بقلم هيثم سليماني

استقبل الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، بقصر قرطاج، خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي المنبثق عن حكومة طبرق، في إطار الجهود التونسية المبذولة من أجل التقريب بين الفرقاء الليبيين.

واستعرض السبسي في بداية اللقاء، العلاقات التاريخية العريقة التي تجمع تونس وليبيا، وذكر بعمق الروابط بين الشعبين الشقيقين، مؤكدًا ترابط المصالح بين البلدين في شتى المجالات، ومشددًا على أنّ الاستقرار في ليبيا شرط أساسي لاستقرار تونس.

حفتر الذي نزع بزّته العسكرية واستبدلها ببدلة مدنية مع ربطة عنق، حلّ بتونس مرتديًا قبعة السياسي رغم أن تاريخه القديم والحديث لا يُمكن اختزاله إلا في الجانب العسكري. وبين صفة العسكري وقبعة السياسي مسيرة تحوّل فرضتها موازين القوى المحلية والدّولية.

حفتر.. البدايات القلقة في حكم القذافي

ولد حفتر سنة 1943 في مدينة أجدابيا الشرقية، وأكمل دراسته وتخرج في الكلية العسكرية في بنغازي سنة 1966، وعُين بسلاح المدفعية وكان من بين المُقربين من القذافي خاصة بعد دعمه له في الانقلاب الذي أطاح بالملك إدريس سنة 1969.

مُقابل هذا الدّعم؛ تمت مُكافأته وفتح له الباب للتدرُّج سريعًا في الرتب العسكرية ليُعيّن على رأس القُوّات الليبية التي شاركت في حرب 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 ويتلقى عديد الدورات التكوينية العسكرية مثل دورة قيادة الفرق في روسيا وغيرها.

ودخلت علاقة حفتر بالقذافي منعرج القطيعة سنة 1980 عندما أرسله للمشاركة فى الحرب ضد دولة تشاد، التي كانت تهدف للإطاحة بالرئيس حسين حبري. فبعد نجاحه – حفتر – في تحقيق نصر عسكري مُؤقّت تمكّن به من السيطرة على التشاد لفترة قصيرة؛ طلب دعمًا عسكريًّا ليثبّت به احتلاله، إلا أن القذافي، مدفوعًا بحسابات السلطة، تجاهل هذا الطلب ليتركه دون دعم ودون عتاد، خوفًا من أن يتحوّل إلى رمز ليبي قادر على الانقلاب عليه.

تم أسر حفتر فى معركة «وادى الدوم» – وتسمى أيضًا «معركة تويوتا» – مع مئات الجنود الليبيين سنة 1987، وأنكر القذافي صلة حفتر وجنوده به خاصة مع ثقل الهزيمة التي راح ضحيتها ما يقارب 7 آلاف جندي.

وفي ظل هذه الوضعية؛ طلب حفتر من الحكومة التشادية إطلاق سراحه وسراح جنوده مُقابل العمل ضد نظام القذافي الذي أصبح عدوّا مُشتركًا، وهو ما حصل بالفعل إذ تم منحهم معسكرا خارج العاصمة التشادية نجامينا احتضنت تدريبات الجنود الليبيين دامت سنتين قبل الإعلان عن إنشاء الجيش الوطني الليبي باعتباره جناح عسكري يتبع الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا المعارضة.

جرت الرياح بما لم تشتهِ سفن حفتر، ففي شهر ديسمبر (كانون الثاني) 1990 تمت الإطاحة بالرئيس التشادي من قبل منافسه «إدريس بيبي» الذي صعد لسدة الحكم حاملًا أجندة مختلفة عن خلفه حول الملف الليبي باعتباره أراد إقامة علاقات جيدة مع نظام القذافي، الذي دعمه كثيرا، الأمر الذي دفع حفتر وجنوده لمغادرة التشاد نحو نيجيريا، ثم الزائير (الكونغو الديمقراطية حاليًا) على متن طائرة أمريكية.

وبحسب شبكة «سى.إن.إن»، الأمريكية، كان ثمن استقبال حفتر وجنوده والسماح لهم بالتواجد على أرض الزائير 5 ملايين دولار، إلا أن تصويتًا بالكونجرس (البرلمان) ألغى هذه الفكرة ليجد حفتر نفسه مرة أخرى أمام ضرورة الانتقال من جديد.

وكانت الوجهة هذه المرة نحو كينيا، إلا أن الأمر لم يدم طويلًا، فبعدما توترت العلاقات بين الحكومة الكينية وإدارة جورج بوش الأب، تم نقل مئات من رجال حفتر جوًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتوطينهم لاجئين سياسيين على نفقة الحكومة، وعاش حفتر في منزل في ولاية فرجينيا، وانتشر رجاله في 25 ولاية أخرى.

ثورة فبراير وتغيُّر التحالفات

عاد حفتر من منفاه الذي دام 20 عامًا إلى ليبيا بعد قيام ثورة 17 فبراير(شباط) 2011 ضد نظام القذافي مُلتحقا بالثوار، تحديدًا في شهر مارس (آذار) من ذات السنة. وبعد الإطاحة بنظام القذافي ومقتله في 20 أكتوبر(تشرين الأول) 2011، اختلف العسكريون أصحاب الرتب الكبيرة في الجيش الليبي الذي كان يساند الثوار حول وضع حفتر في الفترة الجديدة وانقسموا بين من يُطالب بتنصيبه قائدًا للجيش نظرا لأقدميته وخبرته العسكرية من جهة، وبين من طالب بإبعاده باعتبار تاريخه ضمن جزئيتين: الأولى أنه قائد عسكري مأسور، والثانية أنه كان أحد أبرز مساندي القذافي الذي قامت الثورة ضدّه.

وشهدت الفترة اللاحقة في ليبيا أفولًا لنجمه، وهو ما دفعه لبناء أجندته الخاصة ليتحوّل تموقعه من مساهم جنبًا إلى جنب الإسلاميين في دحر نظام القذافي، إلى مُعارض شديد لهم ولوجودهم كليًّا أو جزئيًّا على سدّة الحكم.

يقول، فريدريك ويري، الباحث الأول في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، في مقال كتبه لمجلة ذي أتلانتيك الأمريكية، إن حفتر استثمر حالة الفراغ الموحش الذي أحاط ببنغازي الليبية إثر الهجوم على القنصلية الأمريكية سنة ،2012 والذي تسبب في مقتل السفير كريستوفر ستيفنز وثلاثة أمريكيين آخرين.

شهدت المدينة الواقعة في الشرق الليبي إثر تلك الحادثة عمليات اغتيال استهدفت قضاة ونشطاء ورجال أمن وضباط الجيش وهو ما رفّع في حالة القلق والتوجّس لدى البنغازيين الذين باتوا أكثر من أي وقت مضى في حاجة لمن يضمن لهم سلامتهم وسلامة ممتلكاتهم.

وهنا يبرز حفتر لابسًا جُبّة المُنقذ القادر على صدّ موجات العنف التي اختلفت أسبابه بين أيديولوجي راديكالي وقبلي وغيرها.

صباح الرابع عشر من فبراير(شباط) 2014، أعلن حفتر خلال خطاب متلفز إيقاف عمل المؤتمر الوطني (البرلمان آنذاك) استجابة منه «لمطلب شعبي برفض تمديد عمل المؤتمر الوطني» الذي انتهت ولايته في السابع من الشهر ذاته مؤكدًا أن العاصمة طرابلس تحت سيطرة جنوده ومؤيديه، وفق تعبيره.

تبين لاحقا أن «انقلاب» حفتر كان انقلابًا تلفزيًا، إذ حافظت طرابلس على هدوئها ولم يبرز لجنود حفتر ومؤيديه أية أثر، وأصدرت السلطات الليبية آنذاك أمرًا بالقبض عليه معتبرة إعلانه وتحركاته انقلابًا على شرعية الدّولة.

ورغم حجم السخرية الذي رافق إعلان الانقلاب الوهمي، عاد حفتر ليتصدّر عناوين الأخبار مرّة أخرى عندما أعلن يوم 16 مايو( أيار) 2014 عن انطلاق عملية عسكرية سميت بـ«عملية الكرامة» ضد كتائب الثوار وتنظيم أنصار الشريعة الجهادي في مدينة بنغازي، بعد اتهامه لهم بـ«التطرف والإرهاب والوقوف وراء تردي الأوضاع الأمنية وسلسلة الاغتيالات بالمدينة»، فيما اعتبرت الحكومة تحركات حفتر، «انقلابًا»، كونها عملية عسكرية انطلقت دون إذن من الدولة.

وعلى عكس تحركه السابق؛ أعلن وزير الثقافة، وقتها، الحبيب الأمين، تأييده لحفتر، ثم أعلنت وزارة الداخلية الليبية تأييدها أيضًا، وانضمت إليه قبائل في الشرق الليبي وكتائب في الجيش ومديريات أمن جميع مدن الشرق لينتهي الأمر بإعلان الحكومة المؤقتة التي يترأسها عبد الله الثني، تأييدها حفتر، وسط سخط وتنديد عدة أحزاب والمؤتمر الوطني.

وفي يوليو (تموز) 2014، أعلن مجلس النواب الليبي (البرلمان) المجتمع في مدينة طبرق دعمه للعملية العسكرية التي يقودها حفتر. ورغم ما أثاره هذا الدّعم من جدل قانوني وسياسي بشأن انعقاد مجلس النواب في طبرق بدلًا من العاصمة طرابلس، وجد حفتر غطاء سياسيًا لعمليته العسكرية خاصة مع انقسام ليبيا بين برلمانين وحكومتين.

برلمان طبرق، الذي عين حفتر قائدًا أعلى للجيش الليبي ومنحه رتبة فريق ثم مشير، أصبح الواجهة السياسية للمشروع الذي يقوده حفتر. ورغم رتبته العسكرية، شهدت هذه الفترة بدايات التحول في مسيرة حفتر من خلال تعدد لقاءاته مع الدبلوماسيين الغربيين ومن بينهم السفير الإيطالي والسفير البريطاني والسفيرة الفرنسية ومبعوث الجامعة العربية إلى ليبيا، وهو ما ساهم في تقديمه على أنه أحد مفاتيح اللعبة السياسية في ليبيا.

ربطة العنق بديلًا عن البزة العسكرية

كانت أولى زيارات حفتر الخارجية الرسمية، بتاريخ 12 أبريل (نيسان) 2015، إلى الأردن بدعوة من الملك عبدالله الثاني. ورافق حفتر الذي تحوّل لعمان بصفته العسكرية، بحسب وكالة الانباء الليبية، رؤساء أركان القوات البرية والبحرية والجوية وبعض المستشارين العسكريين في القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية.

وبحسب تحليل صحيفة القدس العربي، مثّل الاستقبال الملكي لـ«القائد العام للجيش الليبي» كما ورد في وسائل الإعلام الحكومية الأردنية، تدشينًا لعملية تأهيل حفتر «حتى يتأهل لقيادة ليبيا مستقبلًا ضمن ترتيبات التسوية الشاملة التي كان يتحدث عنها وزير الخارجية الفرنسي».

وتتابع الصحيفة: «هذه العملية ووفقًا لمصادر القدس العربي يدشنها الأردن، لكن تدعمها من وراء الستارة وبقوة مصر ودولة الإمارات والسعودية ودول النادي الخليجي فيما يعتقد وعلى نطاق واسع بأن الهيئة الإعلامية التي ظهر عليها حفتر في العاصمة الأردنية لا تكرسه فقط رقمًا صعبًا وأساسيًا في المعادلة الليبية المعقدة ولكنها تمهد لحسم عسكري وشيك أو على الأقل لمعركة مدعومة إقليميًا ودوليًا سيخوضها الجنرال حفتر قريبًا».

وبالفعل؛ كشف تقرير للأمم المتحدة عن عمليات تهريب سلاح إلى ليبيا قامت بها مصر والإمارات، وتحدث التقرير المطول عن عمليات تهريب سلاح لا تشمل نقل الذخائر والسلاح فقط، بل بتحويل طائرات مقاتلة مصرية إلى ليبيا أيضًا.

وأكّد التقرير أن الإمارات صدّرت بشكل غير مشروع أسلحة إلى ليبيا وأنهم تلقوا معلومات تفيد بأن أبو ظبي نقلت عتادًا عسكريًا إلى مدينة طبرق شرق البلاد أواخر سنة 2014 شمل طائرات حربية تعود ملكيتها لمصر.

ظلّ الصّراع الدّاخلي الليبي، رغم جزيل الدّعم الذي قُدّم للمشير حفتر، بين مدّ وجزر ولم يقدر أي من المتصارعين على حسم التّزاع لصالحه. في الأثناء؛ انطلق حوار سياسي ماراثوني برعاية الأمم المتحدة إلا أنه وبرغم تعدد محطاته لم يُوفّق في إيجاد حل سياسي ينهي الانقسام الليبي.

في أواخر شهر يونيو 2016، كشف موقع «سبوتنيك» الروسي أن حفتر وصل العاصمة الروسية موسكو في زيارة لبحث الأزمة الليبية مع المسؤولين الروس. ونشر موقع بوابة الأهرام صورًا لهذه الزيارة التي ظلت تفاصيلها سرية إلى حدود منتصف شهر أغسطس (آب) 2016، حيث ظهر فيها المشير حفتر مُرتديًا لباسًا رسميًا مدنيًا على عكس العادة.

تبع تلك الزيارة وفي نفس السنة زيارة ثانية إلى روسيا التقى فيها مسؤولين من الصف الأول في الإدارة الروسية على رأسهم وزير الخارجية، سيرغي لافروف، ثم الولايات المتحدة الأمريكية في زيارة دامت خمسة أيام، وكان المُشترك بينها ربطة العنق.

ومنذ ذلك الوقت، أصبح حفتر، خاصة خلال اللقاءات ذات الطابع السياسي والدبلوماسي، يحرص على الظهور أمام العدسات مُرتديًا قبعة السياسي تاركًا البزة العسكرية للمناسبات المحلية المتعلقة باستقبال مشائخ القبائل الدّاعمة له أو خلال زياراته الميدانية للمؤسسات العسكرية.

حول هذه النّقطة، علّق الإعلامي التونسي والمحلل المختص في الشأن الليبي، سيف الدين الطرابلسي، عقب زيارة حفتر لتونس قائلًا: «داعمي حفتر الإقليمين أدركوا أن حفتر غير قادر على الحسم العسكري، وغير قادر على التقدم في الغرب الليبي المناوئ له سياسيًا وعسكريًا، وتخليه عن البدلة العسكرية ودخول العملية السياسية هو إقرار بهذا الأمر».

في نفس السياق يضيف الطرابلسي: «في هذا الإطار أدخل حفتر العملية السياسية من خلال قمة باريس، أي تحول من «انقلابي» ترتكب قواته جرائم حرب في بنغازي، قادته العسكريون مطلوبون للمحاكم الدولية، إلى فاعل سياسي ليبي يستقبل من طرف الرئيس الفرنسي».

فحفتر يزور عددًا من العواصم من بينها تونس وروما، علّه يصبح شخصًا أكثر قابلية. فكل الأطراف الفاعلة في ليبيا بما فيهم حفتر وداعميه يقرون اليوم (طوعًا أو كرهًا) بأن الحل في ليبيا سياسيا ولن يكون عسكريًا، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح.

***

هيثم سليماني ـ صحفي وكاتب وباحث تونسي مهتم بالشأن المغاربي والأفريقي. عمل كاتبا ومحررا ومراسلا لعدد من وسائل الإعلام العربية وله ورقات منشورة في عدد من مراكز الدراسات.

_____________

مواد ذات علاقة