بقلم: يزيد صايغ

تواجه الدول العربية التي تمر بمرحلة في مراحل انتقالية مهمة تبدو عصيّة على الحل: إعادة بناء مؤسّسات الدولة والعقود الاجتماعية في عصر التغيّر العالمي. ومن المؤكد أن الفشل سيكون مآل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن التي تعجز عن فهم المعضلات والتحدّيات التي تعرقل هذا الجهد، أو التي تختزله في علاقة مبسَّطة بين إصلاح قطاع الأمن وإرساء الديمقراطية.

احتلّت الصراعات حول قطاع الأمن حيّزاً مركزيّاً في سياسات كل الدول العربية التي مرّت في مراحل انتقالية، غداة النزاعات المسلّحة أو الاضطرابات السياسية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي. وفي الأماكن التي لم تتم فيها إعادة تشكيل التحالفات النخبوية التي كانت قائمة قبل المرحلة الانتقالية، أو لم يتمّ استبدال هذه التحالفات، لم تعد قطاعات الأمن تخدم بوضوح نظاماً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً مُهيمناً. في ضوء هذه السياقات، لاتستطيع النماذج النمطية المأخوذة عن الغرب لإصلاح قطاع الأمن، توفير حلٍّ مناسب لمعضلات كشفت الدول العربية التي تخوض مراحل انتقالية النقاب عنها، بل تقتصر قدرتها على تغيير هذه القطاعات بشكلٍ سطحي وحسب. إذن، ثمة حاجة إلى تغييرٍ شامل، لكن الحالة السياسية والمؤسسية الهشّة التي تشهدها الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية تشكّل عقبة كأداء

معضلات ضبط الأمن في الدول العربية التي تخوض مراحل انتقالية

الأُطُر الدستورية في هذه الدول مفكّكة والميدان السياسي يشهد استقطاباً حادّا، الأمر الذي يمنع بروز الحوكمة الفعّالة لقطاعات الأمن.

قدرات الدولة تتراجع، الأمر الذي يقوّض قدرة قطاع الأمن على المساعدة في الحفاظ على النظام الاجتماعي والاقتصاد العادل (أو مايُسمّى منذ القرن الثامن عشر الاقتصاد الأخلاقي). 

إعادة تشديد هذه الحكومات على محاربة الإرهاب، فاقمت أنماط قديمة من السلوكيات العنيفة وإفلات قطاع الأمن من العقاب، مايعزّز مقاومة القطاع للإصلاح، في حين يدفع المواطنين إلى قبول عودة الممارسات السلطوية.  

فاقم تضاؤل موارد الدولة، وازدياد الاقتصادات غير الرسمية، وتراجع الشرعية، تكاليف إصلاح قطاعات الأمن وجعلها أكثر مهنيّة. ودفعت هذه التطوّرات قطاعات الأمن إلى التورّط في الفساد والتواطؤ مع الشبكات الإجرامية والجماعات المسلّحة، ماعزّز مقاومة هذا القطاع للإصلاح.  

لجأت أعدادٌ متزايدة من المواطنين إلى أشكال بديلة من ضبط الأمن المجتمعي وإلى آليات ترتكز على الأعراف، غير أن هذه الأنظمة تتآكل، ليحلّ محلّها في كثير من الأحيان هيئات هجينة تستند إلى الميليشيات.

مستقبل مليء بالتحديات

لايمكن أن يشقّ إصلاح قطاع الأمن طريقه، إلّا إذا رأت النخب السياسية والقوى المؤسّسية الرئيسة مصلحة مشتركة فيه. وبسبب غياب ذلك، انشقّت قطاعات الأمن وفق خطوطٍ طائفية وإثنية وحزبيّة، أو أكّدت على استقلالها الذاتي التام سعياً وراء أجنداتها الخاصّة

قواعد الشفافية العامّة وآليات الإشراف النمطية التي تدعو إليها مقاربات الإصلاح التقليدية، لايمكنها أن تتصدّى إلى الفساد أو النشاط الاقتصادي غير الشرعي في قطاع الأمن. أمّا الدول العربية التي تخوض غمار مراحل انتقالية، فهي على وجه الخصوص غير مستعدّة لأن تقوم بإصلاحات ضرورية لكن محفوفة بالمُجازفة، أو أن تفرض المساءلة

تتطلّب إعادة تأهيل وإصلاح قطاعات الأمن مقاربة غير متحزِّبة، وتعتمد على التوصّل إلى توافق معقول حول مكوّنات النظام الاجتماعي وحول مبادئ الاقتصاد العادل المقبول. في غياب ذلك، لن يكون للمساعدة التقنية والتدريب اللذين يُطرحان بشكلٍ روتيني في برامج الإصلاح من قيمة تُذكر.

كشف الربيع العربي بصورة مثيرة مدى الغضب الشعبي تجاه قوى الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي التي حافظت على الأنظمة الاستبدادية وحكومات الحزب الواحد، أو الحكومات غير التمثيلية. بيد أن الاستياء العميق من سلطة الدولة القسرية شكّل أيضاً عمليات انتقالية حدثت سابقاً، لدى خروج مجتمعات عربية أخرى من النزاع المسلّح أو من الاحتلال المباشر

اتّخذت كل حالة مساراً مختلفاً. بيد أن المرحلة الانتقالية لم تؤدّ في أي منها إلى توافق دائم بين الأطراف السياسية الفاعلة الرئيسة أو في المجتمع عموماً في مايتعلق بدور قطاع الأمن والحوكمة فيه؛ وهو القطاع الذي يتكوّن من قوى الشرطة ومختلف القوات شبه العسكرية وأجهزة الأمن الداخلي والاستخبارات والجمارك، وغيرها من الإدارات التي تعمل في الغالب تحت الإشراف المباشر لوزارات الداخلية. ويبدو هذا جلياً في مايتعلق بضبط الأمن في أوسع معانيه: الدفاع عن النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد؛ وقمع المعارضة؛ وإنفاذ القواعد الاجتماعية، وهو مايقوم به قطاع الأمن برمّته. وربما ينظر أفراد المجتمع عموماً إلى توفير مياه الشفة والكهرباء والخدمات البلدية بوصفها استحقاقات بديهية ومنافع عامة أساسية، ومع ذلك تتباين المفاهيم إلى حدّ كبير حول تحديد مايشكّل ضبطاً جيداً للأمن

يتم استحضار هذه الاختلافات بقوة في مرحلة مابعد الصراع المسلّح، أو في أوضاع مابعد الاستبداد حيث تكون الدولة والعقد الاجتماعي منهارين، أو يجري إعادة التفاوض بشأنهما على كل المستويات، وغالباً وسط درجات متفاوتة من تدخّل القوى الإقليمية والدولية. وهذا هو السبب في أن العمليات الانتقالية في الدول العربية أثبتت أنها معقّدة ومطوّلة، إن لم تكن مستحيلة. فقطاع الأمن متورّط بحدّة في صراعات أوسع نطاقاً حول الأطر الدستورية، وأساليب العمل السياسي وترتيبات الحكم، والعلاقات والمعايير الاجتماعية التي يجب أن يجسّدها كل منها، الأمر الذي يربك عملية الإصلاح إن لم يعرقلها تماماً

يشكّل انسداد الأفق هذا تحدّياً أساسياً للحكومات الغربية والمنظمات الدولية والجماعات الحقوقية المحلّية التي أصبح من البديهي بالنسبة إليها منذ أواخر التسعينيات النظر إلى إصلاح قطاع الأمن باعتباره جزءاً لايتجزأ من عملية إعادة الإعمار في مرحلة مابعد الصراع، والتنمية، والانتقال الديمقراطي. يركّز الإصلاح، بصورة تقليدية، على بناء المؤسّسات باعتبارها مفتاح ضمان التزام عناصر قطاع الأمن بسيادة القانون والإدارة الفعالة والمساءلة. ولذلك، يركّز الإصلاح أيضاً على تطوير القدرات الفنّية وتقديم الضمانات الإجرائية لتطوير إدارة الموارد البشرية والمادية على نحو يتّسم بالكفاءة والشفافية. وفي حين أن تجارب الدول العربية جديرة بالثناء من حيث القيم الأساسية والنتائج المرجوّة، فإنها تُظهر أن هذا النهج يخفق في معالجة المعضلات التي أحدثتها عملية الانتقال، ناهيك عن حلّها

ثلاث معضلات

تعقّدت عملية إصلاح قطاع الأمن في الدول العربية بما لايقاس، بسبب إرث تلك الدول من الحكم الاستبدادي أو القائم على المحسوبية، وأيضاً بسبب النخب التي لاتخدم إلّا نفسها، وجماعات المصالح الاقتصادية ذات الامتيازات، والمؤسّسات العامة المختلّة وظيفياً أو المتدهورة. فقد طوّرت الأنظمة الاستبدادية في العقود السابقة للربيع العربي منظومات حكم جذبت معظم الأطراف والشبكات الفاعلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى فلكها، مادفعها إلى التكيُّف معها والتعايش مع متطلّباتها. وفي موازاة ذلك، قوبِلت الأعداد المتزايدة من السكان من ذوي الدخل المنخفض وفي المناطق النائية، الذين تم تهميشهم بسبب برامج التكيّف الهيكلي، واقتصادات الليبرالية الجديدة المَشوبة بالمحسوبية، والخصخصة الجائرة من ثمانينيات القرن الماضي فصاعداً، قوبِلت بالعنف الروتيني ذي الوتيرة المنخفضة من جانب قطاعات الأمن، وكثيراً ماعاقبتهم نظم القضاء الجنائي عندما قاوموها، مادفع الكثير منهم إلى اللجوء بدلاً من ذلك إلى أساليب غير رسمية لضبط الأمن والفصل في المنازعات. كان هذا واضحاً على وجه الخصوص في بلدان الربيع العربي التي شهدت انتقالاً في نهاية المطاف في مصر وليبيا واليمن، ومع بعض التحفظات في تونسأو محاولة انتقالفي البحرين وسورية. غير أن اتجاهات وديناميكيات مماثلة، انبثقت أيضاً بدرجات متفاوتة في العمليات الانتقالية (وإن الجزئية) في مرحلة مابعد الصراع والتي حصلت في الجزائر والعراق ولبنان والسلطة الفلسطينية

السيولة الفائقة للمراحل الانتقالية في فترة مابعد الانتفاضة وما بعد الصراع، تجعل مهمة إصلاح قطاع الأمن صعبة للغاية: فبصرف النظر عن النهج المُتَّبَع تجاهه، يؤثّر الإصلاح على مصالح مروحة متنوّعة من الأطراف الفاعلة، وغالباً بطرق متناقضة. وعلى المنوال نفسه، فإن إصلاح قطاع الأمن بل وتحوّله التام في الواقع هو جزء لايتجزأ من عملية الانتقال الديمقراطي، ويجب أن يجري بالتوازي معها. بيد أن هناك ثلاث معضلات تقف في طريقه.

تتعلّق المعضلة الأولى بالتسييس المُفرَط: مدى الأهمية السياسية التي يكتسبها كل جانب ومظهر ممكن من مظاهر العملية الانتقالية ليصبح السبب والهدف في نزاع الحصيلة صفر (فيه غالب ومغلوب)، الأمر الذي يؤدّي إلى شلّ الدولة، هذا إن لم يقوّض مفهوم الدولة نفسه. ذلك أن استعادة قطاع أمن فاعل كلّياً، ناهيك عن إصلاحه، يتطلّب تأسيس مستوى معقول من التوافق المجتمعي حول طبيعته ودوره (جنباً إلى جنب مع القوات المسلّحة) كجهاز قسري رئيس للدولة. غير أن هذا أمر صعب المنال في سياق السياسة المزدوجة حيث يأخذ الفائز كل شيء ويذهب الخاسر إلى السجن، ويزداد صعوبة عندما تكون طبيعة ودور الدولة نفسها أيضاً موضع نقاش

أدّت السيولة الملحوظة في مرحلة مابعد الصراع والتحوّلات الديمقراطية على مدى العقدين الماضيين، والإرث القوي للسياسة المزدوجة والسياسات الإقصائية، إلى تسييس المناقشات حول قطاع الأمن إلى حدّ كبير. ونتيجة لذلك، وبسبب تراجع قدرة الدولة واتّساع رقعة الانقسامات الاجتماعية، أصبح العنف، بطريقة ما، أداة للتنافس السياسي بين الأطراف الفاعلة الجَهويّة أو الطائفية أو العرقية أو القبلية

في المقابل، تعتمد الشرعية السياسية لحكومات مابعد المرحلة الانتقالية في الدول القوية بصورة متزايدة على وعودها بتوفير الاستقرار للمواطنين الذين ينظرون إلى ارتفاع معدلات الجريمة والإرهاب والفوضى الاجتماعية باعتبارها هموماً أكثر إلحاحاً من غياب الديمقراطية، أو سيادة القانون أو حقوق الإنسان. وبالتالي، ويذعن هؤلاء المواطنون إلى تجدّد الممارسات الاستبدادية

المُعضلة الثانية هي معضلة الاقتصاد السياسي. ومع أن إنفاذ القانون يعتبر في العادة مصلحة عامة واضحة وخالصة، يبدو الواقع أكثر تعقيداً. فمن ناحية، تتصل هذه المعضلة بتكاليف التحديث والتأهيل المهني لقطاعات الأمن والنتائج المحتملة للإصلاح على الأمن الوظيفي والرعاية الاجتماعية، إذا كان يتطلّب القيام بعمليات تسريح واسعة للموظفين. من ناحية أخرى، فإن أكثر من عقدَين من عمليات تحرير الاقتصاد المشوَّهة القائمة على المحسوبية، والخصخصة الجائرة في العديد من الدول العربية، حفّزت على ضلوع قطاع الأمن الواسع في الفساد والأنشطة الاقتصادية الإجرامية. وقد عزّزت المرحلة الانتقالية هذه الاتجاهات بصورة كبيرة، ماحوّل عناصر الشرطة وغيرهم من أفراد الأمن إلى مايُسمّى مقاولي عدم الأمان، إذ هم لايفرضون القانون بقدر مايتفاوضون حوله، وغالباً عن طريق الفساد وبيع الحماية.

نتيجةً لهذه الديناميكيات، تتباعد الآراء والتوقعات بشأن الأهداف الرئيسة لضبط الأمن في المجتمع، مايُفضي إلى بروز المعضلة الثالثة. ذلك أن إنفاذ القانون يعني أكثر من مجرّد مكافحة الجريمة أو الحفاظ على السلم العام، إذ هو أساسي للحفاظ على النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد. وهذا يتصل بالهياكل والقيم التي تضمن أمن الأشخاص والممتلكات وآليات حلّ النزاعات المتعلقة بها. كما يشمل مفاهيم مايشكّل اقتصاداً عادلاً، أي ماتعتبره فئات المواطنين أو المجتمعات المحلية توازناً عادلاً بين حقوقهم والتزامات النخب أو سلطات الدولة أو قوى السوق التي تشكّل حياتهم. لم يُضعف الانتقال في الدول العربية الآليات الرسمية لضبط الأمن والفصل في المنازعات وحسب، بل جعل أيضاً من الصعب أيضاً الاستمرار في التسويات والمقايضات التي سمحت في السابق للمفاهيم المتباينة للنظام الاجتماعي والاقتصاد العادل بالتعايش ضمن فضاء وطني واحد. وعلى العكس من ذلك، من المرجّح أن ترسّخ أي محاولة لإعادة بناء أو إصلاح قطاع الأمن (ونظام القضاء الجنائي المرتبط به) التوقعات المتباينة لمختلف القطاعات الاجتماعية بشأن القيم الاجتماعية التي ينبغي مراعاتها.

التسييس المفرط والسخط الناجم عنه

تآكل أو انهيار النظم السياسية والنظام الدستوري في عدد متزايد من الدول العربية، لايفضي إلى بدائل واضحة. وهذا يتناقض مع حالات انتقالية تاريخية سابقة انتقلت فيها السلطة وتغيّر شكل الدولة، لكنها بقيت على حالها. كانت تلك التغييرات واضحة في الحقبة الاستعمارية حتى الاستقلال، ومن الحقبة الأولية لما بعد الاستقلال حتى الفترة الطويلة للحكومات المستقرّة، ولو أنها استبدادية عموماً، بعد العام 1970. لكن الآن، لم يعد هناك اعتراف ذو قيمة بالدساتير كإطار مُلزِم، أو كسلطة عليا لتنظيم التنافس السياسي وتخفيف حدّته

في ظل غياب القواعد والمجالات المقبولة عموماً لخوض السياسة سلمياً، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، بات العمل السياسي يميل إلى اتّخاذ أشكال عنيفة أكثر فأكثر، وغالباً وفق انقسامات مجتمعية (سواء كانت طائفية أو عرقية أو قبلية أو جهويّة). وقد أدّى تركيز الحكومات المحلية ونظيراتها الإقليمية والدولية على مكافحة الإرهاب، مع استبعاد أي أجندة جدّية لإصلاح قطاع الأمن، إلى تعزيز الميل إلى تفضيل استخدام الإكراه في التعامل مع المعارضة السياسية أو الاجتماعية

كانت نتيجة ذلك حدوث استقطاب حادّ لأي نقاش يتعلّق بقطاع الأمن في الدول العربية، الأمر الذي عرقل إجراء حتى التحسينات الأساسية، ناهيك عن إصلاحات بعيدة المدى

ترسيخ معارضة الإصلاح

كانت الديمقراطيات الوليدة في الدول العربية مضطربة ومنفلتة، ماجعل استنساخ السياسة المزدوجة لحقبة ماقبل الانتقال أمراً لامفرّ منه تقريباً. وقد نشأت معظم الأحزاب السياسية والقادة الذين وصلوا إلى السلطة من خلال عمليات الانتقال الكبرى في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين في ظل الحكم السلطوي أو نظم الصراعات المسلّحة، وهو ماشكّل إلى حدّ كبير طبيعة تصوراتهم وأساليب عملهم. وعندما أصبحوا في الحكم، مالوا بصورة عامة تقريباً إلى اعتبار قطاع الأمن إما عدوّاً محتملاً يمكن استرضاؤه من أجل ضمان بقاء إداراتهم الوليدة، أو أداة يجب السيطرة عليها لإضعاف منافسيهم وتوطيد سلطتهم. وحتى في الحالات التي تم فيها إرساء ديمقراطية محدودة، عُزّز مفهوم ضيّق عن الديمقراطية مفاده أن الفائز يحصل على كل شيءميل الأحزاب أو النخب الحاكمة الجديدة إلى تكييف مواقف أسلافهم ومقارباتهم تجاه قطاع الأمن، بدل استبدالها

وكما تدلّ مراجعة المحاولات الجزئية والمتردّدة لإصلاح قطاع الأمن في تونس ومصر وليبيا واليمن بعد العام 2011، فإن حكوماتها المؤقّتة لم تمِل تلقائياً إلى الانفتاح، ولم تسْعَ بصورة منهجية إلى عقد حوار واسع مع قطاع الأمن (أو الشركاء والمنافسين السياسيين)، أو المجتمع المدني.

توقعت جماعة الإخوان المسلمين المصرية وحركة النهضة التونسية، اللتان كانتا أكبر الأحزاب في الحكومات والبرلمانات الانتقالية في بلديهما، الانتقال من التهميش السياسي والإداري والاجتماعي والاقتصادي إلى بؤرة المركز، وعليه فقد سعتا على أبعد تقدير إلى تحييد وزارتي الداخلية. ونتيجةً لذلك، تجنّب كلا البلدين حدوث انهيار شامل، ولكن على حساب إبقاء المقاومة العنيدة لأي إصلاح من جانب القطاعات الأمنية. وأعقب تلك المقاومة نكوص إلى الثورة المضادّة في مصر ورفض علني للرقابة الحكومية في تونس.

تباين مسار الإصلاح أو إعادة الهيكلة بصورة كبيرة في ليبيا واليمن، حيث شهد كلا البلدين انهياراً مؤسّسياً في أعقاب المرحلة الانتقالية. فقد أصبحت الصراعات الهادفة إلى السيطرة على قطاع الأمن عنصراً أساسياً في السياسة الوطنية بعد العام 2011، ما أدّى إلى تقويض العمليات الانتقالية وفي نهاية المطاف إلى حرب أهلية في العام 2014. ففي ليبيا، وفي غياب التفاهمات السياسية والقيود المؤسّسية الثابتة، جرى اختصار إصلاح قطاع الأمن إلى حدّ كبير في عمليات تطهير واسعة لموظفي النظام السابق، مدعومة بقانون عزل امتدّ ليشمل المجالين السياسي والإداري أيضاً. كما تسبّبت ديناميكيات مماثلة في اليمن في عمليات تعبئة مضادّة مدمّرة عندما سعت فصائل النخبة المتنافسة إلى بناء قواعد دعم سياسي داخل قطاع الأمن وخارجه، من أجل إثبات ذاتها في ترتيبات الحكم الجديدة.

وجدت قطاعات الأمن في عدد من الدول العربية أن من الملائم سياسياً طرح ردّات فعلها الارتكاسية تجاه تحدّيات الإصلاح باعتبارها دفاعاً عن العلمانية في مواجهة سلطوية الإسلاميين المقبلة، ولاسترضاء جمهور محلّي محدود والحكومات الغربية، أو الحصول على دعم كلٍّ منها. والواقع أن ردّات فعلها هذه تكشف عن عدم الرغبة في الخضوع إلى إشراف وسيطرة أي نوع من السلطات المُنتخبة ديمقراطياً.

هذا الأسلوب في التفكير له سوابق تاريخية واضحة. ففي الجزائر، استولت أجهزة الأمن والجيش على السلطة في كانون الثاني/يناير 1992، عقب فوز الأحزاب الإسلامية في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية. وهي فعلت ذلك لمنع الانتصار المتوقع للإسلاميين في الجولة الثانية، والذي كان سيدفعها إلى استبدال الحكومة القائمة منذ فترة طويلة. وبالمثل، رفضت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية إطاعة الحكومة الجديدة التي شكّلتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد فوزها في الانتخابات العامة في كانون الثاني/يناير 2006، ماعجّل من سيطرة حماس بالقوة على قطاع غزة بعد عام وبروز شرخ دائم في السلطة الفلسطينية.

تمثّلت المضاعفات المترتّبة على هذه الاتجاهات الاستقطابية في ترسيخ مقاومة الإصلاح كموقف تلقائي لدى قطاع الأمن في كل دولة عربية تمرّ في مرحلة انتقالية تقريباً، وتكريس عدم الثقة في إصلاح قطاع الأمن بين النخب السياسية والقطاعات الاجتماعية والفعاليات الاقتصادية، حتى عندما تكون هي المستفيدة منه.

العنف كعملة سياسية

إلى جانب هذه الصراعات في النظم السياسية، دفع تآكل الأمن الأساسي والعقود الاجتماعية الأطراف الفاعلة على أنواعها الجهوية أو الطائفية أو الإثنية أو القبلية إلى القيام بعملية تعبئة مضادّة. وقد شمل ذلك في كثير من الأحيان حمل السلاح وتحدّي سلطة الدولة مباشرة. وفي الوقت نفسه، سهّل اتّساع رقعة التصدّعات في مؤسّسات الدولة تشكيل هياكل أمنية موازية، وضاعف احتمالات وقوع أعمال العنف. وقد امتدّت ثقافة الإفلات من العقاب المتأصّلة في الأجهزة الأمنية الرسمية بسهولة إلى الأطراف المسلّحة غير الرسمية، التي إمّا كانت موجودة قبل عمليات الانتقال أو ظهرت في أعقابها، وأعادت إنتاج اللجوء إلى العنف والإكراه والقمع. وقد بات عكس هذه الديناميكيات ووقف الابتعاد عن المركز، من أصعب التحدّيات التي برزت في أعقاب الربيع العربي، كما حدث في حالات الانتقال السابقة في مرحلة مابعد الصراع في الجزائر والعراق ولبنان والسلطة الفلسطينية

كانت هذه الاتجاهات واضحة جدّاً في ليبيا، حيث كانت الديناميكيات السياسية في أوساط العدد الكبير من الميليشيات، التي ظهرت بعد الانتفاضة ولدى فلول القوى الحكومية أو الهياكل الأمنية الهجينة والمجالس البلدية معقّدة للغاية. وهذا يعكس المصالح الاجتماعية ذات الطابع المحلي جدّاً التي تُمثِّلها تلك القوى والهيئات والمستوى المنخفض من قدرة المؤسّسات الرسمية والأطر القانونية على ممارسة وظائفها الأساسية، والتي تختلف، علاوةً على ذلك، بصورة ملحوظة من منطقة إلى أخرى. وحتى بعد أن أنتجت الانتخابات البرلمانية التي جرت في تموز/يوليو 2012 بنجاح المؤتمر الوطني العام، فقد طغى على المؤتمر أيضاً التنافس المتزايد بين المعسكرين الإسلامي والعلماني؛ ومسلسل اغتيالات الضباط والمسؤولين من عهد الزعيم الليبي معمر القذافي؛ والاستياء وعدم الثقة المتبادلَين بين فلول الجيش وقطاع الأمن من جهة والميليشيات الثورية من جهة أخرى.

كانت مركزية عملية الإكراه كعامل في تشكيل السياسة الانتقالية، واضحة أيضاً في معظم الحالات الأخرى. ففي اليمن، عُقِد مؤتمر الحوار الوطني بين أذار/مارس 2013 وكانون الثاني/يناير 2014 في ظل عملية إعادة تجميع عسكرية كانت تلوح في الأفق لشبكات الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح في القوات المسلّحة، وحشد تعبئة لدى أنصار الله (الجماعة المتمرّدة الزيدية المعروفة باسم الحوثيين الذين يقاتلون الحكومة المركزية منذ العام 2004)، وتهديد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب المتجسد في سلسلة طويلة من عمليات اغتيال لمسؤولين أمنيين. وفي سورية، حيث تم إفراغ هياكل الدولة إلى حدّ كبير منذ بداية الأزمة في العام 2011، أصبح نظام الرئيس بشار الأسد يعتمد على الميليشيات التي ترعاها الدولة والشبكات الاقتصادية الوكيلة، مثلما فعلت جماعات المعارضة المختلفة

وقد ساهمت الفوارق الجَهوية أيضاً في ظهور وصمود الجهات المسلّحة غير الدُّولتية، وغالباً ماتزامن هذا مع المظالم والتعبئة الطائفية. ويبدو هذا واضحاً بالتأكيد في ليبيا، حيث إن الحركة الفيدرالية التي تدعم الحكم الذاتي لبرقة قوية في الشرق، فيما تسعى الأقلية الأمازيغية إلى الحصول على مزيد من الحكم الذاتي في أقصى الغرب. كما تحرّض مختلف العداوات العرب وغير العرب والقبليين وغير القبليين وفلول نظام القذافي في الوسط والجنوب، ضدّ بعضهم البعض. والأمر نفسه ينطبق على سورية أيضاً، حيث رسمت الحرب الأهلية مناطق طائفية وإثنية وعشائرية واضحة نسبياً، يهيمن عليها العلويون في المنطقة الساحلية، والأكراد على الحدود الشمالية مع تركيا، والعشائر في الشمال الشرقي، والدروز على الحدود الجنوبية مع الأردن، وجيوب سنّية متعدّدة ومتنافسة تنتشر في جميع أنحاء البلاد.4 وفي اليمن، اقتطعت الحركة الحوثية، وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وأنصار الرئيس عبد ربه منصور هادي، والانفصاليون الجنوبيون، بالقوة مناطق سيطرة متناحرة.

الشرعية ومكافحة الإرهاب

شهدت مطالبة المواطنين بإصلاح قطاع الأمن انحساراً حادّاً في معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية. ويبدو هذا أمراً مخالفاً للمنطق، لأن أداء قطاعات الأمن فيها لم يتحسّن حتى بصورة هامشية. إلا أن ذلك يشكّل استجابة طبيعية لتنامي مدركات التهديد بين المواطنين، في مواجهة ظاهرة الارتفاع الواضح في معدّلات الجريمة (بما في ذلك جرائم العنف، التي كانت منخفضة على مدى عقود في البلدان العربية مقارنةً مع مناطق أخرى من العالم)، وانتشار الجماعات المسلّحة وزيادة الإرهاب، وعدم اليقين بشأن المستقبل السياسي والاقتصادي. هذه الاتجاهات المُقلِقة تطرح إصلاح قطاع الأمن كضرورة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، لكنها أيضاً تجعل الإصلاح يبدو منفّراً وبغير وقته بالنسبة إلى عامّة المواطنين.

ينظر المواطنون العرب، أكثر فأكثر، إلى الخيار السياسي الماثل أمامهم باعتباره ينحصر بين الديمقراطية والاستقرار. وبالنسبة إلى الكثيرين، لاتتأتّى شرعية الحكم من تعميق التحوُّل الديمقراطي وضمان احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، بل من إثبات الفعالية في قمع مصادر التهديد الملموسة. وكما تبيّن بوضوح في مصر منذ إطاحة حكم الإخوان المسلمين في تموز/يوليو 2013، فإن ذلك ربما يمتدّ ليشمل مطالب بإقصاء قطاعات اجتماعية وسياسية برمّتها يُنظر إليها على أنها معادية بطبيعتها، وأحياناً حتى التخلّص منها كليّاً. وقد أثّرت ديناميكية استقطابية مشابهة في العراق ولبنان وتونس لاطريقة نفسها، ولكن أقل بكثير في الجزائر، حيث سعى صنّاع القرار إلى إشراك جزء كبير من الطيف الإسلامي سياسياً كوسيلة لضمان الاستقرار.

علاوةً على ذلك، تتقاطع هذه الاتجاهات بسهولة مع الانقسامات الطائفية أو القبلية أو الإثنية أو الجهوية، التي تجعل من السهل تصوير الآخرين على أنّهم يمثّلون تهديدات جماعية. الأهم من ذلك هو أن الاتجاهات تتزامن مع الانقسامات الطبقية في البلدان التي تعاني من نمو هائل في الطبقة الدنيا المهمّشة سياسياً واقتصادياً، أي الأعداد الكبيرة من الناس الذين يعيشون عند أو تحت خط الفقر، وغالباً في مساكن غير قانونية أو غير مسجّلة، في ظل محدودية أو عدم وجود الخدمات العامة والبنية التحتية، والذين يشكلون الاقتصاد غير الرسمي. وقد سبق أن تم استهداف هذا القطاع الاجتماعي الواسع بعمليات ضبط أمن قمعية لعقود من الزمن رداً على المعارضة الاجتماعية والاقتصادية، ولكن في دول عربية عدّة تمرّ في مراحل انتقالية، بات يُنظر إلى القطاع أكثر فأكثر باعتباره بيئة داعمة للتطرّف الإسلامي

وفّرت الحملة الآخذة بالتوسُّع ضد الإرهاب في أنحاء المنطقة إطاراً معيارياً شاملاً للسياسة العامة. فالنخب الحاكمة التي تقود دولها الآن تستغل مواقعها الرسمية لإضفاء الشرعية على سياسات الأمن الصدامية والقمع الوحشي للمعارضة، كما فعل الائتلاف الفضفاض الذي حكم مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ تموز/يوليو 2013، ونظام الرئيس السوري بشار الأسد.

علاوةً على ذلك، تمسّكت عناصر النظام القديم القوية وفلول شبكات السياسيين ورجال الأعمال والنخب البيروقراطية في هاتين الدولتين، كما في معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، بالخطاب الرسمي الذي يركّز على حفظ القانون والنظام العام ومكافحة الإرهاب. وينطبق ذلك حتى على تونس، حيث أعطى حزب نداء تونس، الذي فاز في الانتخابات العامة التي أجريت في تشرين الأول/أكتوبر 2014 ويرأسه الباجي قائد السبسي (وهو سياسي من عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي)، إشارة الموافقة على تشكيل ائتلاف ضم حركة النهضة الإسلامية المعتدلة إلى حكومة الوحدة الوطنية الجديدة. وعلى الرغم من ذلك، تبنّى قطاع الأمن التونسي خطاباً يرتكز على مكافحة الإرهاب لالتبرير معارضته للإصلاح وإعادة الهيكلة وحسب، بل أيضاً لتبرير معارضته لإشراف الحكومة عليه.

ولسوء الحظ، فإن تجدّد ظاهرة إفلات قطاعات الأمن التي لم تتم إعادة هيكلتها من العقاب، صار يعني العودة إلى ممارسات الماضي السيّئة، وبقدر أقل من الرقابة السياسية أو القضائية مما كان عليه الحال في السابق. وفي موازاة ذلك، استعادت الحكومات، أو أصدرت، قوانين استبدادية ورجعية تؤثّر على حرية الصحافة ووسائل الإعلام الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية وعلى الحق العام في الاحتجاج والتظاهر. وحتى عندما لم تتعرّض إلى التخويف أو الاستلحاق، إلا أن قطاعات القضاء المُنهَكة بالعمل والتي تعاني من نقص التمويل، لم تتمكن من موازنة أو التخفيف من وطأة هذا الاتجاه، ولاتزال في حاجة ماسّة إلى إعادة التأهيل

***

يزيد صايغ ـ باحث رئيسي ـ مركز كارنيغي للشرق الأوسط

يتبع الجزء الثاني

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *