بقلم علي عبداللطيف اللافي

لا يختلف اثنان أن الصراعات المُتواصلة في ليبيا وإن كانت بين أطراف ليبية فإنها في حقيقة الأمر واجهة عملية لحروب بالوكالة تخُوضها أطراف ومكونات وتشكيلات ليبية عبر الولاء المباشر وغير المباشر لأطراف إقليمية ودولية.

هذه الأطراف الإقليمية والدولي لها مصالح ومطامح في ليبيا تاريخيا واقتصاديا وثقافيا واستراتيجيا، بل أن كل ما يهم تلك القوى الدولية وأذرعها الإقليمية هو فقط ترسيخ حضورها الاستراتيجي واللوجستي المستقبلي في كل أرجاء القارة الإفريقية وان كان الهدف المرحلي، هو بسط النفوذ وتطويع الثروات الباطنية في شمال افريقيا وبعض دول الساحل والصحراء الافريقية.

فماهي ملامح توازن القوى محليا واقليما ودوليا وهل سيؤدي ذلك للجلوس على طاولة الحوار باعتبار أن الحل السياسي أصبح ضرورة حتمية فرضتها التطورات والمتغيرات خلال الأشهر والأسابيع الماضية؟

أولا: توازن القوى داخل وبين مكونات الأطراف السياسية المحلية

هناك توازن نسبي داخل حكومة الوفاق مقابل انهيار شبه كلي للحكومة المؤقتة

ـ إن المكونات التي ترتكز عليها كلا الحكومتين تفتقد عمليا لمنطق التوازن الداخلي بين مكوناتها الذاتية، وقد لاح تخبط كبير بين طرفي الصراع ولا أحد منهما يعتبر وحدة متكاملة حتى أن كلا الحكومتين تضم عمليا مكونات لا ترى في الحوار بين الليبيين تحقيقا لأهدافها الذاتية.

ـ حكومة الثني لم تعد موجودة عمليا حيث يشغل أحد الوزراء خمس حقائب مقابل صراعات على الملفات وتغيير مستمر للأسماء وسيطرة حفتر الكلية تراجعت في الأيام الأخيرة إضافة لعدم الاعتراف الدولي بها، وهذه الحكومة تشتمل على حوالي خمس مكونات بعضها ظاهر كـ”الفيدراليين” و”معسكر الكرامة” بقيادة الجنرال العجوز وأنصار هذه الحكومة في الجهة الغربية (وهم أيضا ليسوا وحدة متكاملة)، وأطراف لا تُرى ولا تظهر في الصورة، ومنهم أطراف من قبائل “البراعصة” و”العبيدات” و”العواقير”، ومنهم مكونات سياسية ليبرالية وطبعا بعض قيادات النظام السابق من عسكريين ورجالات الأمن الخارجي والداخلي.

ـ أما مكونات حكومة الوفاق متعددة الولاءات سياسيا وفكريا وكل مكون ليس بالضرورة وحدة متكاملة، بل أن كل مكون له قراءات من زوايا مختلفة للعلاقة مع حكومة الوفاق ومع المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة ومع بعض الوزراء والفاعلين القريبين من السراج غير مرتاحين للتحوير الحكومي الأخير بل حتى لتعديل الاتفاق السياسي لاحقا ولكنهم مرنين في قبول المقترحات ويرغبون أكثر من غيرهم في انهاء حالة التشتت ومع تقديم تنازلات من كلا الطرفين وبضرورة عدم ترك أي طرف خارج جبة الاتفاق الجديد من اجل القدرة على انهاء المرحلة الانتقالية والنسج على المنوال التونسي حتى لا تسقط الثورة الليبية في مطبات النماذج العربية الأخرى.

توزان في كل الاتجاهات بين وداخل مكونات التيارات الفكرية والسياسية

التيار الليبرالي: الضعف السياسي هو سمة هذا التيار بسبب اخفاقه في الخروج من الجمود الخطابي والعملي وقصوره مع التعامل البراغماتي مع السلطات والقوى على الأرض وعمليا التوازن موجود بين مكوناته، ورغم أن “تحالف القوى الوطنية” أمام فرص استثمار تنوع الساحة السياسية القابلة بطبيعتها لإعادة التشكل، الا أنه سيعرف منافسة من ثلاث مكونات ليبرالية

أولها “حراك نعم ليببا” (يضم مجموعة من “انصار سبتمبر” و”أنصار فبراير”، في محاولة لتجاوز الانقسام والاستفادة من المساحة البينية المتروكة)،

وثانيها “تجمع الوطنيين الأحرار”، وهم مجموعة ثوار متمايزين على التيارين الإسلامي والليبرالي رغم انتمائهم للتيار المحافظ ونزعتهم الليبرالية الظاهرة في خطابهم السياسي،

أما التيار الثالث فهم حزب “الجبهة الوطنية”، وهو حزب استعاد فاعليته السياسية بعد مؤتمره الأخير ويستمد قوته من تجربة الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا وتعدد الكفاءات الاقتصادية والأكاديمية في صفوفه.

التيار الإسلامي: وهو تيار عرف منعطفات عديدة نتاج واقعه الذاتي في ليبيا ونتاج العواصف الإقليمية، ورغم أن “الاخوان”، هم الأكثر تنظيماً وخبرة في ليبيا ولهم قدرة تكتيكية على التعامل مع المستجدات، ورغم تعرضهم لهزات خلال السنوات الماضية فإن قوة حضورهم في حالة تأرجح مستمرة بين التنامي  والتراجع،

ورغم ذلك فان لهم منافسة شعبيا وسياسيا وتنظيميا من عديد المكونات الإسلامية الأخرى على غرار بقايا حركة التجمع الإسلامي اضافة الى مكونات الحركة الإسلامية للتغيير (والتي ورثت عمليا الجماعة المقاتلة)، رغم ان حزب الوطن (بقيادة عبدالحكيم بلحاج) هو من اكتسب الحضور السياسي والإعلامي، فانه مع حزب “العدالة والبناء” سيعرفان شعبيا وسياسيا منافسة من طرف بعض القوى المحافظة التقليدية (أنصار دار الإفتاء والقادرين موضوعيا على حشد جموع فبرايرية هُمشت أو غاضبة من الاخوان)، إضافة للسلفيين (المختلفين من حيث مشاربهم وتياراتهم المتصارعة على الساحة الدينية ثقافيا واجتماعيا)، كما يوجد في الساحة تيار صوفي في شكل فسيفساء متنوعة ولكن بعضهم له القابلية في أن يكون آلية من آليات استهداف للتيار الإسلامي ككل وخاصة على الدى الاستراتيجي.

أنصار النظام السابق: يُمكن موضوعيا الجزم أن أنصار القذافي ليسوا وحدة متكاملة من حيث الرُؤى والتوجه  والولاء أو من خلال رُؤيتهم لمستقبل ليبيا وبعضهم يحلم بتوظيف مقولة أن جزء من الغرب قد يضطر للبحث عن قذافي ثاني، يطمح فريق ثان أن يلعب حفتر ذلك مرحليا رغم أن بعضهم يكرهه كُرها شديدا، كما أن لبعضهم  خطط بديلة في حالتي نجاح أو فشل التوصل إلى اتفاق سياسي بعد مؤتمر إيطاليا في نوفمبر القادم، وبعض أنصار القذافي يرون في قراءتهم للوضع الحالي أن تنفيذ وصية العقيد من حيث ترتيب الأمور لصالح سيف القذافي أمر ضروري ومسالة حياة او موت،

وفي هذه النقطة بالذات ينقسم أنصار القذافي إلى طرفين الأول يرى في “سيف” مُنقذا للبلاد والطرف الثاني يرى في ذلك تكتيكا أوليا في طريق عودة نظام القذافي باعتبار أن الغرب في تحليلهم طبعا ليس أي إشكال مع سيف بل هو ورقة غربية قديمة،

أما الطرف الثالث من أنصار القذافي فهو يرى في نجاح الحوار سبيلا أن تسترد بعض قبائل محسوبة عليهم حقها وانه لا يجب معاملتها بناء على قربها السابق من القذافي، وهؤلاء يرون أن المصالحة الحقيقة هي في بناء جديد يدفن آلام الماضي، و هم  اليوم  مشتتون بين “انتهازيين” و”متملقين” و”ايديولوجيين” و”واقعيين”، وقد تأكدوا جميعا أنه لا أمل في إفشال الخيار السياسي رغم هامش قوة مقتدر ولكنه نسبي على إرباك أي حكومة ليبية جديدة وخاصة في الجنوب،

ومن المهم التفريق بين “أنصار القذافي” وبين “أنصار النظام السابق” رغم التداخل والتشابك وخاصة في العلاقة بالقوى الإقليمية والدولية فشخصيات مثل “القعود” أو “بشير صالح” أو “الزوي” أو “شلقم” لها عمليا ارث علاقاتي كبير بينما ضباط الامن والمخابرات واطارات اللجان الثورية تتقاذفهم ميولات نحو هذه الجهة او تلك او هذا الزعيم أو ذاك او الايمان بالسياسي أو بالعسكري أو في القبول بمحطة وخيارات فبراير.

وبالتالي فالتوازن الولائي والارتباطي موجود دون سيطرة لهذا الاتجاه أو ذاك بين انصار النظام السابق

ثانيا: توازن القوى داخل وبين مكونات الأطراف الإقليمية

المحور المصريالاماراتي السعودي

رغم التماسك الظاهر داخل هذا المحور ورغم التحاق السعودية بالمحور في مرحلة ثانية من تشكله إلا أن هناك خلافات كبرى في إدارة الملف الليبي وهناك إرادة إماراتية في إدارة الملف وأن يكون شريكيها ذوي أدوار لوجستية ميدانية وتنفيذية مباشرة كما أن هناك خلاف في ماهية أدوار المصريين سياسيا وفي العلاقة المباشرة مع عقيلة صالح وطبيعة علاقته بحفتر وأيضا في طبيعة العلاقة مع بعض الشركاء الغربيين دولا وأيضا مع بعض صانعي القرار الغربيين وبعض الدول الافريقية الفاعلة في الملف الليبي على غرار الكونغو والسينغال وجنوب افريقيا، كما أن هناك خلافات مع مصر في أدوار شخصيات سياسية أخرى وأدوارها المستقبلية وفي ظهورها العلني مستقبلا.

النظام المصري والملف الليبي

لم ولن يكون النظام المصري بقيادة السيسي مُرتاحا للمضي قدما في الحل السياسي بعيدا عن مصالحه وطبيعته العسكرية رغم تطوَر مواقفه مقارنة بمواقفه المعلنة وغير المعلنة اثر امضاء اتفاق الصخيرات في أوت 2015  والنظام المصري سيبقى حبيس سؤال هل ستحتاج الحكومة القادمة لدعمه اللوجستي  وهل سيستأثر بعطايا برامجها وخاصة الاقتصادية منها، ورغم ان الوضع الداخلي المصري سيدفع المصريين  للقبول بإجراء انتخابات يكون فيها حليفهم حفتر شريكا وليس الآمر الناهي، فان المصريين لن يكونون مرتاحين للوضع الجديد بعيدا عن رؤيتهم القديمة، وسيبقى السيسي حبيسا لعقلية استئصال تيار الاخوان المسلمين حتى خارج مصر  ….

رؤية الاماراتيين

يعتبر الإماراتيون ثاني الأطراف التي لن تكون مرتاحة  بالذهاب بعيدا في الحل السياسي، وطبعا  يستند الإماراتيون بقوى محسوبة على القوى المضادة للثورات العربية وعلى رأسهم  محمد دحلان وشبكاته المتلحفة بغطاء جمعياتي في عدد من الدول العربية والآسيوية والافريقية،

ورغم أن الإماراتيين يبقوا دائما مرتبطين بالتوجه الخليجي، فانهم حلفاء موضوعيين للسياسات الفرنسية  كما أنهم مستقبلا لن يكونوا معارضين واضحين للسياسيات الأمريكية والاوروبية، بل هم فاعلين فيها بشكل من الأشكال وحالمين بالتأثير فيها من حيث صنع القرار عبر التأثير المالي والاستثماري حسب رؤيتهم،

وهم لن يكونوا مرتاحين لنجاح أي توافق  ليبيليبي ولن يرتاحوا أبدا لتشكيل حكومة يتواجد فيها إسلاميو ليبيا ولن تكون رؤيتهم للتعامل معها بعيدة عن رؤيتهم لحكومات تونس ما بعد الثورة، وستكون استراتيجيتهم قائمة على الدفع بأكثر من مرشح مُقرب منهم في الدور الأول للرئاسيات الليبية المنتظرة ….

ـ المحور التركي –القطري

أ الحقيقة أن الحديث عن محور قطري – تركي هو ربط موضوعي لتحالفهم السياسي والاقتصادي والذي بلغ درجة من التحالف الاستراتيجي حسب رأي المتابعين وخاصة بعد 2014، و هذا التحالف المُعلن ليس طرفا محايدا في ليبيا رغم أنه تحالف لا يترك البصمات السياسية في الموضع الليبي تحديدا على عكس بقية القضايا الإقليمية الأخرى وعلى عكس قُوى إقليمية أخرى في ليبيا،  

فالتحالف “التركيالقطري” يتحرك بهدوء وببطء ويسند سياسيا حكومة السراج منذ بداية 2016 رغم أن أنصار حكومة طبرق يعاملون بمثل معاملة بقية الاطراف في المدن التركية المختلفة بل أن عددهم في أنقرة و إسطنبول أكثر بكثير من غيرهم…

ب تراجع دور المحور القطريالتركي منذ بداية 2017 وخاصة منذ تراجع أدوار القطريين العربية، وخاصة بعد انكفائهم على أنفسهم في مواجهة حصار دول المقاطعة الأربعة، وهو أيضا ما حصل عمليا لتركيا نتاج تطورات الوضه الداخلي خاصة بعد ترتبات المحاولة الانقلابية الفاشلة واثر التطورات السياسية التركية اثر التصويت على إقرار النظام الرئاسي ثم الدعوة لانتخابات مبكرة ثم تراجع الليرة التركية منذ أسابيع وحاليا الاهتمام الكلي بالاستحقاقات الانتخابية المبرمجة لــ24 جوان الحالي….

ت من المهم التأكيد أن السياستين التركية والقطرية ستُساند بقوة مخرجات مؤتمر باليرمو على الأقل سياسيا واعلاميا ربما بسبب الضعف السياسي لحلفائهما الليبيين، ومعلوم أنهما تدعمان تيار فبراير …

موقع ووضع ورؤية أطراف إقليمية أخرى

أ من الخطأ الاعتقاد أن الإيرانيين والاردنيين والسودانيين هم أمثلة للذكر لا الحصر، ليسوا طرفا في الملف الليبي وهم أطراف إقليمية معنية موضوعيا بحاضر ومستقبل ليبيا وتتناقض مواقفهم بشأن دعم الحوار الحالي أو العمل على اعاقته لسبب من الأسباب…

ب الجزائريون وإن كانوا طرفا مهما وفاعلا لا يمكن تغييبه بأي صورة من الصور، باعتبارهم الجار التقليدي لليبيا فانهم يرغبون في استقرارها وعدم السماح للغير بمس العملية السياسية فيها لأسباب عدة منها ما هو تقليدي ومبدئي في تقاليد الدبلوماسية الجزائرية وفيها ما هو مرحلي في قراءة مطامح القوى الدولية في القارة السمراء وبعضها ناتج من حضور أطراف إقليمية في ليبيا وما يعنيه ذلك استراتيجيا ….

ثالثا: توازن القوى بين الأطراف الإقليمية دولا ومحاور

أ بعيدا عن الديبلوماسيات والبروتوكولات بين الدول، فان الجزائريين لم ولن يسمحوا في رأينا بأي خطوة عسكرية لأي قوى دولية أو إقليمية ولن يسمحوا باي خطوة مصرية تتجاوز مدن الشرق الليبي سياسيا أو أما عسكريا فانهم مثلما كانوا واضحين بداية 2016 في رفض أي تدخلي فانهم لن يقبلوا أي مغامرة عسكرية في أي شبر من التراب الليبي بل وسيعتبرون ذلك استهداف لهم بشكل مباشر

كما أنهم سياسيا لن يسمحوا بتغييبهم عن جزئيات الملف واداراته خارج الأطر التقليدية أي دول الجوار او الاتحاد الافريقي او الجامعة العربية أو البعثة الأممية أو اطار دولي يشارك فيه الجميع، وذلك معناه في المستقبل التقليص من أدوار المحورين الاماراتي المصري المسنود سعوديا والقطري التركي

ب بعض الدول العربية الخليجية أو المشرقية ما هي الا أذرع لسياسات دولية ولا تتجاوز أدوارها التنزيل أو تهيئة الأرضية لتلك السياسات

ت بعد حادثة اغتيال المعلنة في الصحافة الإسرائيلية للاثنين من الحرس الثوري الإيراني، ستتمسك الدول المغاربية بالأساس بانتقاد أي حضور اسرائيلي على الأراضي الليبية باي شكل من الاشكال وأن ذلك خط أحمر لا يمكن السماح به وأيضا بـانتقاد الأدوار الإيرانية في المنطقة المغاربية عموما.

ث من المنتظر أن يدفع عددا من السياسيين الليبيين الثمن غال سياسيا وخاصة المقربين من المحورين الإقليميين المذكورين أعلاه، كما ستحدث انقسامات كبرى بين عدد من الوكلاء لنفس المحور وسنعرف في الأشهر القادمة لنشر غسيل التعامل القذر هذا المحور أو ذاك وخاصة عمليات التمويل والمساعدات اللوجستية المسداة للوكلاء بين سنتي 2014 و2017.

***

علي عبداللطيف اللافي ـ كاتب ومحلل سياسي تونس مختص في الشؤون الافريقية

_______________

المصدر: صحيفة الرأي العام

مواد ذات علاقة