بقلم د. محمد عبدالحفيظ الشيخ

تبحث هذه الدراسة في مدى إمكانية معالجة أزمة النزوح والتهجير في ليبيا بالاعتماد على عملية المصالحة الوطنية، باعتبارها مقاربة لمعالجة التركة التي خلفها النظام السابق.

الجزء الخامس

رابعا: التحديات التي تواجه النازحين داخليا في ليبيا

تفرض هذه الموجة غير المسبوقة والمعقدة من النوزح والتهجير في ليبيا، تحديات جسيمة ليس على النازحين داخليا فقط، وإنما على البلاد بأكملها والعمل الإنساني، وسوف نجمل أبرزها دون الجزم بحصرها في الآتي:

1ـ تحديات سياسية وأمنية

منذ بداية أزمة النزوح في ليبيا عام 2011 أصبحت حالة الطوارئ الإنسانية في ليبيا أكثر شدة. فقد كان لأسباب موجات النزوح هذه آثار سلبية على البلد، إضافة إلى مآسي ومعاناة الأفراد الناتجة عن النزوح، وتتفاقم هذه المشكلة مع عجز المجتمعات المستقبلية للنازحين عن توفير الدعم والحماية للفئات المستضعفة منهم، كما تؤدى الصراعات إلى خلق موجات لا تنتهي من النزوح واللجوء.

تواجه الأسر النازحة تحديات كبير لا سيما التي فقدت مستنداتها الثبوتية القانونية بسبب النزاع، الأمر الذي حدّ من قدرتها على الحصول على الخدمات الأساسية من الحكومة والسلطات المحلية، كما أن كثيرا من النازحين لا يتحركون بحرية تامة بعيدا عن المجتمعات التي يعيشون فيها، نظرا للمخاوف والهواجس الأمنية المحيطة بالنازحين، وقد أثر هذا على توفر الأمان والأمن والخدمات الاجتماعية لهم.

لكن التحدي الأبرز الذي يواجه النازحين يكمن في ما يتعلق بالحماية، حيث تأثر الكثير منهم بالعنف والجريمة في نفس الوقت الذي يزيد فيه نزوحهم تعرضهم للهجمات المباشرة وسوء المعاملة، تتمثل في الإعتداء الجسدي والإبتزاز والاختطاف والاعتقال التعسفي وغير القانوني في ظل محدودية نفوذ السلطات والقانون.

من جانب آخر، لا تخلو مشكلة النازحين من محاذير أمنية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الجهات الأمنية في مناطق النزوح تواجه تحديات أمنية، وذلك لإحتمالية استغلال الجماعات الإرهابية موجة النزوح والتخفي بين النازحين لاختراق هذه المناطق.

فقد تم رصد حالات عديدة لتسلل كثير من العناصر الإرهابية داعشداخل المخيمات من أجل القيام بعمليات تخريبية وإثارة الفوضى والشغب داخل المخيمات، وتقديم المعلومات للتنظيم، فضلا عن محاولات التسلل هربا إلى مناطق ومدن أخرى.

وقد تم اعتقال عشرات المنغمسين من النازحين ممن بايعوا أو ناصروا أو انتموا إلى تنظيم داعشفي سرت كانوا يرغبون في القيام بعمليات إرهابية داخل المناطق التي سيذهبون إليها في طرابلس وبنغازي وباقي المدن الليبية الأخرى، وهو ما دفع الجهات الأمنية الى تشديد الإجراءات واتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة هذا الخطر، وبالتالي زيادة الضغط على النازحين.

2ـ التحديات الاقتصادية

لا يمكن إغفال الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد الليبي نتيجة الانقسام السياسي وعدم توفير الميزانيات الكافية لتوفير المساعدة من قبل الجهات والمنظمات الحكومية داخل ليبيا، فضلا عن عدم توفر السيولة الكافية للنازحين مما زاد من حدة أزمتهم بشكل لم يستطيعوا معه توفير احتياجاتهم الرئيسية مثل دفع تكاليف العلاج والإيجار.

ويعزي ذلك إلى أيقاف مرتبات بعض النازحين نتيجة لعدم عودتهم إلى أعمالهم في مناطقهم الأصلية بسبب خلافاتهم مع الأطراف المسيطرة على الأوضاع السياسية والأمنية في تلك المناطق.

تزامن هذا الواقع مع جملة من المتغيرات البنيوية والجوهرية في بنية المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، انعكس على واقع النازحين من النساء والشباب من استفحال للبطالة وانتشار الفقر والحرمان من القدرات وعدم تكافؤ الفرص لهم، ولشريحة واسعة من المجتمع الليبي.

وأصبح الهم الأساس للنازحين هو كيفية تأمين مستقبلهم من طريق العودة إلى ديارهم ووظيفة لإشباع عوزهم اليومي. فالكثير من الأسر النازحة فقدت عائلها والبعض الآخر لم يتمكن عائلها من إيجاد عمل مع تدني الأنشطة التي يقومون بها.

3ـ التحديات الاجتماعية

إذا كانت التحديات السياسية والأمنيية والاقتصادية المترتبة على النزوح وخيمة، فإن تحدياتها الاجتماعية هي أشد وطأة وأكثر خطورة، فما جرى في ليبيا منذ اندلاع ثورة فبراير 2011، قد أسهم في تمزيق النسيج والتماسك الاجتماعي الليبي، بشكل خطير جعل مناطق ومدن تعيش حالة عداء مستمر مع مدن ومناطق أخرى.

إن للنزوح أثارا، وهي في معظمها سلبية، في النازحين أنفسهم، وفي المناطق ، الطاردة، وفي مجتمع مناطق الاستقبال. وتتمثل الآثار في النازحين في تدهور نوعية السكن وغياب المعايير الصحية، وتعطل الخدمات الأساسية، كالتعليم والصحة، إذ تبدأ معاناة النازحين من خلال الإقامة في المخيمات والمدارس أو العشوائيات.

ويسبب عدم وجود تناسب بين مساحة المكان والأسر النازحة فإن احتمال ظهور مشاكل صحية يكون كبيرا، كما أن الإزدحام يسهم بسهولة تفشي وانتقال الأمراض المعدية بين النازحين، وهو ما يتطلب استحداث وحدة عمليات خاصة بالنازحين في كل منطقة يتواجدون فيها، وتحويل المخصصات الصحية للمناطق المنزوح إليها، من لقاحات وأدوية خاصة المتصلة بالأمراض المزمنة مثل السكري وضغط الدم وغيرها.

خامسا: الجهود المبذولة لمعالجة آثار أزمة النزوح في ليبيا

تقع مسؤولية حماية النازحين داخليا بالدرجة الأولى على عاتق الحكومة، إلا أنها قد تفتقر إلى القدرة على ضمان استجابة فعالة لأزمة إنسانية معينة مثل الأوضاع التي يعيشها النازحون، وفي مثل هذه الظروف يقوم المجتمع الدولي بدعم السلطات الوطنية ويكمل جهودها بناءً على طلبها.

ثمة استجابة وطنية لمنع النزوح وحماية ومساعدة النازحين، فقد أبدت حكومة الوفاق الوطن الليبية رغبة واتزاما من أجل معالجة أوضاع النازحين داخليا، من خلال إنشائها لوزارة شؤون النازحين والمهجرين، وكذلك اللجنة العليا لعودة النازحين وغيرها من اللجان في مناطق مختلفة من البلاد، ويعدّ وجود مؤسسات فاعلة على المستويين المحلي والبلدي من أهم العوامل التي تسهم في إيجاد الحلول لأزمة النازحين، الأمر الذي يعدّ مؤشرا على الجهود الرامية لحلول دائمة لحالات النزوح المستدامة في ليبيا.

وبالرغم من أهمية الجهود المبذولة من حيث تقديم المساعدات الإنسانية من جانب بعض مؤسسات الحكومة الليبية والمنظمات الوطنية والدولية الحكومية وغير الحكومية والأطراف الفاعلة الأخرى لمواجهة تحديات احتياجات النازحين والتخفيف من معاناتهم، فإنها كانت عشوائية ولم تكن ضمن خطة موحدة فتضاربت المعلومات عن النازحين، ودخل المجال العديد من المنظمات الوطنية ولجان وقطاع خاص، وبتعدد الأطراف الفاعلة اختلفت الأهداف، فجاءت النتائج غير مرضية.

لكن يبقى دور الدولة لا غني عنه، كون الاتفاقات التي حصلت بين المناطق والقبائل غير كافية لتأمين هذا النوع من الضمانات، إذ سيكون هناك متشددون سيخالفون الاتفاقات، حتى لو وافق شيوخ القبائل على الاتفاقية لا يستطيع أحد أن يضمن أن الشباب سوف يلتزمون بها وأنهم لم يعتدوا على العائدين.

في الواقع، إن الحاجة إلى تدخل الدولة تتخطى إرساء سيادة القانون، إذ يشمل دور الدولة وضع حزمة من الشروط اللازمة لتسهيل عودة كريمة للنازحين، وسلامتهم في أمنهم ومستقر معيشتهم.

وحدها الدولة القوية يمكنها أن تستوفي هذه الشروط، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لو سمح أهالي مدينة مصراتة لنازحي تاورغاء بالعودة إلى ديارهم فهذا ليس على سوى حل جزئي، نظرا لأن معظم منازلهم مدمرة وتضررت البنية التحتية في تلك المدينة، وعدم توفر الكهرباء والمياة الصالحة للشرب وتعطل شبكات الصرف الصحي، والمستشفيات.

لذا يجب ألا يرتكز دور الدولة في قيادة المصالحة الوطنية على إرساء الأمن فقط، وإنما أيضا على إصلاح الضرر الذي خلفته الحرب والسماح للنازحين باستئناف حياتهم الطبيعية.

كل ذلك يستلزم إنشاء إطار قانوني (قانون عدالة انتقالية) من أجل التعامل بعدل مع جميع الأطراف، إن من شأن هذا القانون أن يكبح جماح المجتمعات المتضررة في أخذ القانون بيدها، بالإضافة إلى أن تطبيق القانون والذي يشمل جميع المتورطين بالفعل في الجرائم من شأنه أن يلغي الحاجة لتهديد مناطق ومجتمعات بأكملها بشكل عشوائي.

إن وضع حد لهذا العقاب الجماعي من شأنه السماح للعديد من الأبرياء في مخيمات النازحين واللاجئين بالعودة إلى ديارهم، الذي سيساهم في تحقيق مصالحة وطنية شاملة.

البقية في الجزء التالي

سنتناول في الجزء التالي المحور السادس السناريوهات المحتملة لأزمة النازحين في ليبيا

***

د. محمد عبدالحفيظ الشيخ رئيس قسم العلوم السياسية، جامعة الجفرة ـ ليبيا

***

نشر البحث في مجلة الدراسات الأفريقية وحوض النيل : العدد الرابع كانون الأول – ديسمبر “2018” وهي دورية علمية محكمة تصدر عن المركز الديمقراطي العربي “ألمانيا –برلين” . وتُعنى المجلة بالدراسات والبحوث والأوراق البحثية عمومًا في مجالات العلوم السياسية والعلاقات الدولية وكافة القضايا المتعلقة بالقارة الأفريقية ودول حوض النيل.

____________

مواد ذات علاقة