بقلم جعفر عباس

فجَّر فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، نوافير الغضب في قريحة الشاعر عبد الرحمن العشماوي، ويتضح من سياق القصيدة أنه يرى أن أخت شهاب الدين، (هيلاري كلينتون – اسم الدلع حمالة الحطب) أضرط من أخيها الفائز أبي لهب (ترامب)، وبالمصري، ما أزفت من سيدي إلا ستِّي.

قال الشاعر:

يا ساسةَ العرب ….

فاز أبو لهبْ؟؟

ما فاز إلا الحقدُ والشّغَبْ

فلترجعي للدار يا حمّالةَ الحطب

إني أرى حالكما اضطربْ

يا بؤسَها من دولة مائلةِ القَتَبْ

كثيرة الصّخب

ممسوخةِ الأخلاقِ والأدبْ

تخوض في دمائنا إلى الرُّكَبْ

في الشام في العراق في صنعائنا

في القدس في النّقَّبْ

في ليبيا، في مَوصلِ الأمجادِ في حلبْ

فاز أبو لهب؟

كلا وربي، إنما تبّتْ يداه بالردى وتبّْ

أنَّى يفوز سارقٌ إذا نهبْ؟ 

أنَّى يفوز غاسقٌ إذا وقبْ؟ 

أنى يفوز ناطقٌ إذا كذبْ؟

فاز أبو لهب؟

أنَّى يفوز مجرمّ في وجههِ الغضبْ؟

ما فاز إلاّ العَرضُ والطلب

ما فاز إلا السِّلُّ والجرَبْ

تراجعت حمّالةُ الحطبْ

وجاءكم بحقدها وحقده أبو لهبْ

فلَمْلِموا أوراقكم يا ساسةَ العربْ


إن (أبلغ ما جاء في قصيدة العشماوي أدناه، ما فاز إلا العرض والطلب“. لأنه تنبيهٌ إلى أن آليات السوق، هي المؤثر الأكبر على مسار ونتائج الانتخابات تلك).

***
الانتخابات الديمقراطية، كما الامتحانات الأكاديمية، قد لا تسفر دائما عن نجاح الألمعي الذكي، وفوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية يوم الثلاثاء الماضي خير شاهد على ذلك، ومع هذا لم تعرف البشرية بعد أسلوبا أفضل من تلكما الوسيلتين، لتحديد من يستحق النجاح، ومن يستحق الرسوب، وقد لخَّص الأمر الشاعر الفذ إيليا أبو ماضي:

لما سألت عن الحقيقة قيل لي / الحق ما اتفق السواد عليه
فعجبت كيف ذبحت ثوري في الضحى / والهند ساجدة هناك لديه
نرضى بحكم الأكثرية مثلما / يرضى الوليد الظلم من أبويه

وقد قضت الأغلبية (السواد)، بأن ترامب خير من هيلاري كلينتون كرئيس للبلاد، تماما كما رأت الأكثرية في بريطانيا، أنه من الخير لبلادهم أن تخرج من الاتحاد الأوربي، رغم أن كل ذي عقل يدرك أن ترامب الذي لم يشغل طوال حياته منصبا حكوميا تنفيذيا أو دستوريا أو دبلوماسيا، ولم يخضع حتى للتدريب العسكري البسيط، لا يملك من الأدوات كثير شيء ليدير أقوى بلدان العالم عسكريا واقتصاديا، تماما كما أدرك من صوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، أنهم ضربوا بلادهم تحت الحزام.

وشواهد التاريخ التي تثبت أن الأغلبية لا تملك بالضرورة سداد الرأي كثيرة، فكثيرا ما تسود عقلية القطيع بين الشعوب والمجتمعات، فتناصر زرافات الأطروحات الغوغائية، فـ الأجهر صوتا والأطول / يأتي في الصف الأول – بينما – ذو الصوت الخافت والمتواني/ يأتي في الصف الثاني (الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور).

وترامب كغوغائي ديماغوجي يعرف ما يطلبه المستمعون، ومن ثم صب اللعنات على المكسيكيين والمسلمين وجماعات حماية البيئة وحلفاء بلاده في المجالات العسكرية والاقتصادية، وكانت الرسالة المبطنة، ولكن صريحة جدا هي أن الولايات المتحدة بلد الشعوب البيضاء ولا دين لأحد غيرها على رقبتي، وفاز بأصوات معظم الأمريكان البيض خاصة كبار السن، وانقسم الشعب الأمريكي الهجين، كما لم ينقسم منذ نهاية الحرب الأهلية (1861-1865 بين القوات الاتحادية وولايات الجنوب الانفصالية) بدليل أن تلك الولايات الإحدى عشرة صوتت جميعا لترامب.

خطاب ترامب الغوغائي أكسبه مساندة قوى اليمين، ولكن نقيضه في المواقف السياسية هوغو رافاييل شافيز، وصل الى كرسي الحكم في فنزويلا (1999-2013) عبر صناديق الاقتراع، ممتطيا صهوة خطاب تهريجي اشتراكي، وطرح نفسه داخل بلاده وخارجها – كما فعل من قبله الدكتاتور القذافي – كالفارس الذي سيمرغ أنف الولايات المتحدة في

التراب، وكما صار منتخب البرازيل لكرة القدم ممثل العربفي المنافسات الكروية الدولية، صار شافيز في نظر عرب كثيرين، النسخة الإفرنجية من صلاح الدين الأيوبي.
وظل شافيز يبيع الوهم لشعبه، ويوزع نفط بلاده بالمجان في العديد من البلدان، كي يقال عنه عظيم الشأن، ورحل عن الدنيا تاركا لخليفته نيكولاس مادورو، خزينة عامة ليس فيها ما يكفي لشراء البندول، رغم ان البلاد تسبح فوق بحيرة بترول، وهكذا تسبب شافيز في إشانة سمعة الاشتراكية، التي كان يبشر بها لخلاص شعبه من الفقر والجهل والمرض، واليوم ونحن في خواتيم عام 2016، يعبر مئات الآلاف من الفنزويليين حدود بلادهم يوميا ليدخلوا كولمبيا المجاورة للحصول على الدواء والغذاء.

فاز دونالد ترامب بكرسي الرئاسة الأمريكية، رغم جهله الفاضح بأمور الحكم والسياسة، على هيلاري كلينتون عضو مجلس الشيوخ المخضرمة، والتي كانت يوما ما سيدة أمريكا الأولى، ووزيرة لخارجية بلادها، ويعزى فوز ترامب لكونه غوغائيا شعبويا، دغدغ بتصريحاته النشاز مشاعر اليمين الأبيضالمسيحي، ووعده بأن يجعل الولايات المتحدة عظيمة، ولأن الشحن العاطفي يلغي العقول، فإن مناصري ترامب لم يسألوا أنفسهم: أليس بلادنا الآن كما كان حالها لنحو ستين سنةالقوة الأعظمفي مجالات الاقتصاد والعسكرة والتكنولوجيا وأقوى مؤثر على مجريات السياسة الدولية في قارات الله الخمس؟

من أجمل أبيات القصيدة العمرية للشاعر حافظ إبراهيم

يا رافعا راية الشورى وحارسها / جزاك ربك خيرا عن محبيها
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به / رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها

والقصيدة تسجيل رائع لشخصية الفاروق عمر رضي الله عنه، الذي شكل مجلسا للشورى لاختيار من يخلفه في الحكم، وجعل ابنه عبد الله عضوا فيه، دون أن يتمتع بحق التصويت، واقترح عليه أحد المسلمين استخلف ابنك عبد الله“. فقال: قاتلك الله، والله ما أردت الله بذلك، ويحك لا إرب لنا في أموركم، ما حمدتها لنفسي فأرغبها لواحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فحسب آل عمر أن يُحاسب منهم رجل واحد، ويُسأل عن أمر أمة محمد. لقد أجهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت لا عليَّ ولا لي، فإني إذا لسعيد.

ولا تشقى البلاد براي الجماعة إذا كانت راشدة ناضجة تتوسل في مشاوراتها الحق والعدالة، أما في حال بلد مثل الولايات المتحدة، يتباهى مواطنوه بأن حمل السلاح الناري حق مكفول بقوة الدستور، وترفض نسبة عالية منهم توسيع مظلة التأمين الصحي ليشمل الفقراء، فـرأي الجماعة قد تشقى البلاد به، فقد اختارت الجماعة الغالبة ترامب رئيسا، لا لرشد فيه أو رجاحة عقل، ولكن لأنه وبلغة وأساليب سوقيةحرك في المستنقع الأمريكي نزعات الاستعلاء العنصري والقومي، ووعد مناصريه بأن يجعل بلادهم عظيمةبمعزل حتى عن حلفائها التاريخيين في أوروبا وشرق آسيا.

وياما صنعت الشعبوية الغوغائية زعامات تحكمت في مصائر الشعوب، بوعود تأسر القلوب، على حساب العقول، كما العاصفةالتي وعدت الشاعر الفلسطيني محمود درويش بنبيذ وبأقواس قزح، وعاش آخر سنوات عمره وفي فمه ماء مر الطعم، وهو يرى الزعيم الفلسطيني التاريخي يبشره وأهله، بأنه أتى من أوسلو ومدريد بمفاتيح الدولة الفلسطينية، وحتى بعد أن ثبت أنه أتى في واقع الأمر بأقفال تستعصي على الفتح، تشل حركة الفلسطينيين حتى، من وإلى الكانتونات التي فرح بإقامتها، ظل يحتكر لقب الزعيم / الرمزإلى أخر نَفَس، ولأننا قوم ندفن أخطاء كل من يموت، فما زال الزعيم أبو عمار الرمز الأبرز لـالقضية، وما علينا أنه ترك لنا خميرة الانقسام التي أدت لقيام دولتي حماسستان ومازنستان.

ولم يصل جوزيف ستالين إلى السلطة في موسكو قائدا لدولة الاتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي الحاكم فيها بانقلاب، بل فاز بأغلبية أصوات اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب، وسرعان ما تحول إلى ديكتاتور باطش، كان أول ضحاياه القادة المفكرون في الحزب الشيوعي، ثم انقلب على الجنرالات الذين دكوا حصون ألمانيا النازية وجعلوا أوروبا الشرقية بأكملها خاضعة لسلطة موسكو.

ومن الذي عصف بسلطة الحزب الشيوعي السوفييتي وكتب نعي الاشتراكية؟ أليس هو ميخائيل غورباتشوف الذي نال ثقة غالبية قيادات الحزب ليقود الحزب والدولة؟ لم تكن تلك القيادات تدرك أن غورباتشوف سيكتب نعي الاشتراكية، بل صوتت لمنحه أرفع منصف في الدولة السوفيتية، لأنه وبالتأكيد خمّالجماعة طق حنك، أي عطل منابت التفكير في عقولهم، بكلام جعلهم يحسبون أنهم يضعون الثقة فيمن هو أهل لها.

والشاهد في حالات أبي عمار وستالين وغورباتشوف، والزعيم الفنزويلي هوغو شافيز، وأخيرا دونالد ترامب، هو أن خيار الأغلبية ليست دائما هو الأفضل، سواء على مستوى لجنة في مكان العمل اليومي أو مستوى الدولة، ولم يحظ زعيم في التاريخ المعاصر بالسند الشعبي الذي حظي به أدولف هتلر في ألمانيا (1934-1945) ، ولكنه لم يجلب سوى الدمار على بلاده وجيرانه، ودخل التاريخ كطاغية مستبد وسفاح.

وأقول مجددا إن ترامب يملك مهارة تغييب العقل الجمعي للجماهير، بوعود لن يستطيع الوفاء بمعظمها، وكما قال الرئيس الأمريكي الأشهر أبراهام لنكون: “تستطيع أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت، وتستطيع أن تخدع كل الناس لبعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت، وعليه فالراجح عندي أن ترامب سيحكم بلاده لولاية واحدة (فهذا حق لا ينازعه عليه أحد)، ولكن أن يفوز بالرئاسة مرتين، كما فعل أوباما وجورج دبليوش بوش وبيل كلينتون، فلن يحدث ما لم يدخل البعير ثقب الإبرة؛ لأن القطيعالذي زفه إلى البيت الأبيض سيدرك عاجلا أو عاجلاجدا كم أخطأ في حق نفسه وحق الوطن.

_________

عربي 21

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *