بقلم د. عمر عاشور

في مارس/آذار ٢٠١٤، أعلن رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفد كاميرون أن حكومته المحافظة ستُكَوّن لجنة لإعداد مراجعة داخلية، خاصة بدراسة أدبيات وفكر ونفوذ وأنشطة جماعة الإخوان المسلمينداخل وخارج بريطانيا، وكذلك بعلاقة هذه الجماعة بتنظيمات متطرفةأو متطرفة/عنيفة.

عيّن كاميرون وقتها السفير البريطاني السابق لدى المملكة العربية السعودية السير جون جنكينغز وهو من أبرز خبراء وزارة الخارجية البريطانية في شؤون الشرق الأوسطرئيساً للجنة.

وقد أعد التقرير مع المدير السابق لإدارة الأمن ومكافحة الإرهاب بوزارة الداخلية البريطانية تشارلز فار، وأعلن وقتها كاميرون أن التقرير سيصدر كاملا في يوليو/تموز ٢٠١٤. “بدأت ردود أفعال مجلس العموم بالتساؤل عن أسباب قرار مراجعة الحكومة للموقف من جماعة الإخوان، في وقت تبدو فيه الجماعة وحزبها السياسي في مصر ضحايا عنف سياسي مُتَمثِل في انقلاب عسكري وجرائم محتملة ضد الإنسانية، ولم تنته ردود الأفعال هذه بالتساؤل عن التقرير نفسه وأسباب عدم صدوره

وبعد أن بذلت اللجنة جهودا كبيرة في إعداده منها مراجعة دراسات عديدة عن الإخوان المسلمين، ومقابلة خبراء ومتخصصين في دراسة الإسلاميين، وكذلك قادة الجماعة وتنظيماتها وتياراتها الفكرية من المغرب إلى الكويتلم يصدر التقرير كاملا إلى اليوم، وحتى بعد مطالبة لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم البريطاني به أو بنسخة معدلة منه تحذف أو تحجب المعلومات السرية.

أدت الضبابية حول قرار كاميرون، وعدم نشر التقرير، والشائعات حول دور دولة نفطية في الضغط لإصدار تقرير سلبي عن جماعة الإخوان يُمَهِّد لتصنيفها منظمة إرهابية، في مقابل استثمارات وصفقات أسلحة تشتريها من بريطانيا بمليارات من الجنيه الإسترليني؛ أدى كل ذلك إلى سلسلة من التفاعلات وردود الأفعال، بما في ذلك على المستوييْن الرسمي والإعلامي وبدأت ردود أفعال مجلس العموم (الغُرفَة الدنيا في البرلمان) بالتساؤل عن أسباب قرار المراجعة، في وقت تبدو فيه الجماعة وحزبها السياسي في مصر ضحايا عنف سياسي مُتَمثِل في انقلاب عسكري وجرائم محتملة ضد الإنسانية، ولم تنته ردود الأفعال هذه بالتساؤل عن التقرير نفسه وأسباب عدم صدوره، وآثاره على السياسة البريطانية تجاه الإخوان خاصة والإسلاميين عامة.

وفي مواجهة ذلك؛ أصدرت الحكومة البريطانية في ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٥ملخصاً من ثماني صفحات أسمته مراجعة الإخوان المسلمين: النتائج الأساسية، ولخصت فيه أهم نتائج التقرير (الذي قيل إنه يتجاوز ستمئة صفحة).

ويتجه الملخص إلى أن الجماعة ليست إرهابيةوإن كانت انخرطت في أنوا ع من العمل المسلح (بما في ذلك دعم انقلابات عسكرية، وثورات مسلحة، وخوض حروب مدن ومغاوير) في عدة بلدان وأوقات زمنية مختلفة، بعد انسداد أفق التغيير التدريجي، ولكن عضويتها أو الارتباط أو التأثر بها قد يعدّ مؤشرا على تطرف مستقبلي محتمل“.

وأكد التقرير أن قول الجماعة إنها استخدمت فقط وسائل سلمية منذ نشأتها قولٌ غير صحيح، مشيرا إلى أن كتابات مفكري الإخوان استُخدِمَت لشرعنة إرهاب [تنظيم] القاعدة“.

العموم والخارجية: تضارب أم توافق؟

لم تستمر حالة الامتعاض في البرلمان طويلا، ففي مواجهة رفض الحكومة إصدار التقرير كاملا، أو حتى إطلاع المختصين في مجلس العموم عليه أو على نسخة معدلة منه، وكذلك عدم مثول السير جنكينغز أمام لجنة الشؤون الخارجية لمناقشة نتائج تقريره؛ قررت اللجنة في مارس/آذار ٢٠١٦ عقد جلسات علنية تستهدف فهم ومناقشة الإسلام السياسي والإخوان المسلمينبشكل شفاف، ليصدر على أثرها تقرير واضح وكامل وعلني.

لعلها من المرات النادرة إن لم تكن الأولىالتي تسَتخدَم فيها وثيقةٌ رسمية بريطانية مصطلحَ انقلاب عسكري” (مرتين) بدلا من تدخل عسكري، لوصف ما حدث بمصر في يوليو/تموز ٢٠١٣. كما أيدت الخارجية نتائج تقرير اللجنة البرلمانية بأن الأغلبية الساحقة للإسلاميين السياسيين غير منخرطين في العنف“”

وقد عقدت اللجنة المكونة من الأحزاب الثلاثة الكبرى (حزب المحافظين / يمين وسط، وحزب العمال / يسار، والحزب القومي الأسكتلندي يسار/قومي) أربع جلسات مطولة في البرلمان، أدلى فيها خبراء منهم كاتب هذا المقالبشهاداتهم في جلستين.

وخصصت جلسة ثالثة لقيادات وسياسيين إسلاميين من الإخوان ومؤيديهم، والرابعة لممثلي وزارة الخارجية البريطانية (مع غياب السير جنكينغز). وترأس اللجنة البرلماني المرموق في حزب المحافظين كريسبن بلنت، وهو ضابط مدرعات سابق ونائب منتخب عن دائرة ريجايت منذ انتخابات ١٩٩٧ دون انقطاع.

صدر تقرير لجنة مجلس العموم في نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٦، واتفق مع تقرير الحكومة السابقة في عدة نقاط، لعل أبرزها نقده الأداء والسلوك السياسي لجماعة الإخوان، وكذلك اختلاط سجل الجماعة فيما يخص المعارضة المسلحة والسلمية، رغم استمرار نفي قياداتها لذلك.

واتفق التقريران أيضاً على تأييد عدم تصنيف الإخوان منظمة إرهابية“. إلا أن تقرير مجلس العموم كان حادا في نقده لتقرير الخارجية لتجاهله حملة القمع التي تعرض لها الإخوان في مصر.

ومن ذلك عدم ذكره التدخل العسكري الذي أزاح حكومة منتخبة ديمقراطيا في يوليو/تموز ٢٠١٣، وقتْل الكثير من المحتجين المتعاطفين مع الإخوان في أغسطس/آب ٢٠١٣، كما يقول التقرير نصاً. وأكد تقرير العموم أيضا أن معدلات العنف السياسي في مصر كانت ستتضاعف لو أيدت قيادات الإخوان حمل السلاح ضد النظام الحالي.

كما قال هذا التقرير إنه بناءً على التجربة التونسية؛ فإن الإسلام السياسي في بعض الدول يوفر طريقاً للتحول الديمقراطي، وخطابا مضادا للأيديولوجيات المتطرفة“.

وقد أصدرت لجنة الشؤون الخارجية تقريرا ثالثاً في مارس/آذار الجاري، ورد فيه رد الخارجية المفصل على النقد الحاد الموجه لها من البرلمان. وواضح من ردود الخارجية المكتوبة أنها أعادت تفسير ما فُهِمَ من ملخص تقرير جنكينغز. إذ أيدت معظم ما جاء في هذا التقرير وتوصيات لجنة الشؤون الخارجية.

ولعلها من المرات النادرة إن لم تكن الأولىالتي تسَتخدَم فيها وثيقةٌ رسمية بريطانية مصطلحَ انقلاب عسكري” (مرتين) بدلا من تدخل عسكري، لوصف ما حدث بمصر في يوليو/تموز ٢٠١٣. كما أيدت الخارجية نتائج تقرير اللجنة البرلمانية بأن الأغلبية الساحقة للإسلاميين السياسيين غير منخرطين في العنف“.

دروس ديمقراطية ولكن

بغض النظر عما عكسته الأحداث والتفاعلات عن ديمقراطية وستمينستر، وديناميكيات توازن وفصل السلطات واستقلاليتها وعمق خبرتها، وقدرتها العالية على النقد والتصحيح الذاتي، وعلى العدالة والإنصاف مع المخالف، وهي فضائل معدومة أو مشوهة في أي نظام غير ديمقراطي؛ فإن الاتجاه العام الرسمي في بريطانيا يبدو مغايرا لاتجاه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

الأمر لم ينته بعدُ؛ فلجنة الشؤون الخارجية ما زالت تطالب الحكومة البريطانية بتوضيح آليات مراجعة وتحديث التقرير، والقرارات التي قد تُبنى أو بُنِيَت عليه، وكذلك موقفها من جماعة الإخوان المسلمين في المستقبل

فإدارة الأخير تبدو مائلة لتصنيف الإخوان منظمة إرهابيةرغم بروز معارضة أميركية رسمية وشعبية لذلك، بينما تتجه المؤسسات التشريعية والتنفيذية البريطانية إلى تجنب هذا التصنيف.

إلا أن الأمر لم ينته بعدُ؛ فلجنة الشؤون الخارجية ما زالت تطالب الحكومة البريطانية بتوضيح آليات مراجعة وتحديث التقرير، والقرارات التي قد تُبنى أو بُنِيَت عليه، وكذلك موقفها من جماعة الإخوان المسلمين في المستقبل.

كما أن اللجنة تصرّ على أنه لا يمكن فهم السلوك السياسي للإخوان المسلمين دون النظر للبيئة التي خرجوا منها وعملوا فيها، وما فيها من قمع سلطوي، وانقلابات عسكرية، وحروب أهلية، وأشكال متعددة للعنف السياسي، بحيث يبقى السلاح المُشَرعن بالدين أو السلاح المُشَرعن بالقومية المتطرفةأهم وسيلتين للوصول إلى السلطة السياسية والبقاء فيها بمعظم بلدان الشرق الأوسط.

بينما تبقى الأصوات الانتخابية، والدساتير، والحكم الرشيد، والإنجازات الاجتماعية والاقتصادية، مجرد وسائل ثانوية أو أمور تجميلية. وفي ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية، ومع إدارة ترمب وتوجهاتها؛ لن تكون الحكومة البريطانية الحالية في عجلة من أمرها لحسم هذا الملف، حتى في ظل مطالبات لجنة الشؤون الخارجية بذلك.

***

عمر عاشور ـ أستاذ محاضر في الدراسات الأمنية والإستراتيجية

____________

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *