا بوادر فعلية على تقديم الأشخاص الذين يحولون الأموال العامة لتحقيق مكاسب شخصية لمحاكمة جنائية في ليبيا.

ويعمل كبار اللصوصقراطيين في ليبيا بما ينتهك القانون دون الخضوع لأي ضوابط تقريبا. في حين أن اعتقال الجهات الفاعلة من الصف الثاني والثالث يتم في بعض الأحيان على أساس تهم الفساد، فحتى هؤلاء المشتبه بهم غير الأساسيين غالبا ما يطلق سراحهم بمجرد تحول اهتمام وسائل الإعلام. أن الدورة المألوفة حاليا هي بمثابة تذكير بضعف نظام الحكم الليبي القائم.

مخططات العمل الإداري

في حين تم التركيز بشكل كبير على أنشطة الجماعات المسلحة، فإن شركائها الأقل عنفا في المجالات السياسية والتجارية حظوا بقدر أقل من الاهتمام، ومع ذلك كان الضرر الذي احدثوه هائلا. وقد ساهمت التجاوزات داخل هياكل الدولة، في كل من الشرق والغرب، في التدهور الكبير للبنية التحتية للبلاد، بما في ذلك سدود درنة، وانهيار الخدمات العامة والوضع الذي يضطر فيه الليبيون دفع الكثير مقابل القليل.

تعتمد جرائم العمل الإداري على السيطرة على عناصر الدولة أو الوصول إلى المسؤولين الذين لديهم سلطة اتخاذ القرارات نيابة عن مؤسسات الدولة. وهو يشمل مجموعة من المخططات، تشمل الاحتيال في العقود والاختلاس ونقل المنافع العامة إلى الملكية الخاصة بشكل غير قانوني.

إمتياز الوصول إلى التمويل المدعوم من الدولة

اعتمدت حظوظ الجهات الفاعلة في القطاع الخاص في ليبيا إلى حد كبير على الوصول إلى خزائن الدولة. منذ عام 2011، كانت الطرق الرئيسية لذلك هي الاحتيال في تمويل التجارة والعقود.

وقد أصبح الربح من تمويل التجارة أقل أهمية اليوم، لكن العلاقات مع مصرف ليبيا المركزي لا تزال مهمة للحفاظ على أي عمل تجاري يعتمد على الواردات ولتوفير السيولة في السوق السوداء.

تحتاج الشركات التي تسعى إلى استيراد البضائع من الخارج إلى استخدام خطابات الاعتماد للحصول على تمويل تجاري، ويجب الحصول على ترخيص من مصرف ليبيا المركزي.

وخلال الفترة الممتدة من 2016 إلى 2018 على وجه الخصوص، سمح الفارق الكبير بين سعر الصرف الرسمي الذي يقدمه مصرف ليبيا المركزي والسعر المتاح في السوق السوداء للأشخاص الذين يتمتعون بامتياز الوصول إلى خطابات الاعتماد بالحصول على أرباح هائلة عن طريق بيع السلع بأسعار أعلى، ونقل النقد الأجنبي إلى الخارج بشكل غير قانوني، أو بيع النقد الأجنبي الذي بحوزتهم ومن خلال الأرباح المحققة من آليات تمويل التجارة، أصبح قادة الجماعات المسلحة والسياسيون موظفو الخدمة المدنية ورجال الأعمل ذور العلاقات الجيدة أكثر ثراء إلى حد كبير. وسارعت الجماعات المسلحة إلى اكتساب الخبرة من شركائها في السوق السوداء.

وبحلول عام 2018، كان معظمهم قد اكتسب المعرفة اللازمة لإنشاء شركات كواجهات خاصة بهم وقنوات مالية لغسيل الأموال في الخارج. وقد سهلت الأرباح التي تم الحصول عليها من خلال الوصول المتميز إلى تمويل التجارة الصعود السريع للعديد من الشخصيات التجارية.

على سبيل المثال، يشك بعض المراقبين في أن أحد هؤلاء الأشخاص هو محمد الطاهر عيسى، الذي تحول من كونه تاجر أغذية متوسط الحجم قبل عام 2011 إلى تكوين إمبراطورية تجارية كبيرة وجمع ثروة هائلة. وسعت شركة الطيران التي أطلقها الطاهر عيسى حديثا، سماء المتوسط للطيران، مؤخرا إلى توسيع أسطولها من الطائرات ـ وهو إشارة أخرى للوصول المتميز إلى برنامج خطاب الاعتمادالخاص بمصرف ليبيا المركزي.

يتبع

_____________

The Sentry

مواد ذات علاقة