بقلم جيانكارلو فالوري

منذ اندلاع المعارك في ليبيا لإسقاط نظام معمر القذافي، أجرت أجهزة الاستخبارات الفرنسية بشكل خاص عمليات عسكرية انطلاقا من مالطا، كان الهدف منها إرسال الأسلحة والمدربين وتوفير الخدمات الاستخباراتية لقوات “المتمردين” المتمركزة في إقليم برقة.

وحين وصل الجيش الفرنسي صحبة فرع العمليات التابع لجهاز المخابرات إلى سواحل بنغازي على متن غواصتين نوويتين، بات جليا أن العلاقات تبلورت في الخارج، وتحديدا خارج روما، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد شاهدت الأفلام الوثائقية التي تتمحور حول القوات المناهضة لحكم القذافي. لقد كانت هذه القوات مدرّبة على استخدام الأسلحة والمعدات التي كانت تعتمدها أفضل الفرق القتالية التابعة لأجهزة الاستخبارات الغربية. كان من الصعب تصديق القدرات الهائلة التي أظهرها “المتمردون” الليبيون في استخدام مثل هذه الأسلحة الدقيقة جدا.

لقد أجرى العملاء الفرنسيون رحلات “سرية” لمراقبة عمليات وصول الأسلحة وطرق توزيعها، تجنبا لوقوع هذه المعدات العسكرية في أيدي الأشخاص غير المعنيين. ومنذ انطلاق الهجمات الأولى في العاصمة الليبية طرابلس، زود العملاء الفرنسيون “المتمردين” بأسلحة تبلغ قيمتها 9.1 مليار دولار أمريكي، كما استمرت عمليات تزويد أبطالهم المحليين بالعتاد في وقت لاحق مقابل مبالغ مالية كبيرة. وكانت مالطة قاعدة مركزية  لكل هذه العمليات.

كان اللواء عبد الفتاح يونس العبيدي الوسيط المفضل في هذه العمليات مع الوكلاء الفرنسيين. وتجدر الإشارة إلى أن العبيدي كان رئيس أركان جيش التحرير الوطني الليبي خلال ثورة 17 شباط/ فبراير، وهي قوة عسكرية أُنشئت في برقة وتتكون من حوالي 13 ألف جندي انشقوا عن جيش القذافي. لكن قُتل يونس العبيدي في 28 تموز/ يوليو سنة 2011 بعد تعرضه لإطلاق نار قربمدينة بنغازي.

رجحت المعلومات التي وردت آنذاك أن العبيدي قد تعرض للقتل على أيدي الجهاديين، الذين تمكنوا من اختراق جيوش “المتمردين” الموالية للقوات الغربية، وهو مصطلح ظهر سنة 1968 ليكشف النقاب عن الثقافة العملية والاستخباراتية للسياسيين في الدول الغربية.

خلافا للمتوقع، كشفت بيانات ويكيليكس أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت على علم أيضا بأن يونس كان على اتصال بشكل سري مع نجل العقيد، سيف الإسلام القذافي. وتشير هذه البيانات إلى احتمال أن تكون الأموال التي استخدمت لشراء الأسلحة الفرنسية التي بيعت إلى مالطا، بقيمة تسعة مليارات دولار أمريكي، متأتية من حسابات القذافي المجمدة في البنوك البلجيكية، وهي حسابات بنكية لم يتم التحقيق فيها بشكل كامل إلى الآن.

بعد الإطاحة بنظام القذافي، خشيت فرنسا تنفيذ “الثوار” الليبيين لسلسلة من الأعمال الإرهابية التي تستهدفها بشكل مباشر. ولكن السؤال المطروح، لماذا شجعت الحكومة الفرنسية التمرد ضد القذافي؟ لن نعرف الإجابة عن هذا السؤال أبداً. وكما قال الكاتب إنيو فلايانو إن “الغباء له أسراره الخاصة التي لا يمكن سبر أغوارها أبدا”.

بدأت كل هذه العمليات من مالطا، التي لطالما مثلت قاعدة دعم ومنطقة تحكم استخباراتية واقتصادية بعيدة عن أرض المعركة. ومنذ بداية تكوينها، منحت حكومة الوفاق الوطني فرنسا 35 بالمائة من النفط الليبي بشكل سري تعبيرا عن امتنانها على الدعم الذي قدمته لها خلال معركة “التحرير”. وإلى جانب كميات النفط التي تستغلها شركة “توتال” الفرنسية، التي تبلغ 15 بالمائة، فإن الكميات الممنوحة لفرنسا مرتبطة بشكل وثيق بخدمات المخابرات التي تقدمها، تماما مثل ارتباط شركة “إني” بالمخابرات الإيطالية.

تدعم فرنسا المجلس الوطني الانتقالي الليبي (وكذلك المشير خليفة حفتر في برقة) بشكل رسمي. وفي الحقيقة، إنها تعتقد أن القضية المتعلقة بالمهاجرين، التي كان لها تداعيات اقتصادية على مالطا، ستكون قضية محورية بالنسبة لمستقبل الاقتصاد في ليبيا. وتعتقد فرنسا أنه يجب حل هذه القضية على عين المكان، وبالتحديد في ليبيا.

يمكن تقسيم اللاجئين الذين كانوا موجودين على الأراضي الليبية، والذين من المرجح أنهم تمكنوا من الفرار من المناطق التي تسيطر عليها القوات المسلحة الفرنسية نحو أغاديس وتشاد والنيجر ومالي، كما هي الحال في الوقت الراهن. ومنذ سنة 2011، تمكن 696 ألف مهاجر من الفرار إلى البلدان المجاورة، مثل تونس ومصر والنيجر وتشاد والجزائر والسودان، في حين عبر 30 ألفا إلى إيطاليا أو مالطا عن طريق البحر.

تكمن الفكرة الاستراتيجية الفرنسية في أن يتم حل قضية الهجرة بغض النظر عن الضرر الذي يمكن أن تسببه لإيطاليا، مع العلم أنه نجح العديد من المهاجرين الآخرين من بلوغ السواحل الإيطالية بطرق أخرى مختلفة، غالبا ما تكون معروفة للكثير من حلفائها التقليديين في أوروبا.

نفذت المملكة المتحدة، وهي طرف فاعل إلى جانب فرنسا في الصراع لإسقاط حكم القذافي، مجموعة من الأعمال العسكرية بين منطقتي زلة وجنوب ليبياانطلاقا من مالطا وبوجود سلسلة من القواعد الأمامية على طول الساحللجمع وطرد الوافدين لا سيما العاملين في قطاع النفط الذين لا يحملون الجنسية البريطانية. ومثلت هذه العمليات جوهر نشاط بعض فرق القتالية خلال “الثورة” المناهضة لحكم القذافي. في الأثناء، يصادف أن الجسر الجوي كان متمركزا في مالطا بصفة دائمة، وهو مستخدم من قبل 150 مشغلا أجنبيا في الصحراء الليبية.

يستمر تهريب النفط الليبي من سواحل إقليم طرابلس وسرت نحو العديد من الموانئ الصغرى في مالطا. وقد ساهمت عمليات التهريب، التي كانت تتم تحت غطاء المافيا الصقلية وبعض السياسيين المالطيين وأعضاء البرلمان، في توفير أرباح سنوية تتجاوز 82 مليون يورو. كانت هذه القضية الرئيسية محور اهتمام نشاط الصحافية الاستقصائية، دافني كاروانا غاليزيا، قبل أن تتعرض للاغتيال في هجوم بسيارة مفخخة. وتعتبر طريقة تصفية هذه الصحافية معروفة جيداً عن المافيا الصقلية.

كان من المفترض أن يأتي النفط من ميناء زوارة بدعم من ميليشيا ليبية تابعة لفهمي بن خليفة، ولكنه كان مخبأ في سفن صيد الأسماك، وكان يرسل في وقت لاحق إلى ساحل مالطا من خلال نقله من سفينة إلى أخرى إلى أن يصل إلى الموانئ التي تسيطر عليها نفس الشركة المالطية، ومن ثم يتم توزيعه في جميع أنحاء أوروبا بطريقة تقليدية. وقد لاحظ الصيادون المالطيون، القاطنون في مارساكسلوك، أن السلطات البحرية المالطية لا تعمل أبدا على إيقاف عمليات نقل النفط بين السفن. كما تشير الشهادات المزيفة، التي يحتفظ بها تجار النفط، إلى أن النفط قادم من المملكة العربية السعودية.

تمتلك وكالات تطبيق القانون الإيطالية عدة أسباب للاعتقاد بأن شهادات التجار المزيفة قد تم إعدادها من قبل كاتب العدل المالطي وتوقيعها من قبل مدير وزارة الشؤون الخارجية المالطية. ويصب كل هذا الأمر في صالح أسر المافيا والعشائر المعروفة من كاتانيا.

وأفاد خبراء تأمين محليين بأن تهريب النفط يكلف ليبيا ما لا يقل عن 750 مليون دولار سنويا. كما يشمل هذا العبث التجاري قرابة 40 بالمائة من النفط الليبي المستخرج سنويا. ويمثل المؤتمر القادم حول ليبيا إحدى القضايا التي يجب تحليلها بتعمق. وقد توصل المحققون الإيطاليون وغير الإيطاليين إلى أن المهربين المالطيين، بالاشتراك مع العديد من زعماء العصابات الليبيين، يسعون دائما إلى استحداث طرق مرورية جديدة لتجارتهم غير القانونية.

ففي البداية وإلى حدود سنة 2011، تم تهريب المخدرات من الساحل المغربي في سفن صغيرة تجاه السواحل الجنوبية أو الشرقية الجنوبية لإسبانيا. وبعد الثورة الليبية التي أطاحت بمعمر القذافي، خُزنت المخدرات في طبرق ووقع حمايتها من قبل رجال الميليشيات المحلية، قبل أن تقوم المافيا الصقلية بتوزيعها في إيطاليا وباقي أرجاء القارة الأوروبية.

وفي الوقت الحالي، تُنقل كميات صغيرة من المخدرات من ليبيا إلى السواحل الأوروبية عن طريق سفن الصيد الإيطالية أو المالطية، وتترك عائدات مبيعات المخدرات في البنوك المالطية. ويعتمد هؤلاء التجار دائما على الآلية نفسها، ألا وهي نقل المخدرات بحرا من السفن الصغيرة إلى نظيرتها الكبيرة. وينطبق المبدأ ذاته على التجارة غير المشروعة  للسجائر، التي على الرغم من أنها كانت أحد أعمال المافيا قديما إلا أنها كثيرا ما مثلت مصدرًا لأرباح ممتازة. ولكن لا يزال الميناء الثالث الذي يستخدمه المهربون هو ميناء بار في الجبل الأسود.

سمح معمر القذافي سابقا لبعض أصدقائه المقربين بالقيام بعمليات تهريب، وشملت هذه العمليات حينها بعض السلع القانونية. وقد شهدت سنة 2011 تحولا شاملا في عمليات التهريب، حيث تعدت التركيز على السلع غير المتوفرة في الأسواق الليبية لتشمل بعض السلع غير القانونية، على غرار المخدرات والأسلحة، بالإضافة إلى التجارة بالمهاجرين. ولا يزال الاقتصاد الليبي في الوقت الراهن اقتصاد حرب، إذ تطغى عليه الأعمال العنيفة على جميع الأنشطة الاقتصادية الأخرى.

في الواقع، لا يزال تهريب البشر عنصرا أساسيا في الاقتصاد الليبي الداخليوقد حصلت الفصائل الليبية سنة 2017 على ما يقرب من مليار دولار أمريكي من عمليات تهريب المهاجرين، كما كسبت 985.000 دولار من نشاطاتها في المجال ذاته في السنة الحالية، وذلك من خلال استخدام طرق وأساليب أخرى.

وفي هذا السياق، أفادت السلطات الليبية بأن 30 بالمائة من النفط المستخدم في نقل المهاجرين يتم تداوله بصفة غير قانونية، من خلال ما يصل إلى 105 موزع. كما تتم تجارة النفط بصفة غير مشروعة من طريق دارفور إلى جنوب الصحراء الكبرى من قبل موزعين كبار، لاستهلاكات أخرى. وكثيرا ما يتم سرقة البنزين من السفن التي تنقله بحرا، ثم بيعه من قبل أشخاص على اتصال مع العصابات الليبية، إلى موزعين إيطاليين وأوروبيين. وتقع 18 بالمائة من عائدات النفط الليبي في أيدي المهربين كل سنة.

أصبحت ليبيا بعد سنة 2011 نقطة عبور وسوقا استهلاكية للمخدرات، على غرار الهيروين والكوكايين. كما تشير العديد من الأدلة إلى توسع السوق الداخلية للميثامفيتامين، الذي يتم بيعه أيضا في إيطاليا والموانئ الإسبانية. وقد اتهم مسؤولون في مصرف ليبيا المركزي في برلمان طبرق ما يقرب من 44 شركة ليبية و24 شركة أجنبية بالتورط في تهريب العملات من مناطق تحصيل الأموال في ليبيا إلى البنوك المالطية، فضلا عن البنوك القبرصية والبنوك الإسبانية في بعض الأحيان.

توضح لنا كل هذه المعطيات الرابط القائم بين الممارسات الاقتصادية غير القانونية لبعض دول الاتحاد الأوروبي واقتصاد الحرب الليبي، الذي ولد فصائل تقاتل بعضها بعضا في مناطق من البلاد، بينما تغيب السلطة للتحرك تجاه هذه الممارسات لأنها في الواقع مقسمة إلى جزئين.

***

جيانكارلو إليا فالوري ـ خبير إقتصادي بارز ورجل أعمال إيطالي

_____________

مواد ذات علاقة