بقلم محمد صالح تنتوش

عادة ما نسمع في ظل الأزمة الراهنة أن بعض المناطق في ليبيا تشهد أمنا واستقرارا كبيرين ، فيما يحاول البعض أيضا استرجاع التاريخ من خلال الحديث عن مدى الأمن والاستقرار الذي كانت تعيشه البلاد خلال حقبة النظام السابق ،

والواقع أننا هنا يجب أن نفسر الأمر ونحاول تحليله لا من أجل الترف الفكري والنقاش فيما لا صلة له بالواقع ، وانما في الحقيقة هذا الموضوع يتعلق بمفاهيم مرتبطة بأفعال الجماهير في ليبيا والتي قد يكون أدناها تكرارها لهذا الكلام الذي نحاول تحليله هنا وقد لا تنتهي أفعالها عن التسويق لمفهوم الاستقرار والأمن على حساب العدالة .

وحتى لا يستمر استغراب القارئ حول ما أقول هنا سيكون علي بداية أن أمهد حديثي بالحديث عن الاستقرار والأمن أثناء حقبة النظام السابق ، وعلى قدر ما تمثله الحقيقة من أن الوضع لم يكن قريبا مجرد القرب من الفوضى التي نشهدها الآن على الساحة الليبية ،

إلا أن المجتمع لم يشهد حالة حقيقية من الأمن طوال فترة حكم القذافي حسب نموذجي التفسيري لمفهوم الأمن والاستقرار والذي أرى فيه أن منظومة الأمن لا تكون سبيلا للاستقرار والأمن بشكل حقيقي ما لم ترتبط بمنظومة عدالة تنطبق على الجميع يكون فيها لجميع أفراد الشعب حقوقهم دون قمع أو انتهاك لحقوقهم الأساسية مثل الحق في الحصول على محاكمة عادلة وامتثال الحكام والمحكومية لذات المنظومة القضائية بشكل يمنع تعدي من هم في هرم السلطة على من هم أضعف منهم مكانة في المجتمع أو حتى أولئك المعارضين الذين لم يستخدموا العنف في التعبير عن أنفسهم .

والحقيقة أن منظومة العدالة كانت غائبة أثناء حقبة النظام السابق وهو ما جعل أجهزة الأمن تعمل لصالح تثبيت وحماية النظام لا لصالح وحماية الشعب وإلا لكنا رأينا الكثيرين من رموز هذا النظام في المحاكم مثل غيرهم .

ولو توسعنا في محاولة تعريف مفهوم الأمن سنجد أن الأمن لم يكن متوفرا ليس فقط لمعارضي النظام الذين تعرضوا لأقصى أنواع القمع والإعدامات دون الحصول على محاكمة عادلة ، والواقع أن الأمن لم يكن متوفرا حتى لبقية المجتمع إذ أن سلامة أموالهم على سبيل المثال لم تكن مضمونة بل في واقع الأمر فإنها في حقبة من الزمن تعرضت لانتهاكات كبيرة تمثلت في قوانين الملكية (البيت لساكنه) و (الأرض للجميع ) و (المركبة لمن يقودها ) والزحف على مقدرات المواطنين (من أين لك هذا ) و الأمثلة كثيرة وتشمل جوانب أخرى .

ان تمهيدنا هنا بالحديث عن مفهوم الأمن من خلال ضرب الأمثلة بما كان يحدث خلال حقبة النظام السابق ليس في سبيل تحميله الأخطاء التي نقوم بها حاليا وإنما في الواقع هي عملية تمهيدية تراتبية لا أكثر ؛

فما حدث أثناء أحداث 2011 هو أن عملية مواجهة النظام السابق بنيت على أسس مناطقية وقبلية وهو ما ظهرت نتائجه فيما بعد من خلال انتشار سياسة المناطق والقبائل المنتصرة والأخرى المهزومة ، وهو ما انعكس جليا من خلال توزيع المناصب في فترتي حكومة الكيب وزيدان ،

وحيث يصف البعض بأن سنتي 2012 و2013 شهدتا استقرارا كبيرا إلا أن المدقق في الأمر سيجد أنه وفي ذات الفترة تم تهجير مجموعة من سكان المناطق “المهزومة ” تحت ذرائع مختلفة ، بالإضافة إلى عمليات اعتقال وانتقام واسعة من بعض قيادات النظام السابق خارج نطاق العدالة والقانون فضلا عن اغتصاب الكثير من ممتلكاتهم ،

والمسؤولون عن معظم هذه الأفعال في واقع الأمر وجدوا غطاء وحماية قوية تحت مسميات كتائب الثوار ورغم أن الكثيرين من قيادات وشخصيات الثورة ومسؤولي المناطق والقبائل “المنتصرة” لم يكونوا راضين على مثل هذه الأفعال إلا أن واقع الأمر فرض عليهم السكوت والتجاوز عن كل هذه الانتهاكات لأن الحديث عن هذه الانتهاكات واتخاذ اجراءات بخصوصها وبشكل خاص في الأماكن التي تميزت بدورها وتكاثفها أثناء الثورة بشكل مناطقي أو قبلي ؛ كان يعني فقدان الكثير من التحالفات وخسارة مقاتلين و ربما حتى إحداث شروخ فرعية داخل المنطقة أو المدينة (صراعات بطون القبائل أو التكتلات القبلية داخل المدينة الواحدة ) وهو ما يعني اضعاف المنطقة أو القبيلة أمام القبائل والمدن الأخرى في وقت كان فيه صوت القبيلة والمنطقة فوق كل شيء في سباق الصراع على غنائم الثورة .

ربما ينزعج البعض من كلامي لكن من أراد التأكد فله أن يطلع على حركة وطبيعة التحالفات منذ حرب 2014 في المنطقتين الغربية والشرقية حيث تم التغاضي عن أفعال و انتهاكات مشينة في حق الطرف الآخر مثل اغتصاب أملاكه أو حرقها أو الاعتقالات التعسفية على أساس الهوية والإعدامات الميدانية التي ظهرت بوحشية خلال مقاطع الفيديو المسربة للأطراف المختلفة ، دون أن تحرك قيادات العمليات العسكرية الرئيسية من الاطراف في هذه الحرب ساكنا ، لأن اتخاذ أي تدابير في حق منفذي هذه الانتهاكات يعني اضعاف موقف هذه الأطراف وخسارتها لتحالفات الحرب .

بالتالي فإن الحديث عن الأمن والاستقرار لمجرد سيطرة أحد أطراف الصراع على مناطق كان يدور فيها النزاع مع طرف آخر لا يعني استتباب الأمن طالما لم يكن مرتبطا أيضا بمحاكمات عادلة وضمان الجميع لحقوقه الأساسية بعيدا عن السيل الجارف من خطابات تبرير هذه الانتهاكات التي في واقع الأمر ليست أكثر من دوافع لتعبئة رصيد من الأحقاد والكراهية من شأنه إنهاء حتى هذا الاستقرار والأمن الزائف في أقرب فرصة ممكنة كما حدث مع نظام القذافي.

***

محمد تنتوش / كاتب ليبي

_____________

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *