• بقلم د. خالص جلبي

في عام 1198م مات (ابن رشد)، بعد أن طرده الغوغاء من مسجد قرطبة، ونفاه الملك الموحدي إلى قرية الليسانة اليهودية بعمر السبعين. وبعد عشرين عاماً طُحِنت الدولة الموحدية بجنب مدينة (ثيوداد رويال) في الأندلس في معركة العقاب في أفظع عقاب.

وبعدها تهاوت الحواضر الأندلسية كورق الخريف، بالنسيا 1236م، قرطبة 1238م، وأخيراً إشبيلية عام 1248م، ومع أفول عصر الموحدين دخل العالم العربي ليل التاريخ، وأنتج إنسان ما بعد الحضارة كما في نفايات الطاقة بعد استهلاكها.

وهكذا تفعل الحضارة بالإنسان، تستهلكه كمادة خام، وتصنعه إنساناً متفوقاً، ويخرج منها متبخّر الطاقة الإبداعية. يظهر بعدها على السطح إنسان يتقن التمثيل، ويؤدي كلّ الأدوار بدءاً من الصعلوك وانتهاءً بالإمبراطور. قد تبخّر عنده المثل الأعلى، ووقع في شبكة (علاقات القوة) في مجتمع فرعوني تحول إلى (مستكبرين ومستضعفين). يعيش (كالإيميبيا) على شكل كائن رخوي بدون مفاصل تحدد حركته، وبدون عمود فقري يقيم صلبه. يحلّ مشاكله بمدّ أذرع كاذبة قابلة للتشكل على أيّ صورة، فيمكن أن يأخذ صورة (قلم) يوقع كلمة نعم في كلّ انتخاب، كما يمكن أن يكون (بوقاً) مردداً ما يطلب منه من شعارات، أو (بندقية) تقوم بحفلات الإعدام حسب الأوامر، أو (سيارة) جاهزة للقيادة لمن يحكم قبضته على مقودها ولو كان لصاً يخطفها، فمتى اعترضت سيارة على هويّة السائق؟ وبتعبير مالك بن نبي عن هذا الكائن الاجتماعي: (ثم يبدأ تاريخ الانحطاط بإنسان (ما بعد الموحدين)، ففي عهد ابن خلدون استحالت القيروان قرية مغمورة بعد أن كانت في عهد الأغالبة قبة الملك وقمة الأبهة والعاصمة الكبرى التي يقطنها مليون من السكان، ولم يكن حظ بغداد وسمرقند خيراً من ذلك؛ لقد كانت أعراض الانهيار العام تشير إلى نقطة الانكسار في المنحنى البياني).

تروي لنا السيرة والتاريخ واقعتين على التشكل الصحي للمجتمع أو الانحراف المرضي.

أمّا الأول فهو موقف أحد الصحابة في معركة أحد وهو يفارق الحياة قائلاً: لاعذر لكم إن خُلِص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف.

وأمّا الثاني فهو عقيل بن أبي طالب يواجه مصادرة الحياة الراشدية على يد البيت الأموي: (إنّ صلاتي خلف عليّ أقوم لديني، وإنّ معاشي مع معاوية أقوم لحياتي).

فالتاريخ ينقل لنا هنا مأساة انفكاك الضمير عن الواقع. في الوقت الذي كان علي نموذجاً يندمج فيه الضمير مع المثل الأعلى والحياة (إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين).

إنّ حادثة السيرة تروي أقصى ما يمكن أن تفعله التربية بالإنسان والمجتمع يمكن أن يحدد بين الصحة والمرض بموجب مؤشرين: إنتاج (النموذج الإنساني) و(الكمية الحرجة) من الكتلة، كما في أي تغير نوعي في أي وسط، فالقنبلة النووية لم تنفجر إلا بكتلة حرجة، كما أنّ تغير الماء النوعي يتمّ وفق الدرجة الحرجة سواء في التجمد أو التبخر، وهذا ينطبق على اندلاع الثورات في المجتمع، عندما تصل إلى الوضع الحرج بين سوء الأوضاع من طرف، والوعي الجماهيري من طرف مقابل.

وهناك ثلاثة مستويات يمكن أن يتشكل وفقها (الإنسان الاجتماعي):

ففي الأول يبرز إنسان مستلب الإرادة، والثاني محرر الإرادة، والثالث إيجابي الإرادة.

فأمّا الأول فممسوخ الآدمية أقرب إلى القردة والخنازير يفعل ما يوحى إليه في مجتمع متدني الفعالية، يعبد سادته وكبراءه، يعيش حالة وثنية سياسية بأصنام وصور مشرعة. وهو ما شبهناه بشكل القلم أو البوق أو البندقية، فلا يرد القلم ما تخطه اليد من الموافقة بنعم، أو بوق يردد رجيع الصوت بدون مناقشة، أو يقوم بالجريمة بأكبر حجم لأنّ الأوامر جاءت هكذا.

إنّ إنسان ما بعد الموحدين مستعد أن يهدم الكعبة لو أمر بذلك، ولربما بكى وهو يفعلها. هذا النموذج الممسوخ يمثل الطبيعة في ظاهرة (القصور الذاتي)، فالسقوط محتم لكلّ الأشياء باتجاه الأسفل. أمّا الصعود فيحتاج إلى طاقة، وهنا تفعل التربية فعلها فترتفع بالإنسان باتجاه المثل الأعلى.

يقول مالك بن نبي: (وهنا لا نواجه تغيراً في النظام السياسي، بل إنّ التغير يصيب الإنسان ذاته الذي فقد همته المحضرة فأعجزه فقدها عن التمثل والإبداع). ويطرح عالم النفس البريطاني (هادفيلد) في كتابه (التحليل النفسي للخلق) هذا السؤال الحرج: ما هو المنبّه المناسب لتنشيط الإرادة؟ ويجيب إنّ كلّ حاسة لها مثيراتها، وهكذا فالفوتونات تحرض حاسة البصر، والذبذبات الصوتية تحرض حاسة السمع، والجزيئات الكيمياوية تحرض حاسة الشم، ولكنّ ما يحرض الإرادة هو المثل الأعلى.

ويرى المؤرخ البريطاني (توينبي) أنّ الإرادة الجماعية تحرّض عند بروز التحدي التاريخي في وجه جماعة اختارت العمل المشترك، وهو ما تفعله التربية بالقفز بالإرادة الإنسانية إلى فرق جديد في الطاقة فتتحرّر، ويؤدي الأعمال في صورة مواطن واع مشارك مسؤول، فيفعل ما يراه صحيحاً، ويمتنع عن المعصية.

وهكذا يظهر إلى سطح المجتمع إنسان جديد (محرّر الإرادة)، ليس عصا للضرب بكلّ يد، أو طبلاً جاهزاً للقرع بكلّ الأنغام والرقصات، أو مسدساً جاهز الزناد لإعدام أيّ أحد، ولو كان أباه.

إنّ القرآن قرن بين ثلاثة مظاهر للمسخ في اتجاه العبودية، فذكر (القردة والخنازير وعبد الطاغوت)، ويظن البعض أنّ المسخ كان بيولوجياً، وهو ثقافي كما نرى. إنّ أول ما نزل من القرآن كان سورة العلق، وهي أكدت ثلاثة معانٍ مفصلية:

ـ الأول: تأكيد الكرامة بالقراءة (اقرأ وربك الأكرم) من خلال تغيير محتوى الوعي بالمعلومة المكتوبة بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.

ـ والثاني: معالجة أشدّ مشاكل المجتمع خبثاً واستعصاءً وهو الطغيان، وأنّه قابلية مشكلة في جبلة كلّ منا إذا مُنح السلطة بدون ضوابط. ونحن نعرف أنّ سلطة قليلة تعني فساداً قليلاً، وسلطة مطلقة تعني فساداً مطلقاً.

ـ والثالث: وصفة بسيطة للتخلص من الطغيان، وهو (عدم التعاون) ورفض الطاعة، لأنّ الحساب في الآخرة فردي، ويجب أن يفكر الإنسان باستقلال ويتصرف بإرادة، وهو مسؤول عن أعماله ولو كانت مثقال حبّة من خردل. والاقتراب من الله في النهاية لا يتمّ بغير سجود فعلي، ولا سجود إلا برفض طاعة الطاغية (كلا لا تطعه واسجد واقترب).

في انتخابات أيّ بلد عربي شمولي لو جلس الناس بكلّ بساطة في بيوتهم ورفضوا النزول إلى الانتخابات فما الذي سيحصل لهم؟ إنّ الناس لا تقرأ القرآن عمّا فعل فرعون بالجماهير (واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم)، إنّ العقل معتقل، وإنّ المثقف مقطوع اللسان. وإنّ مواطناً تُقدّم له بطاقة يخيّر فيها بين (نعم) و(لا) كحق دستوري ويشعر أنه مجبر على مخالفة ضميره لمواطن مسحور.

إنّ السحر أعيد إحياؤه بعد موت هاروت وماروت بأربعة آلاف سنة. يقول مالك بن نبي عن (إنسان ما بعد الموحدين): إنّ (نفسه المريضة تخلقت في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي).

إنّ القرآن يبني فلسفته ليس على قتل الباطل، أو التآمر على النظام، ولا إشباع القلب بكراهية الحاكم أو محاولة اغتياله، فكلها اختلاطات مربكة لا تزيد المرض إلا سوءاً.

ونعود إلى فكرة النماذج:

فالأول: هو الإنسان العربي الحالي الذي طلّق إرادته ثلاثاً في بينونة كبرى، قد لبس حلّة القاصرين، وهناك من يفكر عنه بالوكالة.

والثاني: هو من تحرّرت إرادته من العبودية فرفض الطاعة.

أمّا الثالث: فهو الذي يقول قبل أن تهدموا الكعبة اقتلوني فلن أرى ما يحدث أو أسمح به.

إنّ الجيوش والشعوب العربية كلها تقاد إلى الكوارث من خطامها، لأنها في حالة خدر لذيذ مغيبة الوعي عن التاريخ خارج العصر، يفعل بها الأوصياء مايشاؤون.

إنّ شحن الإرادة من السلبية المطلقة إلى الإيجابية المطلقة هو محصل تيار إلكتروني عارم من الإرادة، بدفعها باتجاه المثل الأعلى، كما يفعل الليزر بتجميع حزم الضوء باتجاه نقطة واحدة حارقة.

يروي المؤرخ ديورانت أنّ (كوبرنيكوس) اكتحلت عيناه بكتابه عن الأجرام السماوية قبل موته بساعة. ويبقى السؤال لماذا كان اكتشاف كوبرنيكوس انقلابياً إلى هذا الحد، وهو لا يزيد عن شرح من يدور حول من؟ والجواب في ثلاث زوايا: زلزلة أشدّ الأمور وثوقاً، ووجوب إعادة النظر في مفاصل أساسيات التفكير، وأنّ الإيمان يجب أن يحرّر من الدوغمائية. فالإيمان هو تقليب النظر في السموات والأرض آيات لأولي الألباب، وأنّ الكفر هو إغلاق منافذ الفهم وتكميم الأفواه عن التعبير، وأنّ الكافرين لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها.

ويفيدنا هذا الأمر اليوم في إضاءة ثلاث حقائق:

إنّ الشعوب هي التي تختار أصفادها فهي إلى الأذقان فهم مقمحون. والحكام لا يزيدون عن كواكب انفصلت من جرم الشمس فهي تدور حول الأمّة، وأنّ الحاكم على دين الأمّة وليس العكس. وأنّ الكسوف الاجتماعي يتمّ عندما تكفّ إرادة الفرد عن التشكل، فيبهت كلّ شعاع، وتنضب كلّ طاقة، ويدخل المجتمع ليل التاريخ.

يقول مالك بن نبي: (وطالما ظلّ مجتمعنا عاجزاً عن تصفية هذه الوراثة السلبية التي أسقطته منذ ستة قرون، فإنّ سعيه إلى توازن جديد سيكون باطلاً عديم الجدوى)، وما يحتاجه المجتمع بالدرجة الأولى هو العلوم الأخلاقية والنفسية، أمّا العلوم المادية فقد تكون على حد تعبيره: (خطراً في مجتمع ما زالوا يجهلون فيه حقيقة أنفسهم، ومعرفة إنسان الحضارة أشقّ كثيراً من صنع محرك أو ترويض قرد على استخدام ربطة عنق).

إرادة العبودية (في محاولة لفهم آلية الطغيان)

وصف المؤرخ (سويتون) جنازة القيصر في كتابه (حياة القياصرة الاثني عشر) (كتاب العبودية المختارة ـ اتيين دي لابواسييه ـ ترجمة مصطفى صفوان، الحاشية 38) على النحو التالي: (فلما أعلن عن موعد الجنازة نصبت المحرقة في ميدان مارس (إله الحرب) تجاه منصة الخطابة. ولما تبين أنّ اليوم كله لن يكفي لمرور الناس الذين اصطفوا حاملين قرابينهم، صدر قرار بأن يحمل كلّ من شاء قرابينه إلى ميدان مارس، واكتفى القنصل أنطونيو مارك في رثائه بأن طلب إلى أحد المنادين أن يقرأ مرسوم مجلس الشيوخ الذي أسبغ على قيصر بالإجماع كلّ التشريفات الإلهية والإنسانية، ولم يضف هو إلا كلمات قليلة. وكان البعض يرى حرقه في معبد جوبيتر والآخر في مجلس الشيوخ. وإذا برجلين تمنطق كلّ منهما بسيف وحمل بيده رمحاً يشعل فيه النار فجأة بشموع موقدة. ولم يلبث جمهور المشيعين أن كدّس حوله الحطب والمقاعد ومنصات القضاة. بعدئذ خلع لاعبو المزامير والممثلون ثياب الاحتفال بالنصر التي كانوا قد ارتدوها لهذه المناسبة وزجوا بها في النار. إلى جانب هذه المظاهر العامة التي تجلى فيها حزن الجمهور أدت الجاليات الأجنبية مراسم الحداد، كلّ جالية على حدة حسب طقوسها، وبخاصة اليهود الذين ذهبوا إلى حد التجمع حول قبره ليالي متعددة. وبعد أن انتهت الجنازة شيد له عمود من مرمر بلغ ارتفاعه عشرين قدماً، ونقش عليه: إلى أبي الوطن). والسؤال المحيّر والملحّ الذي يطرح نفسه: كيف يقفز البشر إلى هذه المنزلة من القداسة في محياهم ومماتهم؟ وحتى نعرف معنى هذا الكلام ميدانياً فليتجرأ أحد الناس فيجرب حظه علناً في شارع مكتظ بالناس فيقوم بالتعرض لمقدّس ما، ثم التعرض لرئيس الجمهورية في بلد عربي، وعندها سيرى في أيّ من الحالتين تكون قوى الأمن أسرع بإلقاء القبض عليه وإشباعه ضرباً بالسوق والأعناق، ممّا يفتح عيوننا على استيعاب أين دائرة المحرّم والمقدّس فعلاً.

كيف يضع فرد قبضته على رقبة شعب بأكمله فيرسم مصيره إلى حين؟

كيف تقع الشعوب في قفص العبودية وكيف تتحرّر؟

كيف يتحول الإنسان (عملياً) إلى (إله) يملك أقدار الناس في أرزاقهم وتسريحهم من وظائفهم، في حريتهم واعتقالهم متى يشاء، في حياتهم فيدفعهم إلى الإعدام أو ساحات القتال في صورة قرابين بشرية أو سجنهم حتى الموت أو دفعهم إلى الهروب من البلد في موت من نوع جديد.

كان تعبير النبي يوسف عليه السلام واضحاً أنّ فرعون هو عملياً ربّ العباد والبلاد (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن)، وبالمقابل فإنّ فرعون هتف بالناس (ماعلمت لكم من إله غيري)، وبالتالي فهو يملك القداسة والحقيقة الحقيقية النهائية المطلقة (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). ونحن اليوم نظن أنّ فرعون هو بيبي الثاني الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد، وليس كلّ من اتصف بصفاته، وبذلك نقرأ القرآن بعيون الموتى، وعلى الموتى في مناسبة موت الرؤساء.

إنّ إدراك قوانين التغيير الاجتماعي أهمّ بما لا يقارن من اكتشاف قوانين الفسيولوجيا أو أطلس المورثات والجينوم البشري. والمشكلة الخطيرة التي واجهها الأنبياء في التاريخ هي المشكلة الاجتماعية، ولعل أخطر مرض يواجه المجتمع هو في كيفية تنظيم نشاطه.

في 18 أغسطس من عام 1562م توفي شاب فرنسي هو (اتيين دي لابواسييه) عن عمر 32 سنة بعد أن ترك خلفه كتاباً صغيراً بعنوان (العبودية المختارة)، اختفى تحت لجّة التاريخ، وكان صديقه الفيلسوف (ميشيل مونتيني) هو من انتبه إلى أهمية النص، ولكن لم يتمكن من نشره لأنه كما قال: (إنّ فيه حياكة أدق وألطف من أن تخرج إلى الجو الخشن الذي اتسم به ذلك العصر الفاسد)، وفي عام 1936 تمّ إعدام الشاعر الأندلسي (فيديريكو غارسيا لوركا) في ظروف غامضة في الحرب الأهلية الإسبانية، والسؤال كيف تحكم الآلة الاجتماعية على تصفية إنسان؟ من أصدر الأوامر؟ من نفّذ واعتقل؟ من أطلق النار؟ وكيف يتمّ الإجهاز على الناس بهذه الآلة الاجتماعية من تسلسل الأوامر؟ وكيف يتحول البشر مع تتابع الهيراركية (التراتبية) إلى آلات صماء تنفّذ أفظع الأشياء بأقلّ الأوامر وبكلمة واحدة: اعدموه!.

إنّ كتاب (لابواسييه) يمثل فعلاً (سوبرنوفا) اجتماعية، فهذه الظاهرة الكوسمولوجية لها ما يشابهها في قوانين الاجتماع. وكما في الانفجار النجمي الهائل الذي يصل نوره على موجات الضوء تعبر الفضاءات الكونية فنبصرها على الأرض، فهناك ما يشبه هذا في الظواهر الاجتماعية.

وعندما تنقدح الأفكار بشرر كالقصر فإنها تعبر الفضاء الثقافي في زمن يطول ويقصر على نحو متغير حسب قدرة الاستقبال عند المجتمعات، ويقدر الغور الثقافي الذي يفصل عن مكان انفجار الأفكار بمسافات عقلية وليست مكانية، فقد يولد تركي في ألمانيا ويعيش فيها ولا يعرف سوى مصنع الصلب الذي يشتغل في أفرانه، وقد يعيش إنسان في الأرجنتين بعيداً عنها بمسافة ألفي كيلومتر، ويتذوق الفلسفة الألمانية ويعرف متى دشنت ميكانيكا الكم.

وهكذا فإنّ أفكار لابواسييه غطست عبر العصور لينشر النص الكامل عام 1835م للمرّة الأولى بعد 273 سنة من وفاة صاحبها، ولكنّ هذا الانفجار المعرفي لم يصل إلى فضاء الثقافة العربية إلا بعد أربعة قرون ونصف مع نهاية القرن العشرين، على نحو باهت يكاد لا يرى بفعل كثافة قشرة الثقافة العربية ومناعتها ضدّ التغيير وغيابها عن الحضور العالمي. وهو كتاب لم يلاقِ الرواج حتى الآن ولم ينتبه إليه إلا الآحاد.

يتعجب (لابواسييه) من سقوط البشر في أصفاد العبودية، كيف يخضعون لجبروت شخص واحد يأكل ممّا يأكلون منه ويشرب ممّا يشربون؟ (فلست أبتغي شيئاً إلا أن أفهم كيف أمكن لهذا العدد من الناس من البلدان ومن الأمم أن يحتملوا أحياناً طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه. إنّه لأمر جلل حقاً، وأدعى إلى الألم منه إلى العجب أن ترى الملايين يخدمون في بؤس وقد غلت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر، بل هم فيما يبدو قد تمّ سحرهم).

نعم إنّه السحر الجديد. عندما أراد البعض تعريف السحر قالوا إنه الشيء على غير حقيقته، وعندما وصف القرآن عمل السحرة ذكر تصورات موسى عليه السلام (خيل إليه من سحرهم أنها تسعى)، فهذا التخيل لشيء ليس له أرضية، ويتمّ من خلال اغتيال العقل بطريقة خفية ومدروسة.

إنّ الاسلام أراد تحرير الإنسان من فكرة المعجزة وامتيازات الأشخاص جميعاً في أي خانة كانوا من عائلة أو حزب أو طبقة او طائفة أو جنس، وعمد إلى كسر احتكار الكهان والسحرة والعرافين لإخراج نموذج جديد للإنسان والمجتمع، إنسان محرّر بعقل غير معتقل، ومجتمع توحيدي متجانس بدون طبقات وامتيازات.

إنّ الدين جاء لمعالجة أعقد مشكلة إنسانية، وهي تحريره من الوثنية، ولذا فإنّ موضوعه الجوهري يتصل بأكثر مشاكل المجتمع إلحاحاً، وإنّ الشرك الذي لا يغفر ولا تنفع معه طاعة، وإنّ التوحيد الذي لا تضر معه معصية هو في إعلان كلمة السواء في المجتمع، فلا يستقل أناس بامتيازات، أو أن يمسخ المجتمع بانقلابه إلى آلهة وعبيد و(مستكبرين ومستضعفين).

هذه القضية أرّقت الفلاسفة والمفكرين والسياسيين، وفي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي طرح خروتشوف هذا السؤال المحوري: كيف أمكن لفرد واحد مثل ستالين أن يتحكم بمصير أمّة؟ كيف أرسل للموت مئات الآلاف ولم يقتل واحداً بيده؟ كيف كانت نظرة سيئة منه لعضو في المكتب السياسي تجعله يرتجف هلعاً بقية حياته؟

إنّ كارثة الحكم الفردي وسيطرة النخب والعائلات والأنظمة الشمولية عرضها (الكتاب الأسود) للكاتب الفرنسي (ستيفان كورتوا Stephane Courtois ) الذي صدر في فرنسا، وكيف أنّ مائتي مليون إنسان أصبحوا ضيوفاً على الأبدية على يد حكم الطغاة.

ومن هنا فإنّ قضية الشرك والتوحيد هي لبّ القضايا الاجتماعية التي يغفر كلّ ما عداها ولا يغفر ذنبها، فهي أهمّ مشكلة تواجه البشرية على الإطلاق، وبدون حلها تأسن كلّ الحياة، فالتوحيد هو أوكسجين الحياة.

واليوم يعيش الجنس البشري في صورة وثنية جديدة بطبقة امتيازات تضمّ أصناماً تحت (هبل) العالم أمريكا بقرار الفيتو في صورة شرك أكبر يعيق ولادة العدل، ومن الطاغوت الأكبر يأخذ بقية طواغيت العالم الصغار شرعيتهم. وأمام العالم ولادة جديدة باتجاه التوحيد، ليس بإضافة أصنام جديدة مصنوعة في فرانكفورت وطوكيو بتوسيع مجلس اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل بتحطيم نادي الفيتو كله وإلغاء هذا الشرك العالمي كله جملة وتفصيلاً، والعودة إلى التوحيد الذي هو خير وأبقى، بإيجاد عالم جديد متجانس يقوم على (كلمة السواء)، محرر من علاقات القوة، كما وجه تلك الدعوة رسول الإسلام إلى هرقل. ولكن من العجيب أنّ مثقفي الحداثة من الغرب والشرق كلهم صم بكم عمي عن هذه الوثنية فهم لا يعقلون.

***

خالص جلبي ـ كاتب ومفكر سوري، يحمل إجازة دكتور في الطب البشري والدراسات العليا (جراحة عامة) جامعة دمشق. نال إجازة بكالوريوس في الشريعة الإسلامية ـ جامعة دمشق. يؤلف ويكتب في مجال تنوير وتحرير العقل الإسلامي ونبذ العنف. صدر له العديد من الكتب منها (النقد الذاتي) (بناء ثقافة السلم). (الإيدز طاعون العصر) (عندما بزغت الشمس مرتين))مخطط الانحدار وإعادة البناء) (سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي).

***

هذا الجزء الأول من مقال نشر في مجلة يتفكرون، العدد الثامن، 2016، إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

____________

بوابة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *