صدر عن برنامج كارنيغي للشرق الأوسط هذا التقرير الذي وضعه باحثون في مؤسسة كارنيغي. وهو أحد تقارير مشروع آفاق العالم العربي الذي يُنفّذ على سنوات عدة بعد إطلاقه في تشرين الأول/أوكتوبر 2015،

والذي يهدف إلى إلقاء أضواء ساطعة على الأحداث المضطربة التي مر ويمر بها العالم العربي. ولأهمية الموضوع يقوم المنبر بنشر بعض أقسام التقرير على عدة أجزاء، وفي هذا الجزء سنتناول المشهد السياسيالكارثي

الجزء الرابع

المشهد الجيوسياسي

مع أن الشرق الأوسط شهد مستوى عالياً من التوتر الجيوسياسي ونزاعات متواترة بين الدول خلال فترة الحرب الباردة، اتّسم هذا الاضطراب عموماً بالمبادئ المتصلة بسيادة الدولة، وبالاستقرار البنيوي النسبي بعد العام 1967. أما الآن، فقد انهار النظام الإقليمي وحلّت محلّه الفوضى، التي وصفها الفيلسوف البريطاني توماس هوبز في القرن التاسع عشر بأنها الوضع الطبيعي للإنسان: أي حرب الجميع ضد الجميع“. وفي ظل هذا اللانظام في الشرق الأوسط الجديد، ما من دليل على أن الدول القوية تُحجم عن التدخل في شؤون الدول الضعيفة.

إذ تتنافس دول عديدة، بما فيها إيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، على السيطرة الإقليمية، وتلعب أدواراً أكبر مما ينبغي في الدول المجاورة مثل ليبيا وسورية واليمن. وفي تلك الأثناء، تنوء القوى المركزية السابقة في المنطقة، مثل مصر والعراق، تحت وطأة أعبائها المحلية. ويمكن فهم انهيار النظام الإقليمي العربي من زوايا أربع: تهافت الدولة والنزاع الداخلي، والصراع الإقليمي، والجغرافيا السياسية للطاقة، والبيئة.

تهافت الدولة والنزاع الداخلي

تبيّن أن الخلل الذي أصاب الكثير من الدول العربية كان أعمق بكثير مما تصوّره غالب المراقبين، ذلك أنه زاد من حدة العجز الاجتماعي والاقتصادي عميق الغور في المنطقة، وفاقم الاستقطاب في مجتمعاتها، وضيّق احتمالات الوصول إلى التسويات أو المصالحات السياسية. وأدّى ذلك إلى انهيار مؤسّسي، وانهيار اجتماعي، وانهيار النظام الأوسع للدولة العربية.

وربما كان الانهيار المؤسسي هو الأكثر وضوحاً، حيث عجزت بنى الحوكمة عن تلبية المطالب المتعاظمة للسكان الساخطين. فطالما أمكن ترجمة عائدات المواد الهيدروكربونية إلى عدد كافٍ من الوظائف في القطاع العام لمواكبة التكاثر السكاني، كان في وسع الزعامات العربية التركيز على أمن نظام الحكم وإسباغ الشرعية المفروضة من الدولة عليه (والانخراط في عمليات النهب الاقتصادي في الكثير من الحالات) على حساب التنمية السياسية والاقتصادية الحقيقية. ونتيجةً لذلك، لم يكن مستغرباً أن تضم أغلب الدول العربية التي ضعضعتها الحرب الأهلية الدول الأكثر قمعاً – وهي العراق وليبيا وسورية – والأقل من حيث النمو المؤسسي – وهي ليبيا واليمن.

في المقابل، كان الانهيار الاجتماعي أكثر بروزاً في الدول التي تجزّأت على أسس طائفية وإثنية وحتى قبلية. ففيما كانت مؤسسات الدولة تواجه التفكك والتجزئة، ارتدّ الأفراد إلى هويّاتهم الأولية، الأمر الذي عجّل تفسّخَ الدولة. ويعني ذلك، من الناحية العملية، أنه حتى مع انتهاء القتال في دول مثل ليبيا وسورية واليمن، سيكون من المُستبعد أن يُعاد تشكيلها ككيانات سياسية موحّدة وخاضعة إلى سيطرة مركزية. إذن، لا بد من التفكير بترتيبات جديدة، بما فيها آليات دستورية تتيح للمناطق والجماعات المحلية مزيداً من الحرية لتتدبّر أمورها بنفسها وتوفّر الحماية المادية الملموسة للأقليات.

لقد أسهمت تلك الانهيارات المؤسسية والاجتماعية في تهافت نظام الدولة العربية على نطاق أوسع وغير مسبوق: فقد انقضى عهد التماسك النسبي والإحساس المشترك بالهدف الذي كان يميّز الأعمال الجماعية التي تقوم بها الدول العربية. ففي حين كانت للنزاعات في ليبيا وسورية واليمن جذور محلّية تحديداً، فإن اندلاع الصراعات في الوقت نفسه يقدّم دليلاً قويّاً على التفاعل الديناميكي بين الروابط الإقليمية التي تتسبّب في عدم الاستقرار.

يمثّل انهيار نظام الدولة العربية مفارقة محيّرة. ففي العام 2016 بلغت اتفاقية سايكس–بيكو، وهي المخطط البريطاني الفرنسي لتقسيم الامبراطورية العثمانية السابقة إلى مجالات للهيمنة، عامها المئة. وارتبطت هذه الاتفاقية في المخيّلة الشعبية بالحدود الاصطناعية المفترَضة للشرق الأوسط، والتي رأى القوميون العرب أنها صُمِّمَت لتقسيم ما كان يُعتبر شعباً عربياً واحداً موحّداً. لكن على الرغم من هذا التراث الاستعماري المدمّر، أثبتت الحدود العربية أنها أكثر ثباتاً وديمومة من كثيرٍ غيرها في البلقان، وشرق أفريقيا، أو جنوب شرق آسيا، التي شهدت ولادة دول جديدة، أو تحوّل دول أخرى من حال إلى حال.

وفي الوقت نفسه، فإن الافتراض بأن ثمة حدوداً طبيعيةفي الشرق الأوسط هو مفهوم ينطوي على مخاطر محتملة، إذ يعني أن المؤسسات السياسية الأكثر استقراراً قد تتبلور فقط عندما تُرسم هذه الحدود. وينطلق التفكير هنا من أن هذه الحدود الطبيعية يمكن تحديدها ورسمها بغرض التجانس الإثني والطائفي، وفتح الأبواب على مصاريعها لعنف وتدمير أكثر مما يزلزل المنطقة الآن.

وباستثناء النزاع العربي الإسرائيلي والمواجهات العربية الكردية في سورية والعراق، فإن جوهر الاضطراب في الشرق الأوسط لا يتمحور حول الأرض، بل يدور حول طبيعة الدول الواقعة داخل الحدود، لا حول الحدود بين الدول. وفي كلٍّ من الدول الأربع التي تعاني ما يبدو أنه نزاع مستعصٍ على الحل، وهي العراق وليبيا وسورية واليمن، قطعت التجزئة السياسية أشواطاً بعيدة، وفي أفضل الحالات، يبدو أن نظام الحكم اللامركزي سيكون الاحتمال الأرجح.

كانت لحروب الشرق الأوسط نتائج كارثية زادت من وطأة المشاكل العويصة التي تواجه المنطقة، ومنها الإزاحات وموجات النزوح البشرية الهائلة، وعدم الاستقرار السياسي (ليس في الدول المجاورة وحسب، بل أيضاً في دول أوروبية وغيرها)، والتدخل الإقليمي. ولم يكن الإرهاب غائباً تماماً عن المنطقة في العقود الماضية، بيد أن غزو الولايات المتحدة للعراق العام 2003 والانهيار الإقليمي منذ العام 2011، أطلقا موجة إرهاب مهولة من عقالها في دول المنطقة الفاشلة. وقد شهد العراق أكثر من 2000 هجوم انتحاري بين عامَي 2003 و2015، شكّلت 41 في المئة من جميع الهجمات الانتحارية في العالم منذ العام 1982.‏ وفي ليبيا، وسورية، واليمن، ومصر التي تشهد عصياناً أضيق نطاقاً في سيناء، تصاعدت الهجمات بصورة كبيرة منذ العام 2011.‏

نظراً إلى الروابط القائمة بين النزاع الداخلي، والإرهاب العالمي، وتدفق اللاجئين، والكوارث الإنسانية، يُعدّ إنهاء حروب الشرق الأوسط العديدة التحدّي الأكثر إلحاحاً الذي يواجه قادة العالم. وما لم يتم احتواء هذه الصراعات، والحدّ منها، وحلّها في نهاية المطاف، ستغلب على جميع التحديات الإقليمية الأخرى.

في هذه الأثناء، ولأن درهم وقاية خير من قنطار علاج، على السياسات والجهات المانحة الدولية أن تركّز اهتمامها على مساندة الدول الضعيفة، وكذلك الدول المجاورة لمناطق النزاع. وينبغي على الدعم الدولي أن يعطي الأولوية بصفة خاصة للدول التي لديها حكومات مسؤولة نسبياً أو مجتمعات مدنية على الأقل، مثل تونس والمغرب والأردن ولبنان.

قد يبدو الوضع في الشرق الأوسط ميؤوساً منه، غير أن فشل الدولة ليس حالة دائمة. فمع أن الانهيار التام للدولة، كما هي الحال في سورية، يغيّر مسار البلاد بصورة دائمة، فإن دولاً عديدة قد استعادت عافيتها بشكل جزئي أو نشط خلال العقود الأخيرة، ومنها دول عدة في أفريقيا، والبلقان، وجنوب شرق آسيا. بل إن الصومال، وهي النموذج الأعلى للدولة الفاشلة، أظهرت مؤشرات معقولة على ولادتها من جديد منذ نشر قوات الاتحاد الأفريقي فيها العام 2007.‏ وتجنّبت بلدان عربية أخرى السقوط في وهدة الهوة السحيقة. فعلى الرغم من هشاشة الوضع في لبنان، أفلح في التعافي جزئياً من نزاع أهلي مدمّر، مثلما تعافت اليمن من النزاعات المبكرة في ستينيات وسبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، مع أنها انتكست وسادها الاضطراب منذ ذلك الحين. لذا، فإن عودة الاستقرار في سورية في المستقبل ليست محتملة وحسب، بل هي ممكنة أيضاً.

النزاع الإقليمي

ربما لم يتجسّد التفاعل المتشابك بين الصراعات التي تعيد تشكيل الشرق الأوسط في حدث ما في الآونة الأخيرة مثلما تجسّد في تدخّل روسيا في سورية في خريف العام 2015. فموسكو لم تضمن صمود نظام الأسد وحسب، بل كشفت أيضاً بما لا يقبل الشك عن عجز واشنطن، وخلقت اللحظة الأكثر تعقيداً على الصعيد الجيوسياسي منذ عقود.

وما زاد من المخاطر التي تنطوي عليها هذه النزاعات، أن الجهود المبذولة لتحقيق الإصلاح المحلّي ظهرت للعيان في السياق متزايد الالتباس الذي تتلاعب فيه المؤثرات الإقليمية والدولية، ولاسيما في الجزء الشرقي من العالم العربي. فقد قلبت الانتفاضات العربية الأوضاع السياسية الإقليمية رأساً على عقب، كما أن الوَهَن العميق الذي أصاب القوى المركزية العربية سابقاً بصورة خاصة، مثل مصر والعراق وسورية، أخلّ بميزان القوى.

لذا، تعاظمت أدوار القوى الإقليمية غير العربية، وهي إيران وإسرائيل وتركيا، وأنظمة الحكم الملكية في الخليج. وقد تركت الحروب الكارثية المتعاقبة في العراق، والحرب في سورية في الآونة الأخيرة، فراغات مؤسسية في الشرق الأوسط، أدّت إلى تدخّل الأطراف المتنافسة في الدولتين، وإلى زعزعة الاستقرار في الأقطار المجاورة. وأسفر انهيار سلطة الدولة في ليبيا واليمن عن آثار مماثلة.

رسمت الحروب السياسية التي دارت عبر الحدود المسار المقبل، لا للبلدان المنشطرة فقط، بل كذلك لتلك التي تمر بمراحل انتقالية بعد انتفاضات العام 2011. ومن هنا، فإن بلدان الخليج التي تتوجّس خيفة من الديمقراطية وتحرص كل الحرص على المحافظة على الاستقرار الإقليمي، وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، قدّمت الدعم للأنظمة الملكية المماثلة لها. كما ساندت الانقلاب العسكري في مصر العام 2013 مالياً وسياسياً، وأيّدت في تونس ائتلاف نداء تونسالذي عارض النهضة، الحزب الإسلامي الأبرز المرتبط بالحركات الإسلامية في مصر وتونس، وبذلك حوّلت السياسات المحلّية إلى منافسة واسعة النطاق لتعزيز النفوذ الإقليمي.75عَنَت هذه المشاركة الخارجية الموسّعة أن المراحل الانتقالية، سواء تكلّلت بالنجاح أو باءت بالفشل، كانت مجردّ شأن محلّي في كل دولة.

لقد أتاح تفكّك العديد من الدول العربية لكثيرٍ من البلدان فرصاً جديدة لخدمة مصالحها الخاصة من خلال مساندة حلفاء محليين. وشملت هذا التدخل التمويل المُعلَن والخفي، وتسليح الحلفاء المحليين، والحملات الإعلامية من خلال المنافذ الإعلامية المحلية والعابرة للحدود، وفي بعض الحالات المتطرفة للغاية، من خلال العمل العسكري. أدّت هذه التصرفات، بشكل جوهري، إلى خلق حروب بالوكالة، ورسمت معالم السياسات المحلية.

وقد وُضعت الصراعات المحلية على السلطة في إطار الانقسامات الإقليمية الأوسع، باعتبارها، على سبيل المثال، نزاعاً بين المسلمين السنّة والشيعة أو بين الإسلاميين وخصومهم. ولهذا السبب، فإن أية محاولة لمعالجة المشاكل المحلّية ستُمنى بالفشل ما لم تؤخذ هذه العناصر الديناميكية في الاعتبار.

ليس ثمة خط وحيد واضح للنزاع الإقليمي، بل خطوط عدة متقاطعة ومتداخلة تربط بين دول المنطقة، التي تفاوتت فترات قوتها ودوام نفوذها على مر الزمن:

إيران مقابل المملكة العربية السعودية

إن النزاع بين جناح المعتدلينالذي تدعمه الولايات المتحدة، ومعسكر المقاومةالذي حدّد معالم النشاط السياسي خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قد أخلى السبيل لحرب بالوكالة ذات نزعة طائفية متعاظمة، تدور رحاها في حلبة إقليمية واسعة. وتنظر الرياض وطهران إلى النزاعات الدائرة في البحرين والعراق وسورية واليمن باعتبارها منافسة إقليمية بينهما، حتى وإن كانت تلك الروابط، في أحسن حالاتها، غير واضحة المعالم. وقد أضاف التوتر بين الدولتين بعداً جيوسياسياً إلى نزاعات كانت محلية أول الأمر، ما فاقم تعقيد الجهود المبذولة للتخفيف منها أو حلّها.

قطر وتركيا مقابل الإمارات العربية المتحدة والسعودية

يتمحور هذا النزاع الإقليمي حول التيار الإسلامي، ولاسيما الإخوان المسلمينوالحركات المماثلة لهم فكرياً. وقد حدثت التدخلات الإقليمية بالوكالة في بلدان انتقالية مثل مصر وليبيا وتونس. إلا أن خط النزاع هذا قد انحسر نوعاً ما منذ أن تسلّم أمير قطر الشاب مقاليد الحكم في حزيران/يونيو 2013، وأدّى الانقلاب العسكري في مصر بعد ذلك بقليل إلى تصاعد حدة المعركة بين هذه البلدان إلى الذروة. ومنذ ذلك الحين، تعاون هذان الطرفان المتنافسان في الحربين السورية واليمنية، غير أن احتمال تجدّد الاستقطاب لايزال قاب قوسين أو أدنى.

إسرائيل مقابل فلسطين

لم يعد الصراع الفلسطيني محور الخلاف الإقليمي، بعد أن حلّ مكانه النزاع السوري. ولاتزال الأنظمة العربية تعلن تأييدها لحل الدولتين، غير أنها، على ما يبدو، تشعر بارتياح أكبر لتعاونها مع إسرائيل ضد إيران، حتى إن لم يتحقق أي تقدّم ملموس في القضية الفلسطينية. وليس هناك ما يدل على أن الجماهير العربية فقدت اهتمامها بفلسطين، غير أن التعاون بين إسرائيل والأنظمة العربية قد يبرز كقضية إشكالية وخلافية إذا ما استؤنفت المواجهة العنيفة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

السلفية الجهادية مقابل الأنظمة العربية:

أعاد تنظيما الدولة الإسلاميةوالقاعدةتشكيل التحدّي الجهادي الذي تواجهه الأنظمة العربية منذ أمد بعيد. وما من دولة تؤيّد الجهاديين علناً، غير أن لكل دولة إدراكاً خاصّاً مختلفاً لما يمثله هؤلاء من مخاطر، وما إذا كان عليها أن تعطي الأولوية لمحاربة الجماعات السلفية الجهادية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، أو التصدي لإيران، خصوصاً في العراق وسورية. وحتى لو انهار تنظيم الدولة الإسلامية في كلا البلدين، فإن ضروباً جديدة من التمرّد الجهادي قد تبرز على الأرجح، عندما يفسح فشل الدولة له المجال. ومن المؤكد أن تهديد الإرهاب يزيد من التحديات الأمنية والمجتمعية التي تواجه الأنظمة العربية، لكن البلدان العربية تذرّعت بهذا الخطر لتضييق الخناق على مجالات التعبير السياسي، والتجمّع الحر، والاحتجاج السلمي، باعتبار أن هذه الأنشطة تهدّد الأمن.

تجلّت صراعات القوى الإقليمية تلك في غمرة أوضاع دولية متقلبة. فقد اضطربت هيمنة الولايات المتحدة الإقليمية جرّاء الخلافات الحادة مع حلفاء رئيسين مثل مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا حول السياسة الأميركية في سورية، والاتفاق النووي مع إيران، والترويج للديمقراطية. كما تحرّكت روسيا، بطريقة انتهازية، تجاه المنطقة بصورة مباشرة عن طريق تدخلها العسكري في سورية، لاسترضاء حلفاء الولايات المتحدة المستائين ولتأكيد دورها كوسيط قوي لا يمكن الاستغناء عنه في الصراعات الاستراتيجية في المنطقة.

وفي دول الاستبداد الأوتوقراطي، أدّت حروب الوكالة هذه إلى تقويض مراحل الانتقال الديمقراطي، ودفعت الدول الهشّة إلى غمار الحرب الأهلية، وفاقمت النزعة الطائفية والتطرف العنيف. ولم تقتصر آثار هذه النزاعات على الدول التي تدور فيها رحى الحرب، إذ أن تدفق اللاجئين من العراق وليبيا وسورية واليمن يفرض على البلدان المجاورة أعباء هائلة ومتزايدة. وعندما مدّت القوى الإقليمية يد التعاون، أسفر ذلك، عموماً عن تعزيز الحكم الأوتوقراطي أو استعادته على حساب الإصلاحات التي تبرز الحاجة إليها بصورة عاجلة. ومن هنا، تضافرت القوى الإقليمية والأجواء الدولية غير المستقرة لتكثيف مشاكل المنطقة بدلاً من تذليلها. وستغدو معالجة هذه التحديات المتعدّدة التي تواجه الحوكمة العربية أقرب منالاً عندما تنسحب هذه القوى من تلك المنافسات بالوكالة، التي لاتؤدي إلا إلى المزيد من عدم الاستقرار.

الجغرافيا السياسية للطاقة

مع أن ثروة الشرق الأوسط الهيدروكربونية تظل في غاية الأهمية لإمدادات الطاقة العالمية، فإن الانهيار الأخير في سعر النفط، الذي يُتوقع أن يبقى من الخصائص المميّزة لأسواق الطاقة لسنوات عدة مُقبلة، يزيد إلى حدٍّ كبير التحديات التي تواجه البلدان العربية.

في العام 1908، اكتُشف النفط في مدينة مسجد سليمان في المنطقة الجنوبية الغربية من إيران، معلناً بداية عصر النفط في الشرق الأوسط. وشكّلت الثروة الهيدروكربونية محرّكاً لاغنى عنه للتوسع الاقتصادي غير المسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان من نتائج ذلك تحوّل مشهود في الكثير من المجتمعات العربية. بيد أن السهولة التي أتت بها هذه العائدات، حجبت التفاوت الهائل في توزيع الثروة بين الأقطار العربية، وعقّدت التنمية السياسية والاقتصادية في المجتمعات المنتفعة من الموارد النفطية في المدى البعيد.

في شهر آب/أغسطس 2014، كانت كلفة برميل النفط الخام من فئة غرب تكساس الوسيطتزيد على مئة دولار. وانخفض السعر في كانون الثاني/يناير 2016 لقترة قصيرة إلى ما يقل عن 30 دولاراً، مع أنه استقر بعد ذلك على سعر تراوح بين 40 و50 دولاراً.76 وتشكّل الإيرادات النفطية 80 في المئة أو أكثر من ذلك من عائدات البلدان المصدّرة للنفط في الشرق الأوسط،

وبالتالي فإن انهيار الأسعار ولّد تحديات نقدية ضخمة في المنطقة التي كانت آنذاك تشهد اضطرابات عميقة الغور، وتشير التقديرات إلى أن الإيرادات النفطية في دول مجلس التعاون الخليجي الست قد انخفض بواقع 390 مليار دولار في العام 2015، أي حوالى 20 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي. ومن المرجّح أن تكون الخسائر في العام 2016 أكثر من ذلك.

يتّفق معظم الخبراء على أن العوامل المؤثّرة في الإمداد، مثل التخمة في الاستثمار في مجال الاستكشاف وزيادة الصادرات العراقية والإيرانية، قد لعبت دوراً أبرز في خفض الأسعار من عوامل الطلب، ومنها بطء الأداء الاقتصادي في الآونة الأخيرة في الصين وأوروبا والكثير من البلدان النامية. إلا أن الأهم من ذلك تَمثّل في أن مدى الانهيار لم ينجم عن الإمداد والطلب الدائريين ولا عن العوامل السياسية في المدى القصير، بل عن التحولات التكنولوجية، أي ازدياد كفاءة الطاقة، وثورة الغاز والنفط الصخريّين، والمراحل المبكرة من ازدهار صناعة السيارات الكهربائية، وهي التحولات التي تنذر بتغييرات بنيوية جوهرية ودائمة.

لم تتنبأ أسواق العقود الآجلة بالانهيار، ومن المؤكد أن ضخامته ستمهّد لطفرة مقبلة في الأسعار، عندما يؤدي الانخفاض الحاد في استثمارات الاستكشاف إلى نقص الإمداد في السنوات المقبلة.

وتوضح نظرة أشمل إلى الوضع أن ثمة تغييرات عميقة وشيكة. ففي العام 1970، كان النفط يمثّل 50 في المئة من استهلاك الطاقة على الصعيد العالمي، وانخفضت النسبة هذا العام إلى 30 في المئة، وستواصل الانخفاض، وإن ببطء أكثر، مع استمرار التطورات التكنولوجية. ويمثّل الشرق الأوسط مايقرب من نصف احتياطي النفط المؤكّد وأكثر من 40 في المئة من احتياطي الغاز الطبيعي في العالم. وسيزيد من حصته في الإنتاج في العقود المقبلة، غير أن ثمة أسباباً وجيهة للاعتقاد بأن أسعار النفط لن تعود إلى 100 دولار للبرميل في المستقبل المنظور.

أعلن الشيخ محمد بن زايد، ولي العهد في أبو ظبي، بأن الإمارات العربية المتحدة ستحتفل بتحميل آخر برميل من النفط، بينما تطرح رؤية 2030″ السعودية مشروعاً مستقبلياً مفصّلاً يتسم بالتنوع الاقتصادي. ومهما كانت صحة هذه التصريحات، فإنها تشير إلى أن منتجي النفط الكبار يهيّئون أنفسهم لانخفاض دائم في الأسعار.

إن دول مجلس التعاون مجلس التعاون الخليجي، والجزائر إلى حد أقل، مستعدّة للتعامل مع انخفاض الأسعار لسنوات عدة. فهي لديها الحد الأدنى من الديون، وتحتفظ (باستثناء عُمان والبحرين) باحتياطي ضخم من العملات الأجنبية، وتتمتّع بكلفة إنتاج متدنية للغاية. مع ذلك، قد تجابه هذه البلدان تحديات عظيمة في الفترة المقبلة، عندما تواجه الحاجة إلى تقليص القطاعات العامة، مع خلق قطاعات خاصة نشطة قادرة على مواكبة الطفرة الديمغرافية الشبابية.

وقد اتخذت هذه الدول بعض الخطوات الإيجابية في هذا الاتجاه، منها: التخفيض الحاد في الإنفاق المحلّي ودعم المحروقات، والتحرك لتطبيق ضرائب القيمة المضافة، وتأكيد الحاجة إلى التنويع الاقتصادي والإصلاح السياسي المحدود. لكن في البلدان التي تحكمها أنظمة ملكية مطلقة واستخدمت الأسر الحاكمة الثروة النفطية لفرض عقود اجتماعية ذات طابع أبوي بطريركي، قد تولّد مثل هذه التحرّكات ردود فعل عكسية ونتائج مهمة على المدى الطويل عندما تتزايد المطالبة بالشفافية والصراحة والمساءلة.

وبالنسبة إلى العراق وليبيا، اللتين تدور فيهما رحى الحرب، فقد حلت الأزمات بالفعل. فالعراق، الذي أهدر مئات المليارات من الدولارات من عائدات النفط جرّاء الفساد وسوء الإدارة، على شفير الإفلاس ويجابه أزمة مالية خانقة.88 أما ليبيا، فقد جنحت بدورها إلى الانهيار الاقتصادي فيما تواصل الفصائل المتحاربة الاقتتال للسيطرة على دولة ما بعد القذافي وهيكلها الأساسي.

قد يؤدي انخفاض الأسعار في المستقبل إلى تقليل التفاوت الضخم في الثروة بين منتجي النفط في الشرق الأوسط من جهة، ومستورديه من جهة أخرى. ومن المستبعد استمرار المشتريات العسكرية التي شهدتها السنوات الأخيرة، فيما يجري تنفيذ الإجراءات التقشفية بعيدة الأثر.

لكن البلدان غير المنتجة للنفط في المنطقة، بما فيها مصر والأردن ولبنان والمغرب وفلسطين وتونس، قد تكون في المدى القريب أكثر تعرّضاً إلى الصدمات المالية. ذلك أن مستوردي النفط في المنطقة يفيدون ظاهرياً بسبب الانخفاض الكبير في تكاليف الإنتاج ونفقات دعم المحروقات. غير أن الكثير من هذه البلدان تفتقر إلى احتياطيات النقد الأجنبي، كما أنها غدت تعتمد على واردات نفط الخليج على هيئة مساعدات مالية، واستثمارات وفرص عمل، وتحويلات نقدية، ما أدّى إلى إعاقة التنمية السياسية والاقتصادية مع الزمن.

يواجه القادة العرب، على امتداد المنطقة، معضلة حقيقية محيّرة؛ فثمة حاجة ماسّة وعاجلة إلى تحوّلات اقتصادية، وسياسية، واجتماعية لضبط الإنفاق غير القابل للتعليل والتفسير، فيما تتضاعف التحديات المحلّية والإقليمية. مع ذلك، قد تزيد هذه التحوّلات نفسها احتمالات الاضطرابات المحلّية، ذلك أن استمرار الانخفاض في أسعار النفط قد يؤدي إلى زيادة التأزّم في الشرق الأوسط، ويمكن أن يفتح مجالات جديدة لأطراف لا تمتّ إلى الدولة بصلة ولجماعات متطرفة، إذا استمر الانخفاض في الإنفاق التقديريالمزاجي والمحسوبية والاستزلام السياسي.

وثمة مؤشرات على أن بعض القادة على الأقل قد أخذوا يتفهّمون هذا المأزق. وعلى سبيل المثال، فإن برنامج رؤية 2030″ السعودية، الذي يرمي إلى إنهاء اعتماد المملكة العربية السعودية على الموارد الهيدروكربونية في غضون السنوات الخمس عشرة المقبلة، يمثّل على الأقل اعترافاً عامّاً مهمّاً بأن التحديث والتنويع الاقتصاديين عنصران جوهريان لضمان ازدهار المملكة في المدى البعيد. غير أن الجهود المبذولة لبلوغ هذه الغاية قد لا تتكلّل بالنجاح، إلا إذا تمكنت المجتمعات العربية من وضع مخططات واضحة كل الوضوح للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المستقبل.

***

الملف من إعداد الأساتذة البحاث مروان المعشّر، مارك لينش، بيرى كاماك، ميشيل دنّ، عمرو حمزاوي ، يزيد صايغ، مهى يحيَ

***

المصدر: تقرير مؤسسة كارنيغي (انكاسارات عربية: مواطنون، دول، وعقود

إجتماعية

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *