اعداد : د. محمد عبدالحفيظ الشيخ

انضمت ليبيا في شباط/ فبراير2011 إلى ميدان “الربيع العربي”، لتطوي صفحة من عقود الديكتاتورية، وذلك عندما كسرت جموع الثوار حلقة الخوف، وأشعلت ثورة امتد أوارها في كل ربوع المواجهة مع نظام القذافي الاستبدادي.

الجزء الأول

نادت آمال المحتجين واسعة النطاق إلى إقامة ديمقراطية تضع في اعتبارها الإنسان وحريته أولاً، بيد أن آذان النظام لم تستجب كما هي حال الديكتاتوريات الصماء.

بدت هذه الاحتجاجات سلمية، ولكن عناد القذافي ووحشيته قادت إلى انتفاضة مسلحة بين الثوار والنظام الذي ساند القذافي في معركته العبثية، ومن ثم الدخول في حرب واسعة النطاق، لم تجتح البلاد فحسب، وإنما أدت إلى تدّخل قوات حلف شمال الأطلسي بعد ما أصدر مجلس الأمن  قراره الشهير الرقم 1973، استند فيه إلى مبدأ “مسؤولية الحماية”، الذي بموجبه فرضت منطقة حظر للطيران فوق الأجواء الليبية، مما فتح المجال أمام طائرات حلف الأطلسي في القضاء على مقدرات النظام العسكرية ووسائل مقاومته. قادت في نهاية المطاف إلى قتل القذافي نفسه وتحرير البلاد من نظامه بشكل نهائي في أواخر 2011 .

معلوم بأن التدخل الخارجي جاء وفقاً لحاجة ماسة إنسانية نتيجة لهمجية الفعل المُعادي للثوار، والذي خلف مأساة وانتهاكات جسيمة وممنهجة لحقوق الإنسان، أقضت مضجع المؤسسة الأممية، ولامست اهتمامها، ودفعت في ذات الوقت أطرافها للعمل السريع لوقف تلك الفظاعات بحق أبناء الشعب الليبي .

وبقدر ما ساعد التدخل الخارجي على التخلص من نظام القذافي، فلقد فتح الباب على مصراعيه لإثارة نزاعات وصراعات قديمة من جديد، وذلك من خلال تأجيج الصراع بين مكونات المجتمع الليبي لتؤدي إلى تصاعد أعمال العنف وتفاقم الأزمة السياسية في ليبيا، الأمر الذي رسّخ الانقسام، وأوجد واقعاً جديداً على الأرض.

لقد تبيّن حتى الآن، أن ليبيا تواجه تحديات كثيرة تتصل بتاريخها ومكوناتها الاقتصادية والاجتماعية، بينما ترتبط تحديات أخرى بما ترتب على حكم القذافي، والظروف والأوضاع التي نجمت عن الإطاحة به، وما ولدّته من استقطاب حاد وشرخ اجتماعي واضح. الأمر الذي رسّخ الانقسام، وأوجد واقعاً جديداً على الأرض.

إذ لا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية، وهناك تركة كبيرة من الأحقاد والمظالم التي تنخر في المجتمع الليبي وفي وحدة صفه وثوابته الوطنية، وتجاوز مثل هذه التحديات يتطلب مواجهة الماضي وتيسير المصالحة بالاستناد إلى مبادئ العدالة الانتقالية كمتغير مهم في مسار تحقيق المصالحة الوطنية.

لكن عند الحديث عن فرص نجاح المصالحة الوطنية في ليبيا يقتضي الأمر أن نبحث في الأسباب التي أدت إلى الانقسام الليبي الراهن وتشخيص الواقع الذي اقتضى الحديث عنه.

يبدو أن هنالك قصور في تشخيص المشكلة يحول دون وضع الحلول الناجعة، فعدم معالجة جذور الانقسام أفضى إلى إخفاق المحاولات المتعددة لرأب الصدع وتعثر جهود المصالحة .

وهذا الأمر يتطلب الوقوف على الفرص التي تتوافر عليها عملية المصالحة وإمكانية تعظيمها، كما يتطلب أيضاً الوقوف على المعوقات التي تحول دون نجاحها وأولويات التعامل معها .

   فشلت معظم محاولات رأب الصدع وإنهاء الانقسام الليبي، كما تعثر تطبيق جُل الاتفاقيات الموقعة بين طرفي الانقسام، (مجلس النواب طبرق، والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق طرابلس)، ابتداءً من اتفاق “غدامس1″، ثم اتفاق الصخيرات المغربية عام 2015، وانتهاءً بتونس عام 2017.

ومازالت روزنامة المصالحة مفتوحة ومستمرة وتنتقل من دولة إلى أخرى. ويبقى الجدل مستمراً حول أنجع الطرق لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة بين الأطراف الليبية المتخاصمة .

لقد أسفرت انتخابات صيف 2012، وعدم قبول بعض الأطراف الأخرى التسليم بنتائجها، في توافر أسباباً بنيوية عميقة للتنافر والتشرذم، ومن ثم لمزيد من الانقسام بين الليبيين.

هذا الانقسام بدأ سياسياً وأيديولوجياً، سرعان ما تحول إلى انقسام مادي جغرافي، ويلاحظ أن الخلافات والانقسامات في صفوف القوى والأحزاب السياسية الليبية لم تكن بين معسكر الإسلاميين بأطيافهم المختلفة من ناحية، ومعسكر القوى والأحزاب الموصوفة بالليبرالية من ناحية أخرى، بل كانت هناك أيضاً خلافات وانقسامات داخل كل معسكر.

وقد ترتب على كل ذلك وجود هوة سياسية عميقة مازالت تشكل مصدراً للتنافر الحاد نشأت عنه ثنائيات ذات دلالة على تشظي وتبعثر حال الليبيين، وهو ما جسده تسيير البلاد بجهازين تشريعيين وتنفيذيين متنافسين، برلمان وحكومة مستقلة في الشرق الليبي يرأسها عبدالله الثني وتدعمها قوات المشير خليفة حفتر، يقابلها حكومة الوفاق الوطني في طرابلس الغرب يقودها رئيس المجلس الرئاسي المنبثق عن اتفاق الصخيرات فائز السراج، وتدعمها تشكيلات عسكرية مختلفة.

وتداخلت في نطاقهما ليس السياسة والأيديولوجية فقط، وإنما أيضاً المصالح والأجندات السياسية والأمنية والاقتصادية المحلية والخارجية في إطار التجاذب الكبير.

وهكذا بدلاً من أن يمثل الاتفاق السياسي بداية مرحلة جديدة من التوافق الوطني أصبح يمثل بذاته نقطة خلاف أضافت المزيد من الانقسام والتعقيد على المشهد الليبي.

فقد بات واضحاً أن النخب السياسية الليبية تسيطر عليها نظرية الهروب من الأزمة باختلاق أزمة أخرى، واستغلال الأزمات المجتمعية والسياسية لتحقيق مصالحها الخاصة وبالتالي تعميق أزمة النظام السياسي الليبي .

كما تسببت المتغيرات السياسية ـــ الأمنية في توسيع الشرخ الاجتماعي بين مكونات المجتمع الليبي، بمعنى أوضح أن الانقسام السياسي تسبب بتداعيات اجتماعية عدة لم يستطع المجتمع الليبي التخلص منها حتى اللحظة، في ظل غياب تفعيل بنود المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، برغم كل ما يحدث من لقاءات للمصالحة تبناها الحكماء وشيوخ القبائل والوطنيون من الليبيين .

***

د. محمد عبدالحفيظ الشيخ – رئيس قسم العلوم السياسية، كلية إدارة الأعمال ـ جامعة الجفرة ـ ليبيا

______________

مواد ذات علاقة