بقلم أسامة عكنان

لم يكن المشهد الثقافي الليبي في فترة حكم القذافي في أحسن أحواله لأسباب كثيرة، إذ لم يَعِشْ أفضل أيّامه منذ سقوطه وحتى الآن كما قد يحلو للكثيرين أن يتصوروا أو يعتقدوا.

الجزء الثاني

    ***

ـ تحليل المشهد المسرحي مسرحية أحوال حايلة”

في هذا السياق الثقافي المسرحي المرتبك والمتشابك جاءت مسرحية أحوال حايلةالتي وُصفت بأنهانموذج مسرحي ليبي راهن للكوميديا السوداء، مثلها مثل مسرحية ليلة بلا قمر“.

فقد تناول كاتب النص واقع هذه الأعوام العجاف التي شهدتها ليبيا منذ فبراير 2011. إذ عني الكاتب عناية خاصة بتصوير السلبيات التي رافقت انتفاضة فبراير شباط، ووقف عند المعوقات التي تحول دون تطور البلاد واستقرارها بسبب التشابكات والتعقيدات الإقليمية والدولية التي انزلقت إليها هذه الانتفاضة.

وبالمناسبة فإن كاتب هذا النص المسرحي لم يُلقِ اللوم فيما يحدث في ليبيا على السياسيين إن كان حقاً في ليبيا سياسيون كما يتساءل وإنما ألقى اللوم على الشعب الذي عبرت بعض فئاته عن مخزون من الدموية والأنانية والجشع وغياب الوعي على نحو لا يوصف.

ولذلك تنهض المسرحية على كشف أربعة نماذج تمثل أربعة كيانات أفرزتها المرحلة. ومع ذلك لم يكن الكاتب قد عرف سبيلا إلى عرضها، لأن كل زملائه من المخرجين الذين تحمسوا للنص ما لبث حماسهم أن خمد وهم يصفون النص بأنه خطير، وهو ما يعكس إحساس الليبيين بانعدام حرية التعبير.

وهكذا يصبح الخوف من المجهول سلطة رقابية من نوع آخر.

وهذا الحديث عن الرقابة الذاتية يقود إلى رحلة المسرح الليبي وصراعه مع الرقابة والحجب وهمومهما.

فالمسرح الليبي هو أكثر الأجناس الأدبية والفنية عرضة للمصادرة والحجب.

إنه مسكون بالخوف من السلطة، ومسكون في الوقت ذاته بروح مشاكسة السلطة.

إن صراعه مع السلطة الرقابية له فعلاً تاريخ طويل ومرير، وقد حاول المسرحيون الهروب من عين الرقابة بواسطة التحايل واللف والدوران والتغريب، وتجاوز الزمان والمكان.

فأحيانا كان الهروب يتم بواسطة اللجوء إلى التاريخ واستلهام التراث، كما حدث أثناء الاحتلال الإيطالي، وأحيانا باللجوء إلى الغمز واللمز كما هو الحال في العهد الملكي، ومثال ذلك مسرحيات: “العسل المر، وشيخ المنافقين، ولو تزرق الشمس، حوت يأكل حوت.. وغيرها“. وأحياناً بأسلوب شد العصا من الوسطبحيث لا تعرف السلطة الرقابية ما إذا كانت المسرحيات تسير وفق أحكامها أم أنها على الضد، وهذا حدث خلال مرحلة سلطة العسكرية الاستبدادية.

ثانيا: النموذج السينمائي

ـ فيلم حافة الوادي“.. والحديث عن داعش

من أهم نماذج هذا المشهد الثقافي المرتبك وجدنا نموذجا سينمائيا فيه قدر كبير من التحدي للحالة الراهنة في ليبيا تستحق الوقوف عندها.

فقد جسَّد فنانون ليبيون شباب، فيلما سينمائيا روائيا قصيرا يحمل اسم حافة الوادي، يروي قصة أخوين أحدهما ينتمي لتنظيم داعش والآخر ضابط بقوات الجيش الليبي.

وقال كاتب ومخرج الفيلم محمد عيسى، أنه ورفاقهاستوحوا اسم حافة الواديمن الطبيعة التي يعيشون فيها، فالأودية هي مكان تواجد تنظيم داعش شرق البلاد، وبالتالي كان مكان التصوير محاولة لتجسيد الواقع الحقيقي الذي عاشه الليبيون في ظل إرهاب داعش“.

وأشار إلى أن كلمة حافةترمز في الفيلم إما إلى السقوطوإما إلى الوقوفوإما إلى النجاة، موضحا أن تيمة/حبكةالفيلم تدور حول حكاية أخوين كان أحدهما مع تنظيم داعش، فيما كان الثاني مع الجيش، في آخر حوار بين الأخوين، وهو ما يوحي إما بالوقوف على حافة النجاة وإما على حافة السقوط“.

أحداث الفيلم، كما أشار عيسىمستوحاة من وقائع حقيقية، والقصة مُقَسَّمة إلى جزأين، جزء حقيقي وجزء تَخَيُّلي يجسِّد الواقع الليبي. يهدف الفيلم إلى تصحيح الأفكار الخاطئة في ثقافة الليبيين حول الدين والوطنية والانتماء.. إلخ.

أما الجانب الحقيقي فهو كما أشار المُخْرِج مجموعة من الأحداثٌ عاشها هو شخصيا عندما تطوع مع الجيش في اقتحام وادي مرقص، وهو الأمر الذي جعله يحرص على جعل اللقطات موافِقَة للحقيقة وخاصة في المعارك.

وأوضح عيسىأن ظروف تنفيذ الفيلم كانت صعبة، فقد استمر التصوير قرابة العشرة أشهر، منها فترات تصوير في فصل الشتاء. ولأن معظم أماكن التصوير كانت خارجية فقد عانى الطاقم من مشكلة حقيقية في التنقل بسبب الظروف الأمنية.

وأشار محمد عيسىإلى أن أكبر تحدٍّ واجهه، هو أن طاقم التصوير كان متنوع التخصصات ومعظمها من خارج التخصصات السينمائية في الأصل، فقد كان بينهم الصيدلي والبيطري والمهندس، وهو ما جعل المهمة تتَّسِم بالتحدي والمتعة أيضا.

وختم عيسىحديثه قائلاً:”أتمنى أن تكون هناك مجموعات من الشباب تقوم بأعمال مشابهة لمشروعنا، وتحمل رسائل هادفة بعيدة عن المكاسب المالية والأطماع الشخصية، فليبيا لا ينقصها شيء لأن تكون دولة حاضنة للفن.

فلو اتفقنا فسوف يكون لليبيا حضور قوي في جميع المجالات العلمية والفنية.

أما عربيا فإنني أتمنى أن نحصل على فرصة العرض بدور العروض السينمائية العربية“. أما بطل الفيلم علاء عبد اللهفقد قال عن دوره في الفيلم: “تتناول الشخصية التي أديتها دور الجيش في محاربة الإرهاب والقضاء عليه. كانت رسالتنا عموما هي الحديث عن الانقسام في مجتمعنا الليبي خاصة، والعربي عامة، وإظهار حجم الخلافات في العائلة الواحدة، فضلا عن دور المجتمع في القضاء على الإرهاب، قبل دور السلطة والأمن“.

وأضاف: “لقد واجهتنا العديد من الصعوبات خلال تنفيذ هذا العمل، منها قلة الدعم المادي، وعوامل المناخ، فالفيلم نُفِّذَ بمجهودات ذاتية حاولنا من خلالها وبقدر الإمكان إيصال الصورة كاملة وبشكل صحيح“.

أما من ناحية الشخصية التي أداها، فقال: “لم أجد أي صعوبات في تقمص هذه الشخصية، فالأحداث في ليبيا ساعدتني بشكل كبير على فهم الشخصية وكيفية التعامل مع الظروف وما هو المطلوب مني لأداها بشكل صحيح“.

خاتمة:

في هذا المشهد المزدحم بالفوضى الأمنية والمختنق بحالة من الاحتقان السياسي الناتج في جانب منه عن بعض مظاهر هذه الفوضى، والمؤدي في جانب آخر إلى مظاهر حادة منها، حاولت بعض النخب الثقافية الليبية التجريب في النسق الفني للثقافة بأن تخترق حاجزي الفوضى والتوتر، لتقول شيئا ما، إما من تلك الأشياء التي لم تكن ثمّة فرصة سانحة لتُقال من قبل، وإما من تلك الأشياء التي يُعتبر قولُها الآن أمرا ضروريا، لتسجيل بصمة الألم أو صرخة الإحساس بالقلق والخوف على مصير البلاد، جراء خروج النخب السياسية عن حدود الإيمان بالدولة وبالشعب وبالمصير المشترك الذي يتطلب التنازل لأجل البرنامج العملي، أكثر بكثير مما يتطلب التمسك بالأيديولوجيا النظرية

إن الوضع الثقافي في ليبيا ما يزال ينقصه الكثير من التطور الفكري، وطرح أفكار جديدة، وتوفير كل المتطلبات الضرورية للسينما، كالدعم المادي والمعنوي، فضلا عن حاجتنا إلى الخبرة في هذا المجال“.

أما إعطاء الفنانين والمصورين حقهم والبعد كل البعد عن تهميشهم، فهي من أهم المطالب التي ختم بها حديثه عن الفيلم.

***

أسامة عكنان ـ كاتب أردني

__________________

مواد ذات علاقة