بقلم محمد حسن صوان

كنت وما زلت أصر على أن أي نقاش سياسي ومكاشفة بين الليبيين، حتى وإن خرجت عن طور اللياقة أحيانا، هي لصالح الوطن وتعزيز ممارسة النقد،

وهي ثمرة من ثمار مدرسة الحرية، نتعلم فيها الاستماع إلى الرأي والرأي المخالف، حتى ولو كان جارحا، فنحن جميعا نتعلم حرية التعبير التي لم نعهدها من قبل، والممارسة هي الطريق الصحيح للوصول إلى الاعتدال في التعاطي مع هذه المكاسب التي تحتاج إلى ضبط.

وفي ظروف هذه الأزمة الخانقة التي يمر بها الوطن، فإن النقاش والاختلاف يدور حول قضايا أساسية تمس أمن الوطن واستقراره ونجاح ثورته وتحقق آمال المواطن وتطلعاته، فلا غرابة أن يشتد الخلاف والنقاش ويشتط البعض، فهي ليست قضايا ترفية في ظروف مريحة، ومع ذلك يظل الجميع مطالبا بتقبل الرأي المخالف، والابتعاد عن اتهام النوايا وتقبل الحق متى ما ظهر له؛ فمجال السياسة على وجه الخصوص، بعيدا عن القطعيات، تتعدد فيه الآراء والاجتهادات؛ فالنقاشات والانتقادات هي التي تظهر الآراء الصائبة والمعتدلة من غيرها، وفي السياسة لن يميز الشارع الليبي الآراء المعتدلة من الآراء المتطرفة، والصواب من الأصوب، والخطأ من الأكثر خطأ، والواقعية من ضدها، إلا بمزيد من النقاش والحوار المفتوح.

أقول إن هذا التقديم ضروري بالنسبة لي، وأنا أحاول أن أقول كلمة في حق كل النقاشات التي دارت وتدور حول الاتفاق السياسي، وتتجدد من حين لآخر تبعا للأحداث، وآخرها ما جرى بعد تصريحات فضيلة المفتي الشيخ الصادق الغرياني بشأن اتفاق الصخيرات والأطراف الموقعة عليه.

أعود وأكرر ما أقوله دائما ويعرفه عني الناس من حفظي لمقام الشيخ وتقديره، والتماسي أحسن التأويلات لما يصدر عنه، إلا أن هذا التقدير لا يجعلنا نسكت عما نخالف فيه الشيخ من اجتهادات سياسية قادنا إليها النظر للوطن، والبحث عن مصالحه، مع دراسة الواقع، والظروف المحيطة واستشارة أهل الخبرة، والاسترشاد بالتجارب المماثلة في المنطقة والعالم، ولعل الأحزاب والمؤسسات السياسية التي تقوم على عقل جمعي هي الأقرب إلى تحصيل شروط الصواب في قضية مثل السياسة، التي تتداخل فيها أبعاد اقتصادية واجتماعية وأمنية، داخلية وأخرى خارجية، وهذاقطعالا يُنقص من حق الآخرين في الإدلاء بآرائهم حيال القضايا السياسية، بل الأقرب أن يستأنس الآخرون برأي الأحزاب السياسية، كما يستأنسون برجال الاقتصاد في المسائل الاقتصادية، وبالطبيب في المسائل المتعلقة به..

وهكذا، وما لاحظته، وأريد التنبيه عليه، هو أن البعض قد اتخذ من الدفاع عن دار الإفتاء والشيخ؛ غطاء لتصفية حساباتهم مع تيار الاعتدال الذي ينحدر منه ويقوم عليه حزب العدالة والبناء، ولهؤلاء أقول: تمايزوا وأعلنوا عن مشروعكم، وخوضوا السياسة فاعلين، وادفعوا فاتورة أفعالكم وتحملوا مسؤوليتكم كاملة، ولن نسمح لأحد بالتخفي خلفنا.

لقد قام نهجنا في حزب العدالة والبناء على أن الحوار بين الليبيين هو السبيل الوحيد لحل مشاكلنا، والتغلب على العقبات التي تواجهنا في سبيل إعادة تأسيس دولتنا الحبيبة ليبيا. من هذا المبدأ كان موقفنا الداعم لأي مشروع نتوقع أن يفضي إلى حل الأزمة الليبية، ولكل محاولة لوقف الاقتتال، وإنهاء معاناة المواطن الليبي، أو التخفيف منها.

وهو ما دعانا إلى دعم عملية الحوار التي انطلقت بين الليبيين برعاية الأمم المتحدة، ودعمنا ومازلنا ندعم مخرجاتها المتمثلة في الاتفاق السياسي الليبي الذي وقّع عليه أغلب الطيف السياسي والمجتمعي الليبي، لكن المتخوفين من أي حل لا يحقق كل ما يريدون، والرافضين لأي تنازل لشركاء الوطن، والمتاجرين في الحروب، والمستفيدين من استمرار الفوضى، والمعرقلين الذين يرعون مصالح بعض الدول، أعاقوا تنفيذ بنوده ومازالوا يعبثون، وعندما جاءت الدعوة إلى تعديل الاتفاق السياسي،

قلنا إنها فرصة ستسمح لبعض المعرقلين بالانضمام للاتفاق، والانضواء تحت الشرعية المعترف بها دوليا لتكون غطاء لكل الليبيين وافقنا على فتح الاتفاق السياسي للتعديل، ودافعنا عن ضرورة إشراك كل الليبيين في عملية إدارة شؤونهم، والمشاركة في هذه المرحلة الحساسة، وتحصيل أكبر قدر من الإجماع الوطني الذي نحتاجه لاجتياز مطبات الانتقال، وإنهاء الاقتتال. لكننا للأسف اصطدمنا من جديد برغبة المعرقلين في عدم تنفيذ بنود الاتفاق السياسي على كامل رقعة الوطن، وحال خوفهم على مواقعهم وامتيازاتهم، دون الانخراط في جهد حقيقي لتحقيق السلام في ليبيا، واستمر الوطن والمواطن في دفع فاتورة الانقسام الباهظة.
وهو نفس النهج الذي جعلنا ندعم الاستفتاء على الدستور، والسعي لإقراره مهما تكن الملاحظات عليه، لأننا نعتقد أن الوقت الذي نحن فيه وقت ضرورات، والخيارات فيه محدودة، وليس وقت سعة للمفاضلة بين كثير من الخيارات، ومع قناعتنا بأن الاتفاق السياسي من أفضل ما يمكن أن نصل إليه في حالة الانقسام والاقتتال التي عرفها البلد، فإن أي مبادرة تطرح من هؤلاء لحل الأزمة الليبية، سنكون أول من ينخرط فيها؛ شرط أن تكون قابلة للحياة وواقعية وجدية.

ما زال هذا موقفنا أيضا في دعم المصالحة الوطنية الشاملة، وفي أي حوار ليبي يدعى فيه الجميع إلى طاولة الحوار بدون استثناءات ولا قيد ولا شرط، وبدون أي ممنوعات، ومواجهة كل الأسئلة الصعبة والشاقة، وفتح كل الملفات مهما كانت شائكة، وطرح كل القضايا المرّة، وفتح باب النقاش حولها للوصول إلى حلول تضمّد الجراح التي أصابت جسم الوطن، وقد أكدنا مرارا ونؤكد دائما أننا منفتحون على أي خيار ينهي الاقتتال ومعاناة المواطن الليبي، ويسمح بالبدء في بناء مؤسسات الدولة الليبية، على أسس الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية؛ انطلاقا من ثوابت الشعب الليبي، وبعيدا عن الاستبداد مهما كان شكله ولونه.

إن عمر الأزمة الليبية الحالية يفوق ثلاث سنوات، وقد كان حزب العدالة والبناء خلالها منفتحا على كل المبادرات، وشارك في كل جهد سياسي لحل الأزمة مضحّيا بكل ما يملك من وقت وجهد، من أجل الوطن ومن أجل تخفيف معاناة المواطن، ويعي ذلك كل من تعامل مباشرة مع الحزب رغم الحملات الإعلامية والتشويه الممنهج من الخصوم، وعندما تهدأ العاصفة ويعود الاستقرار قريبا إن شاء اللهستنكشف الحقائق؛ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، ولقد شهدت هذه السنوات الثلاث مبادرات جدية من عدة أطراف، أثمرت منها في النهاية، لأسباب يطول شرحها، مبادرة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وأنتجت الاتفاق السياسي الليبي الحالي.

وتجدر هنا الإشارة إلى أنه لا مجال للتشكيك في وطنية وإخلاص كل من شارك ووقّع على الاتفاق السياسي من رجالات ليبيا ونسائها، أو المزايدة عليهم كما يدّعي البعض، وقد قلنا من اليوم الأول إنه ليس حلا مثاليا، وإننا منفتحون على أي مبادرة أخرى، لكننا للأسف لم نجد إلا من يقف عند مستوى لعن الظلام، دون أن يوقد شمعة، ونحن نعتقد أن الانتظار ضياع للوطن وتضييع للأمانة، وسنكون على استعداد لإفساح الطريق أمام من يقدّم ما هو أفضل مما توصلنا إليه، بل والانخراط في دعمه، والعمل من أجل تحقيقه.

أمّا مجرد الاتهامات والسب والتخوين فهي صنعة المتفرج، علينا النزول إلى ميدان الفعل ويقوم كل منا بواجبه حيال الوطن.. والله ولي الأمر والتدبير.

***

محمد حسن صوان ـ رئيس حزب العدالة والبناء

______________

مواد ذات علاقة