بقلم د. الهادي بوحمرة

من المسائل التي تتعلق بحماية الحقوق والحريات وبالمحافظة على عمل النظام السياسي والقانوني بانتظام واطراد مسألة القضاء الدستوري. ذلك أن فاعلية الحماية الدستورية التي يقررها الدستور لما ينظمه ترتبط ارتباطا وثيقا بوجود الرقابة على دستورية القوانين وكيفية تصميمها.

فهي الألية التي تتحدد عبرها التشريعات التي تخالف النصوص الدستورية وتلك التي تتفق معها. وقد كان خيار مشروع الدستور بشأنها مستنتجا من دراسة التجارب المقارنة وابعادها المختلفة. ويمكن إجمال مفاصل تصميم القضاء الدستوري في مشروع الدستور وفق الآتي:

أولا/ مركزية الرقابة على دستورية القوانين

يتنازع هذه المسألة نظامان. النظام الامريكي الذي يعتمد نظاما لا مركزيا في الرقابة الدستورية ، حيث أنه يجعل من الرقابة الدستورية اختصاصا لجميع محاكم النظام القضائي. فللمحاكم الأدنى أن تقضي بأن قانونا معينا يخالف الدستور. وما يسمى بالنظام الاوربي الذي يمنح ولاية الرقابة على دستورية القوانين لهيئة تختص بها دون غيرها. وبناء على أن الرقابة المركزية على دستورية القوانين تحول دون تضارب الأحكام، وبما أن ايجاد محكمة تختص بالنظر في دستورية القوانين وإمكانية اللجوء لها مباشرة دون المرور بمحاكم أدنى من شأنه أن يسرع في الفصل في الدعاوى الدستورية، وبالنظر إلي السياق القانوني الليبي النافذ، وتجارب الدولة التي تتبع نفس النظام القانوني الليبي، تبنى مشروع الدستور مركزية الرقابة الدستورية، بنصه على اختصاص المحكمة الدستورية دون غيرها بالرقابة القضائية على دستورية القوانين.(م150).

ثانيا/ الرقابة الدستورية اللاحقة

تعتمد بعض الأنظمة المقارنة الرقابة الدستورية السابقة، بحيث تمارس المراجعة الدستورية قبل تحول العمل التشريعي إلي قانون. ويستند هذا النظام على النهج الوقائي، فهو نظام يعطى يقينا للتشريعات المنتظرة، ويسمح بكشف المخالف منها للدستور قبل أن يترتب على تطبيقها إي ضرر. في مقابل ذلك، تعتمد دساتير أخرى نظام الرقابة الدستورية اللاحقة، بحيث لا تمارس الرقابة إلا بعد دخول القانون حيز النفاذ.

ويستند اعتماد هذا النوع من الرقابة على أن الرقابة الدستورية لا يجب أن تعرقل عمل السلطة التشريعية، وعلى أنه لا يمكن فهم أثار التشريعات بشكل كلي، وبيان ما إذا كانت تنتهك حقوقا أو نصوصا أخرى تتعلق بالبناء الدستوري للمؤسسات إلا بعد تطبيقها(1). وتغليبا لأسانيد الرقابة اللاحقة، وتماشيا مع التجربة الليبية، اعتمد مشروع الدستور الرقابة اللاحقة على دستورية القوانين كقاعدة عامة، مع الاخذ بالرقابة الوقائية في نطاق محدد على سبيل الحصر، ويتمثل ذلك في قوانين الانتخابات والاستفتاءات، من أجل تفادى احتمالية انهيار السلطات التشريعية والتنفيذية بعد اجراء الانتخابات أو بعد الاستفتاء، وفي الرقابة على المعاهدات الدولية قبل التصديق عليها، لتفادي الدخول في التزامات دولية قبل التيقن من عدم مخالفتها للدستور. كما تخضع للرقابة الدستورية السابقة القوانين التي حكم بعدم دستوريتها قبل إعادة اصدارها، لكي لا تكون مرة اخرى محلا للطعن بعدم الدستورية.

وإسوة ببعض الدساتير المقارنة، كما هي الحال في دستور جنوب افريقيا، ومن اجل اعطاء ضمانات إضافية للتعديل الدستوري، نص مشروع الدستور الليبي على أن يعرض الأمر على المحكمة الدستورية لرقابة صحة الاجراءات وجواز طلب التعديل خلال مدة لا تجاوز خمسة عشر يوما، ولا يعرض التعديل على الاستفتاء إلا بعد اقرارها بصحته دستوريا (م217 فقرة 5،6). كما نص المشروع على اعطاء المحكمة سلطة اعطاء رأي استشاري بشأن عرض الرئيس لحل مجلس النواب أو مجلس الشيوخ في استفتاء عام بناء على أسباب وجيهة تتعلق بعرقلة السياسة العامة للدولة أو خطة التنمية أو تعطيل الموازنة دون مبررات حقيقية.

فعلى الرئيس إحالة الأسباب والمبررات للمحكمة الدستورية لإعطاء رأيها الاستشاري بشأن مدى جدية وملاءمة الاسباب على وجه الاستعجال. وإذا ما قررت المحكمة بأن الاسباب جدية، ولجأ الرئيس للاستفتاء العام، وجاءت نتيجته بحل أحد المجلسين يصدر الرئيس قراره بالحل، أما إذا جاءت نتيجة الاستفتاء بلا، فيشكل الرئيس حكومة جديدة، ذلك أن أساس المسألة هي الحكومة، لكونها من يتولى مشروع قانون الميزانية وخطط التنمية. أما إذا قررت المحكمة عدم جدية أو ملاءمة الأسباب، ولجأ الرئيس للاستفتاء، وجاءت النتيجة بالرفض، فعلى الرئيس تقديم استقالته.

تجدر الإشارة إلي أن عدة نماذج تعطى المحكمة اصدار أراء استشارية بشأن مسائل دستورية إلي جانب اختصاصاتها الاخرى(2). ومن أجل الحؤول دون تعطيل انفاذ الدستور بالامتناع عن اصدار ما يلزم من قوانين، نص مشروع الدستور على اختصاص المحكمة الدستورية بالبت في الدعاوي المتعلقة بعدم وفاء السلطة التشريعية بالتزاماتها الدستورية. ويلاحظ أن اختصاص المحكمة هنا لا يتداخل مع اختصاص السلطة التشريعية، حيث أن المسألة تتعلق فقط بتقرير عدم دستورية الامتناع. (م150 ف3).

ثالثا/ استحداث محكمة دستورية

من أهم الاسئلة التي تطرح في إطار تصميم القضاء الدستوري في ليبيا، هو السؤال الآتي: هل الخيار الأنسب هو استحداث محكمة دستورية أم هو السير في نفس سياق التجربة الليبية الحالية، التي تجعل من رقابة دستورية القوانين اختصاصا للدائرة الدستورية بالمحكمة العليا؟. وبالبحث في مبررات انشأ محاكم دستورية مستقلة، نجد أن أهمها يتمثل في أن بعض النصوص الدستورية يقع في الحدود الفاصلة بين عالم السياسة وعالم القانون، وتحمل توجهات موضوعية عامة في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية(3).

واختصاص القضاء الدستوري بتفسيرها عند انزالها، يعطيه ممارسة دور لافت في النظام السياسي للدولة، مما يطبع الرقابة الدستورية موضوعيا بالطبيعة المزدوجة السياسية والقانونية، دون أن يؤثر في ذلك كونها قبلية او بعدية. فهي آلية لضبط التوازن بين مؤسسات الدولة، ومراجعة قوانين تتعلق بضبط اختصاصاتها بما فيها اختصاصات السلطة القضائية(4).

وباعتبار أن القضاء الدستوري قضاء مواءمة وموازنة بين الاعتبارات القانونية والاعتبارات السياسية وقضاء يستجيب للمصالح العامة وللظروف الخاصة بالدولة(5)، مما يجعل من اعمال النصوص الدستورية من قبل القضاء الدستوري أمرا يختلف عن عمل القضاء العادي في إنزال نصوص القانون العادي على وقائع محددة وادخالها في إي نموذج قانوني، فإنه يفضل استحداث محكمة دستورية، وتحييد بقية القضاء عن هذه الطبيعة السياسية(6).

واضافة الي ما سبق، للمحكمة الدستورية المستقلة قيمة رمزية في إطار إرساء سيادة القانون وانتظام الحياة السياسية بإخضاع السياسة للقانون واعمال الآليات الدستورية للتوازن بين السلطات الثلاث، بما فيها السلطة القضائية، ويعتبر ايجادها رسالة لبناء نظام جديد يقطع الصلة مع ما هو قائم سياسيا(7). وبناء على كل ذلك، اتجه مشروع الدستور إلي استحداث محكمة دستورية، وتبني خاصية القضاء الدستوري في التفرد بالتنظيم بموجب الدستور.

رابعا/ تشكيل المحكمة الدستورية

خلافا لما ورد بشأن القضاء العادي، نهج مشروع الدستور الليبي نهج بعض الدساتير المقارنة، ونص على عدم اقتصار العضوية في المحكمة الدستورية على سلك القضاء. ومن الأنظمة التي سارت على هذا النهج الدستور التونسي, الذي نص في الفصل 118 من الدستور التونسي على أن يكون ثلاثة ارباع اعضاء المحكمة الدستورية من المتخصصين في القانون الذين لا تقل خبرتهم عن عشرين سنة، وقانون المحكمة الدستورية العليا المصرية الذي نص في مادته 4 على أن يختار اعضاؤها من القضاة واساتذة القانون والمحامين وفق شروط محددة، والدستور الايطالي الذي نص في مادته135 على أن يكون عضو المحكمة الدستورية قاضيا أو استاذا في القانون أو محاميا مع خبرة عشرين سنة، ودستور جنوب افريقيا الذي يشترط في مادتيه 174،176 أن يكون على الأقل أربعة اعضاء يعملون كقضاة عند تعينهم في المحكمة الدستورية.

وفي نفس السياق، نص الدستور التركي بعد تعديلات 2010م في مادته 146 على اختيار الاعضاء من الاكاديميين أو موظفي الحكومة الذين أكملوا الدراسات العليا وعملوا في الخدمة لمدة لا تقل عن عشرين سنة ومن القضاة والمدعين العاميين بخبرة لا تقل عن عشرين سنة. وبالنظر لهذه التجارب المقارنة والموازنة بينها، وبالنظر لطبيعة المحكمة الدستورية المستحدثة وإلي اختصاصاتها وتنظيمها دستوريا بشكل مستقل عن السلطة القضائية، نص مشروع الدستور في مادته 148 على أن يكون نصف اعضاء المحكمة الدستورية مستشارين بدرجة رئيس بمحاكم الاستئناف والستة الباقين من ذوي الخبرة من المحامين ومن حاملي الاجازة العالية على الاقل في تخصصات القانون والعلوم السياسية والشريعة الاسلامية من غير اعضاء السلطة القضائية، على ألا تقل مدة الخبرة العملية في مجال تخصصهم عن عشرين سنة. ويشترط أن يكون رئيس المحكمة ونائبه من بين الفئة الاولي.

خامسا/ تعيين قضاة المحكمة الدستورية

خلافا للدساتير التي نصت على اختصاص السلطة التنفيذية في تعيين قضاة المحكمة الدستورية كما هي الحال في المادة 193 من الدستور المصري، وخلافا للدساتير التي اعطت هذا الاختصاص للسلطة التشريعية بمجلسيها النواب والشيوخ كما هي الحال في الدستور الالماني م92، وخلافاأيضاللدساتير التي منحت ذلك للسلطة التنفيذية والتشريعية بمجلسيها فقط، كما هي الحال في تعيين اعضاء المجلس الدستوري الفرنسي وفق نصه في المادة 56، اتجه مشروع الدستور الليبي إلي استبعاد خيار احتكار جهة واحدة أو جهتين لتعيين اعضاء المحكمة الدستورية باعتماد نموذج الاطراف المتعددة، التي تعمل كل منها بشكل مستقل في عملية التعيين.

حيث تشترك السلطة التشريعية مع رئيس الدولة والمجلس الأعلى للقضاء في عملية التعيين، مع تغليب واضح للأخير الذي يتولى تعيين الستة اعضاء المستشارين مقابل تعيين رئيس الدولة لثلاثة اعضاء والسلطة التشريعية للثلاثة الاخرين. وقد سبق لهذا النهج العديد من الدساتير الحديثة منها الدستور التركي المعدل سنة 2010م ، والذي عدل عن نموذج يسيطر عليه القضاء إلي نموذج يشترك في التعيين فيه أطراف متعددة منها القضاء والجمعية الوطنية والرئيس(م146)، ومنهاأيضاالدستور الايطالي في مادته 135 التي تنص على تعيين قضاة المحكمة الدستورية من الرئيس والبرلمان والمحاكم العليا حيث يعين كل منهما خمسة قضاة.

ويمكن اختصار اسباب اعتماد اشراك سلطات الدولة في عملية تعيين اعضاء المحكمة الدستورية في أهمية المسائل التي ترفع لها وتأثير احكامها على العملية السياسية في البلاد.

الخلاصة: هذه هي اهم مرتكزات تصميم القضاء الدستوري بمشروع الدستور الليبي، والتي حاولت تفادي سلبيات التجارب الدستورية المقارنة، والتي نعتقد انها تستجيب لدور القضاء الدستوري في انتظام العمل التشريعي وفق الدستور، وفي تحقيق العدالة، وانتظام أداء المؤسسات الدستورية لدورها.

***

هوامش:

(1) انظر على سبيل المثال: نورا هيدلينغ، تصميم السلطة القضائية، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات،2011، ص9.

(2) المرجع السابق،ص12.

(3) د. أحمد كمال أبو المجد، دور المحكمة الدستورية العليا في النظامين السياسي والقانوني، بحث منشور في مجلة الدستورية،ع1،س1،2003، ص6.

Voir: Pierre Brunet. (Le Juge Constitutionnel est-il un Juge comme Les autres?) in La notion de Justice Constitutionnelle.Dalloze.2005.

(4) Voir: Bastien Fancais. Justice constitutionnelle et democratie Constitutionnelle. Critique de discours Constitutionnaliste Contemporain. Droit et Politique. PUF.1993

(5) أحمد خميس كامل، الدور السياسي للقضاء قبل وبعد الدستور الجديد، مقال منشور في مجلة الديمقراطية. الموقع: democratie.ahram.org

(6) د.جابر جاد نصار، الوسيط في القانون الدستوري، القاهرة،دار النهضة العربية، 1996م، ص 106.

(7) سوجيت شوردري، كاثرين غلين، المحاكم الدستورية بعد الربيع العربي آليات التقنين والاستقلال القضائي النسبي، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، 2014، ص 19.

______________

منبر ليبيا

_____________________

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *