بقلم أحمد الدايخ

لطالما أغرقت الكتب والأبحاث  في توصيف  أزمات النخبة العربية والتي  أُفردت لها  أبواباً وفصولاً   لتوصيف المختنق التواصلي الذي مرّت به  ،  يعود أغلبها لما  يوصم به خطابهم بالنخبوية  والطوباوية والابتعاد عن الواقع .

ولكن بعد الربيع العربي تكشف الحال على وضع أكثر سوءاً للمثقف العربي ، حيث كان الكثير منهم إبان الربيع  يستفتحون علينا كتاباتهم وخطبهم بمعاني الحرية والتحرر .

وزايد الكثير منهم بأنه عاش في بلاد الغرب ورأى عن كثب الانتخابات والأصوات والتعايش والتعددية والأكثرية والأقلية إلى آخر هذه القائمة .

ولكن كانت الصدمة عندما أتى الربيع العربي والذي جاء بتلك المفاهيم والتي استمات عليها الناس وفنوا من أجلها فقد كفروا بما جاء به  هذا الربيع ونسوا حظاً مما صدعوا رؤوسنا به بل وأصبحوا له خصوماً وأعداءً .

ذكرتني هذه الصورة الشائنة ، بما أخبرنا عنه القرآن عن بني إسرائيل ، عندما كانوا يحدثون مشركي العرب عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنهم سيكونون من أتباعه ، فلما جاء كانوا من أشد الناس له عدواةً وخصومة (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)

وأنا هنا لا أكتب عن قضية كفر وإيمان ، ولكن أتكلم عن عقلية متعصبة تشابهت في الأولين والآخرين وتماثلت في الأقوال والمواقف ولو تباعدت الأزمان ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) أسفرت نفوسهم عن تعصب شديد سافر، والمتعصب ليست مشكلته مع أفكار من يختلف معهم ، بل مشكلته مع وجودهم أصلاً .

أياً كان سبب هذا الانقلاب على ما نادوا به سابقاً  فلا مبرر لمن يحسب نفسه على النخبة أو الثقافة  أن يكونوا أدوات بأيدي المستبد يحركها كيف يشاء  ليبرروا للاستبداد سوءته أو يـقـفزوا في أحضان الانقلاب ، إن الأنظمة بشكل عام والمستبد منها بشكل خاص ،  لا يمكن  أن يعيش ويستمر  من دون وضع  غطاء من الثقافة  والإعلام والتي بها يضفي الشرعية على خطابه  وأجهزته ووعوده وممارسته ، بداية من مشاريع التنمية وانتهاءً  بسفك الدماء وتكميم الأفواه  ، فيُسجن الأبرياء ، وتصادر الكلمة كل ذلك يتم بتسويغ ومباركة من أقلام وأفواه لطالما ادعت التحرر ومناصرتها لقيم الليبرالية.

فكل جسد حر اخترقته رصاصة أو مزقته قذيفة فكن على ثقة بأن معها بل وأسبق منها إلى جسده كانت أقلامهم وأصواتهم النشاز ، ثم على أشلاء هؤلاء الأبرياء لا يستحي الواحد منهم أن يقوم خطيباً ليواصل حديثه عن الحرية والتعايش وقبول الآخرين وشجبه واستنكاره للإرهاب .

قبل الثورات العربية كان الجميع ينظر لهذه النخبة بأنها ستساهم في الانتقال وستعطي عملية التحول سلاسةً ديناميكية ، بالطبع هي لا تملك حلولاً سحرية ولكن من المفترض أنها تملك وعياً ربما يكون كفيلاً بأن يخلق وسطاً أو بيئة تكون نواةً لحل الأزمات ، ولكن على نحو مغاير كانت هذه النخبة تشارك في تعزيز الأزمات وتشارك في التدمير .

لم يعد المثقف اليوم  كما كان في الماضي ، فالمثقف اليوم ليس ذلك الذي يعلم الحرف في مجتمع تغلب عليه الأمية ، وليس ذلك الذي يقرض الشعر في المناسبات ، المثقف اليوم هو الذي يعي روح العصر، ويندمج في تياره ويساهم عن طريق الكلمة والفكر من أجل زيادة معارف الناس وصقل وجدانهم وجعلهم أكثر إنسانية لكونه يشكل شريحة متميزة داخل المجتمع بسلوكه وأفكاره ، يسعى باستمرار إلى تعديل القيم الثابتة وإلى العمل أحياناً كجماعة ضغط معنوي من أجل مبدأ أو قضية ما ، فهو لا يكف عن المحافظة على قيم هذه الثقافة، والعمل على توصيلها وإعادة إنتاجها .

فالمثقف الذي يستهدف تغيير السائد ينطلق من قاعدة  صلبة لا تتميع ولا تتشكل حسب المصلحة أو الخوف ؛  فلا يستكين إلى  الوضع السائد ، وهو مطالب بمجابهة  مسلمات  خاطئة و مترسبة في لا وعي الناس ، كثيراً ما تعبر عن ذاتها بشراسة وهوعاكف على معالجتها  بكل ما أتيح له من إمكانات .

***

أحمد الدايخ ـ كاتب ليبي

_____________

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *