بقلم المبروك الهريش

انتهج المبعوث الأممي إلى ليبيا منذ استلامه مهامه قبل أكثر من عام نهجًا دبلوماسيًّا مركزًا اعتمد على محاولة إرضاء جميع الأطراف السياسية، خاصة .طرفي الأزمة الأساسيين.

وهما: مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، مبتغيا من خلال هذا النهج الدفع بالعملية السياسية في طريق الحل كمقدمة لإذابة باقي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تعصف بالبلاد، خاصة بعد الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات برعاية الأمم المتحدة، والذي كان لسابقيه “الإسباني برناردينيو ليون، والألماني مارثن كوبلر” الجهد الأكبر في الوصول إليه.

غير أن هذا النهج لم يستمر طويلا، فقد شهدت إحاطة سلامة التي قدمها في جلسة مجلس الأمن في يوليو الماضي، تغيرًا واضحًا في نهجه الدبلوماسي، حيث أعلن صراحة أن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح لم يفِ بوعده في إصدار قانون الاستفتاء على مشروع الدستور، محمّلا المسؤولية لصالح في عدم الدعوة لعقد جلسات مجلس النواب وقيادته نحو ذلك.

بعدها بشهرين زادت حدة تصريحات المبعوث الأممي مهددًا هذه المرة إن استمر إخفاق النواب بتبني سبلٍ جديدة للتغيير “دون تردد وبكل حماس”، ليشمل بعدها المجلس الأعلى للدولة قائلا “إن البرلمانيين الذين انتخبوا في 2012 و2014 لا يطمحون لشيء سوى للبقاء في مناصبهم إلى أبد الآبدين”.

بالطبع لا يمكن أن يكون هذا التحول الجذري في التصريحات بدون مغزى ولا هدف، فالأعراف الدبلوماسية خاصة في دوائر السياسة الغربية تقول إن التلميحات في حديث المسؤولين أو إدلائهم بتصريحات تحتمل التأويل يعتبر مقدمة لتغير في المواقف على الأرض، ما يعني أن المبعوث الأممي إلى ليبيا لديه ما يشبه الضوء الأخضر بتجاوز هذين الجسمين إذا ما استمرّا في هذا التعنت الذي يسير جنبا إلى جنب مع سير البلاد إلى مزيد من الدمار والفوضى.

وإذا ما نظرنا بموضوعية إلى التصعيد في تصريحات سلامة نجد أن هناك شيئا من الواقعية في لغتها ومضمونها، فجُلّ السيناريوهات المطروحة لحل الأزمة تتطلب موافقة مجلس النواب، أو مجلس الدولة، أو كليهما: “تعديل الاتفاق السياسي، تعديل الإعلان الدستوري ومرحلة انتقالية ثالثة، الاستفتاء على الدستور، تعديل المجلس الرئاسي وانفصال الحكومة عن المجلس، تعيين المناصب السيادية ..”، ما يجعل من موقف سلامة تجاه الجسمين منطقيا وواقعيا، ولا ضير لو قلنا أن المرحلة القادمة سواء كانت انتقالية أو دائمة، يجب أن تكون خالية من الجسمين لإنقاذ ليبيا من مزيد المآسي.

غير أن ذلك لا يعني أن يتجه سلامة إلى حلٍّ أكثر تعقيداً ومغامرةً، وهو ما أطلق عليه “المؤتمر الوطني الجامع” الذي عرضه المبعوث الأممي في خارطته أمام مجلس الأمن بعد استلامه لمهمته، ليشرك الجميع بمن فيهم “الزعلانين” حسب وصفه، فرغم أن المؤتمر الجامع يعتبر خيارا جيدا لضم كل الأطياف السياسية بمن فيهم أنصار النظام السابق، ووسيلة لقبول كل الأطراف لبعضها البعض وعدم إقصاء أيّ أحد.

ولكن لا يمكن الاعتماد عليه في إدارة مرحلة معقدة كالتي تمر بها ليبيا وعدم الثقة متجذرة بين هذه الأطراف، إلا أن هذا الطرح يعتبر ضربا من الخيال، والأسوأ من ذلك هو توفر مساحات تتحرك فيها الدول الخارجية أكثر ويكون وبمقدورهم التحكم أكثر في مخرجات المؤتمر وصناعة المشهد القادم.

ويمكن في هذا السياق التذكير باتفاق بون الذي أتى بحكومة كرازاي في أفغانستان ووضع مهلة ستة أشهر لعقد مؤتمر اللوياجيركا وهو شبيه بالمؤتمر الجامع الذي يدعوا إليه سلامة، فقد تفاجأ الأفغانيون بتحديد الأمم المتحدة أسماء اللجنة التي تُحدد أسماء المشاركين في اللوياجيركا، لينتهي به إلى الفشل.

ما أريد الوصول إليه أن ليبيا في هذه المرحلة الحرجة في أمسّ الحاجة لوجود بعثة الأمم المتحدة خاصة –كما ذكرنافي ظل انعدام الثقة بين مختلف الأطراف، ما يفرض على ممثلها الخاص في ليبيا إدراك هذا الأمر واستغلاله في السير نحو حل واقعي وغير منحاز لطرف، ولو بالسعي إلى مزيد من الضغط على هذين الجسمين حتى يتم إنجاز متطلبات التهيئة للانتخابات وخلق الأرضية الصلبة لمرحلة دائمة ومستقرة بمرجعية دستورية واضحة.

المغامرة بفتح جبهة سياسية جديدة دون إنهاء حاسم للأجسام الموجودة لن يكون إلا توسيع لدائرة الفوضى السياسية.

***

المبروك الهريش ـ كاتب ليبي

______________

مواد ذات علاقة