بقلم رشيد خشانة

تتضارب الإشارات الآتية من ليبيا في شأن احتمال توسُع رقعة الصراع الأهلي، إذ تلوح بين الفينة والأخرى نُذر معركة مُدمرة بين الجيش، المُتمركز أساسا في المناطق الشرقية، والميليشيات المسلحة المُسيطرة على طرابلس في غرب البلد.

في الوقت نفسه تظهر مؤشرات مُناقضة أبرزها إقدام سفارات على إعادة فتح مكاتبها في طرابلس. وما أثار المخاوف من احتمال اندلاع «معركة طرابلس» هو التصريحات الأخيرة للجنرال المُعين من البرلمان خليفة حفتر، التي حضّ من خلالها عناصر جيشه على «تطهير كافة الأراضي الليبية من الجماعات الإرهابية»، واعدا مؤيديه بـ«النصر الكبير في طرابلس». وهو ما أكده أيضا الناطق باسم الجيش أحمد المسماري الذي وعد أن «تحرير بنغازي من الجماعات (الإرهابية) سيؤدي إلى خوض معركة تحرير طرابلس».

وذهب إلى أبعد من ذلك، فهدد بملاحقة المشاركين في الهجمات على الموانئ النفطية «داخل بيوتهم»، ما يُؤشرُ على احتمال شن هجمات خارج منطقة الهلال النفطي، التي تفصل بين مناطق سيطرة الحكومتين المتنازعتين في طرابلس والبيضاء وهذا ما دفع صحيفة «فاينانشيل تايمز» إلى أن تكتب في أواخر الشهر الماضي «جنرال ليبيا المتمرد يُخاطر بإشعال الحرب الأهلية مجددا في ليبيا».
في المقابل نلحظ أن إيطاليا وتركيا أعادتا فتح مكاتبهما في طرابلس، وستقتفي أثرهما في القريب سفارات أخرى، من بينها فرنسا وألمانيا، ما يدلُ على أن تقدير تلك البلدان للموقف العسكري لا يتوقع اندلاع ما سُمي بـ«معركة طرابلس».

فلو كانت معلومات العواصم الغربية وتركيا عن الوضع الليبي الراهن تقرأ حسابا لسيناريو الهجوم، لما أقدمت على معاودة فتح السفارات. وكانت هذه الدول أقفلت سفاراتها لدى اندلاع المعارك في 2014 بين جماعة «فجر ليبيا»، المُكونة أساسا من ميليشيات مصراتة من جهة، وقوات حفتر المُنضوية في إطار «عملية الكرامة» من جهة ثانية.

طرفا الاستقطاب

وبالرغم من سيطرة الميليشيات الأصولية ذات الولاءات المتغيرة والمتضاربة على أحياء العاصمة طرابلس، فإن طرفي الاستقطاب في ليبيا اليوم هما حفتر من جهة، والقيادات المتشددة في مدينة مصراتة من جهة ثانية، وهي الماسكة الحقيقية بالسلك الكهربائي، فهي التي أخرجت ميليشيات الزنتان من العاصمة وشكلت قوات «البنيان المرصوص» لاستعادة مدينة سرت من قبضة «داعش».

ولهذا الاستقطاب الثنائي امتداداته الإقليمية والدولية، ففيما يحظى حفتر بدعم روسيا وفرنسا ومصر والأردن وبعض الخليج، تدعم إيطاليا وتركيا والبعض الآخر من الخليج جماعات الإسلام السياسي في طرابلس ومصراتة (ظلت القنصلية العامة التركية في مدينة مصراتة مفتوحة من دون انقطاع).

كما أن الجار الغربي تونس لم يتعاط حتى اليوم سوى مع حكومة خليفة الغويل غير المعترف بها دوليا، وحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، رافضا استقبال عبد الله الثني رئيس الحكومة المنبثقة من البرلمان، ومقرها في البيضاء (شرق)، وهو موقف أملته عليها الجغرافيا بحكم سيطرة الغويل على المنفذين الحدوديين مع تونس.

والظاهر أن هناك أربعة عناصر تُرجح احتمال تحريك قوات حفتر في اتجاه الغرب، وأول تلك العناصر الرغبة بتعزيز سيطرة الجيش على الهلال النفطي بنقل أي معارك محتملة إلى خارج تلك المنطقة. وثانيها استثمار حال الانهاك التي توجد عليها قوات «البنيان المرصوص»، بعدما خسرت أكثر من 700 قتيل في معارك سرت، وثالثها العداوة الشخصية المُستحكمة بين حفتر والقيادات المصراتية الأصولية.

أما عنصر الدفع الرابع فهو الانقسام الحاصل داخل ميليشيات طرابلس بين فريق بات داعما لحفتر بوصفه زعيما وطنيا، وفريق ثان ما زال يُناصبه العداء ويعتبره العقبة الرئيسية أمام تنفيذ اتفاق الصخيرات، الذي توصل إليه الفرقاء في كانون الأول/ديسمبر 2015.
غير أن هذه الدوافع تتعارض مع مبادرة دول الجوار، التي يبدو أن حفتر لم يرفضها، ما يجعله مُلزما معنويا بالامتناع عن أي تصعيد من شأنه تقويض المبادرة.

وإذا كان الجنرال يرغب بتعزيز التقارب مع الجزائر، التي استقبلته أخيرا استقبالا رسميا بعدما تجاهلته طيلة سنوات، سيكون لزاما عليه أن يمتنع عن اتخاذ مبادرات من شأنها إرباك مبادرتها للتقريب بين أطراف الصراع الليبي، وهي المبادرة التي نقلت الدبلوماسية الجزائرية فحواها إلى روسيا والعواصم العربية والغربية المعنية بالملف الليبي لتأمين أكبر فرص نجاح ممكنة لها.

مناخ العنف ومعاناة المدنيين

أما إذا ما أخفقت المبادرة المغاربية فلا شيء سيوقف اندفاع حفتر غربا للاستيلاء على طرابلس، حيث الحكومة عاجزة والميليشيات المتناحرة مُنكشفة.

ويُشكل مناخ العنف وعدم الاستقرار ومعاناة المدنيين من صعوبة الحياة اليومية وشح السيولة في المصارف، مواد متفجرة يستثمرها كل من يُقدم نفسه في جلباب المُنقذ.

وسبق للجنرال حفتر أن أكد أن استتباب الأمن يأتي في مقدم الأولويات وأن الديمقراطية تأتي بعدما يكون الأمن مضمونا.

ومن هذا المدخل تستطيع روسيا، التي ما انفكت تسعى للعودة إلى ليبيا، أن تلعب دورا أكبر في حملة عُنوانها ضبط الميليشيات في الغرب الليبي، أسوة بالدور الذي لعبته في سوريا.

وستمنحها سياسة ترامب المُنسحبة من المنطقة فرصة فريدة لمعاودة ترسيخ نفوذها في بلد يتمتع بموقع استراتيجي مُهم وبأطول شواطئ على البحر المتوسط. كما ستجد في قلق دول الجوار من المخاطر الأمنية الآتية من ليبيا مُبررا لتقديم مزيد من الدعم العسكري لمن يرفع لواء مكافحة الإرهاب.
غير أن قاعدة استراتيجية بسيطة تجعل إقدام حفتر على إطلاق «معركة السيطرة على طرابلس» غير ممكنة حاليا بالمعايير العسكرية، إذ لا يمكن لجيش أن يخوض حربا ومراكز إمداده (في المرج وبنغازي) تقع على بعد ألف كيلومتر عن ميدان المعركة.

لهذا السبب سيكون حفتر مُكرها على التوصل إلى تفاهم مع خصومه في الأمد المنظور.

وهذا السيناريو سيتضمن بالضرورة استيعاب مؤسسة «الحرس الرئاسي» التي أسسها رئيس حكومة الوفاق فائز السراج في أيار/مايو الماضي كي تكون نواة للجيش في المناطق الغربية.

غير أن أي اتفاق بين الغريمين على الاحتواء المزدوج للجيش والحرس في آن معا، يحتاج إلى اتفاق مُسبق على مراجعة المادة الثامنة من وثيقة الصخيرات المتعلقة بالمؤسسة العسكرية.

وطالما أن لديهما خصما مشتركا هو الجماعات المسلحة التي يأتي على رأسها تنظيم «داعش» والجناح المتشدد من «أنصار الشريعة»، فإن الوصول إلى رؤية مشتركة لهيكلة المؤسستين العسكرية والأمنية ليس أمرا مستحيلا. واستطرادا ستكفل صياغة تلك الرؤية المشتركة تجنيب ليبيا خطر التقسيم الذي ما فتئ يتفاقم مع استمرار انسداد آفاق الحل السياسي.

تسع حكومات في ست سنوات

تعاقبت تسع حكومات على ليبيا منذ الاطاحة بنظام معمر القذافي في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2011 وهي الآن البلد الوحيد في العالم الذي تُديره ثلاث حكومات هي حكومة فائز السراج وحكومة عبد الله الثني وحكومة خليفة الغويل.
***

ـ حكومة محمود جبريل (تُعرف باسم المكتب التنفيذي) استمرت من 23 آذار/مارس إلى 23 تشرين الأول/أكتوبر 2011. (المحرر: هذه الحكومة ظلت لعدة أشهر تدار من قبل علي العيساوي لأن محمود جبريل كان يرفض البقاء في ليبيا طوال فترة المجلس الوطني الإنتقالي أي طوال فترة المواجة المسلحة بين الثوار وكتائب القذافي(
ـ حكومة علي الترهوني استمرت شهرا واحدا.

ـ حكومة عبد الرحيم الكيب استمرت تسعة أشهر من خريف 2011 إلى آب/أغسطس 2012.
ـ انتخب المؤتمر الوطني العام في 12 أيلول/سبتمبر 2012 القيادي الإسلامي مصطفى أبو شاقور رئيسا للوزراء، لكنه أخفق في تشكيل حكومة.
ـ حكومة الوفاق الوطني برئاسة علي زيدان استمرت من تشرين الثاني/نوفمبر 2012 إلى 11 آذار/مارس 2014.
ـ أجرى الاسلامي أحمد معيتيق مشاورات بعد تكليفه بتشكيل حكومة في 4 أيار/مايو 2014، إلا أنه أخفق واستقال بعد 25 يوما.
ـ كلف المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته عمر الحاسي بتأليف حكومة، لكنه أخفق بعد عدة أشهر.

ـ حكومة خليفة الغويل، المقرب من تيار الإخوان المسلمين، وهي حكومة غير معترف بها دوليا واستقال كثير من أعضائها، لكنها ما زالت تسيطر على ست وزارات في طرابلس، على الرغم من انضمام غالبية الفصائل المسلحة التي كانت تدعمها إلى حكومة السراج.
ـ في الوقت نفسه كلف البرلمان (مقره في طبرق) عبد الله الثني بتشكيل حكومة تسيير أعمال، وهي مستمرة إلى اليوم ومقرها في البيضاء (شرق).
ـ حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج تم تشكيلها في 8 تشرين الأول /أكتوبر2015.

_______________

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *