تحقيق آلاء زارع

التحقيق ينقل شهادات السجينات في سجون حفتر، فقالت أحداهن “كان عناصر الأمن يتفاخرون بأنهم قاموا بالإعتداء على أخريات، وقالوا لي: أشكري الله أننا لم نفعل بك مثلهنوصرحت أخرى بأن “كثير من السجينات الجنائيات أخبرنا ليلى في سياق الحديث أنهن تعرضن للإغتصاب“.

الجزء الثاني

ليلى وأولياء الدم

ومع أولياء الدمبالذات كانت مأساة ليلى، فالفتاة العشرينية لم يكن يدور في خلدها أن صورا وبضعة منشورات في صفحة شقيقها على شبكات التواصل الاجتماعي، ستؤدي بها إلى غياهب سجون أولياء الدم“.

تقول ليلى إنها تم القبض عليها للمرة الأولى أواخر عام 2014 بتهمة تصوير قوات الكرامة، لكن أطلق سراحها، غير أن مأساتها الحقيقية بدأت في يناير/كانون الثاني 2015، عندما أنزل شقيقها الذي نقل للعلاج في تركياعلى حساباته في مواقع التواصل صورا كانت التقطتها لشارعهم في بنغازي وتظهر فيه سيارتهم.

وتتابع ليلى قائلة كنت أقيم في تلك الفترة عند أخي، المتزوج. وفجأة طرق الباب بقوة ودخلوا علينا، كانوا عشرين رجلا وضع بعضهم السلاح على رأس أبي، وسألوا عني؟ كان معهم سجانة (سيدة) قادتني معهم إلى الخارج“.

خارج البيت كانت هناك سيارات أمنية كثيرة وكأن الأمر يتعلق بأحد عتاة الإجرام، كما تقول، وتم اقتيادها إلى مكتب مسؤول الأمن الداخلي الذي لم تقنعه إجاباتها ودفعها بالبراءة. تحكي ليلى أثناء هذه المواقف عن تعذيبها بالضرب المبرّح وبالتهديد بالصعق بالكهرباء ثم صعقها فعلا.

 

تقول ليلى متذكرة الأيام الأولى لاعتقالها بعد فترة نقلوني إلى غرفة أخرى وظل التحقيق مستمرا ويركز على مكان أخي وأصدقائه وكنيته على شبكات التواصل الاجتماعي. ويستمر الضرب والصعق بالكهرباء حتى الساعة الثانية صباحا، يتخلله تهديد باستهداف بقية عائلتي“.

بعد انتهاء التحقيق وهي على شفير الانهيار، نُقلت ليلى إلى السجن، وهناك قابلت سيدات مصريات وسوريات، بينهن معتقلة سياسية مصرية متزوجة من ليبي، اسمهما فريدة، بحسب ما تقول.

تذكر أن السؤال الأول الذي وجهته السجينات لها هو هل تم الاعتداء عليك جنسيا؟تجيبهم أن ذلك لم يحصل. كثير من السجينات الجنائيات أخبرنها في سياق الحديث أنهن تعرضن للاغتصاب، إحداهن أكدت أنها تعرضت للاعتداء عليها وهي حائض.

هؤلاء النسوة تحدثن لرفيقاتهن داخل السجن عن اغتصابهن، لكن يصعب أن يثرن ذلك خارجه، وتؤكد السيدة منى عبد السلام رئيسة منظمة النصيرلحقوق الإنسان وهي إحدى الجمعيات الأهلية الليبية التي تعنى بقضية المعتقلاتأن النساء لا يتحدثن بسهولة عن تجربة الاعتقال، بسبب العادات والتقاليد في المجتمع، فما بالك بعمليات التحرش أو الاعتداء الجنسي التي تحدث بالفعل، لأن المجتمع لن يرحمهن.

في سجنها الجديد، لم تسلم ليلى ورفيقاتها من التحرش اللفظي والصفع والركل، تقول: “في إحدى المرات ضُربت سجينة اسمها نجوى رغم مرضها الواضححتى أغمي عليها ونُقلت إلى المشفى. كانت هذه السيدة متزوجة من رجل مصري ولم يكن معها أوراق ثبوتية“.

في فترة ما وُضعت ليلى في زنزانة مع متهمات جنائيات في قضايا مخدرات ودعارة، كان الأمر فوق احتمال الفتاة العشرينية، فخرجت بعد شهرين من هذه التجربة وهي في حالة من الانكسار النفسي والهزال الشديد بسبب سوء المعاملة وسوء التغذية داخل السجن.

غادرت ليلى مع والديها بنغازي إلى طرابلس برا بمساعدة من ناشطين يهتمون بالنازحين، وهناك خضعت لعلاج نفسي من أجل نسيان كوابيس أيام السجن التي تلاحقها، لكن ما عاشته يبقى تجربة أثرت كثيرا عليّ وتركت آثارا قاسية، كما تقول.

ورغم أن عائلتها تعاطفت معها، بقيت نظرة المجتمع لليلى سواء من بقية أفراد عائلتها الموسعة أو زملائها في الجامعةتحصرها في خانة السجينة السابقةوالقاتلةأحيانا.

تواصل الشابة العشرينية الآن دراستها في طرابلس، وتحلم بالسفر بعيدا عن تلك البيئة التي تصفها بالمتخلفة والتي حرمتها الحياة الطبيعية إلى حيث تستطيع العيش بأمان، وفق تعبيرها.

عجوز داعشية“!

لم يشفع شيء للسيدة فريدة (65 سنة) لدى أفراد دورية مليشيات الكرامة في بنغازي، اعتقلت وسجنت لأكثر من عام رغم أنها أمّية ومريضة بضغط الدم والسكر، وتعيش بنصف معدة بعد استئصال النصف الآخر بسبب السرطان، وقد ذاقت الويلات لعام كامل قبل أن تتم مبادلتها بأحد أسرى مليشيات الكرامة.

 جاءت السيدة المصرية الأصل من مدينة الإسكندرية عام 2015، لتستقر عند ولدها الأصغر في بنغازي. في أحد أيام مايو/أيار 2015 رافقته لتطعيم ابنته في منطقة الأبيار (قرية تتبع منطقة المرج الواقعة على بعد 50 كلم شرق مدينة بنغازي)، وعند نقطة تابعة لمليشيات الكرامة تم اعتقالها بتهمة أنها داعشية، كما يروي ابنها بشير.

بعد قضاء ثلاثة أيام من دون تحقيق معها، نُقلت أم الدواعش” –كما أطلق عليها سجانوهاإلى سجن الكويفية ثم إلى سجن مكافحة الإرهاب في منطقة بودزيرة شرق بنغازي، ويَروي ابنها بشير أنه لم يُسمح لهم بتوكيل محام لها أو بزيارتها إلا بعد شهرين من اعتقالها.

وتشير التقارير إلى أن سجن مكافحة الإرهاب ببودزيرة يُدار من قبل أكثر من خمس جهات أمنية لا بد من مرور كل سجين عليها، وهي: كتيبة أولياء الدم، وجهازا الأمن الداخلي والاستخبارات العسكرية، وكتيبة السلفية” (المداخلة)، وقوة المهام الخاصة.

قضت الحاجة فريدةأكثر من شهرين من مدة سجنها في حبس انفرادي، ومنع عنها العلاج، ويحكي بشير عن تعرض والدته لانتهاكات أثناء وجودها في جهاز الأمن الداخلي، فيقول حاولوا الاعتداء عليها بالضرب ووضعوها في الانفرادي ومنعوا عنها العلاج والطعام“.

لحسن حظ السيدة فريدة” –أو بسبب سنهالم تتعرض لانتهاكات جنسية، لكن ابنها يقول إنه لا يستطيع أن يجزم إن كانت والدته تعرضت لمضايقات من هذا النوع أم لا، فهم معدومو الضمير، وأنا كرجل تعرضت لمثل هذه الاعتداءات عندما كنت معتقلا في جهاز الأمن الوطني“.

بعد أكثر من عام خرجت العجوز في عملية تبادل أسرى بين مليشيات الكرامة وسرايا الدفاع عن بنغازي، ويقول ابنها بلوعة: “كانت حالتها الصحية متدهورة، انفجرت مرارتها في السجن ومعي تقرير بذلك.. وبعد خروجها من المعتقل أُجريت لها عملية توفيت بعدها بنحو شهرين

قول بشير إنه تواصل مع منظمات دولية، وإنه صدر تقرير يؤكد براءتها ولكن لا أحد اهتم بذلك. بالنسبة له فإن حزنه على فقد أمه وما تعرضت له قبل ذلك من مهانة لا يجاريه إلا القهر الذي انتابه بعد فقدان أحد أشقائه وطفليه أحدهما عمره 14 شهرا والآخر كان جنينا في بطن أمهفي حادث تعرضوا له أثناء هروب الأسرة من منطقة قنفودة.

كانت زوجة أخيه سارةالناجية الوحيدة من ذلك الحادث المأساوي، فنُقلت إلى مستشفى الـ 1200″ في مرحلة أولى ثم إلى سجن الكويفية فسجن المرج (نحو 100 كلم شرق بنغازي)، وفي السجنين تعرضت للاعتداء عليها بالضرب والألفاظ النابية رغم مرضها.

لحسن حظ سارة أنها كانت أيضا الناجية الوحيدة من بين آخر العائلات المحاصرة العالقة في قنفودة، ممن سلّموا أنفسهم لمليشيا تابعة لحفتر فقتلتهم جميعا. تم اعتقالها لمدة ثلاثة أشهر في مايو/أيار 2014، قبل أن يطلق سراحها وتجد طريقها لاحقا إلى تركيا.

بقيت سارة طويلا في أحد المستشفيات التركية، تحمل معها كوابيس تلك الأيام وجراحها النفسية والبدنية وتعالج قدمها التي كادت تفقدها بعد أصيبت خلال حصار مليشيات عملية الكرامةلمنطقة قنفودة

الجريمة والعقاب

ويؤكد رئيس منظمة التضامن الليبية لحقوق الإنسان جمعة العمامي أن التاريخ الليبي لم يشهد حالات انتهاكات بحق المرأة بهذا الحجم، خصوصا في السجون والمعتقلات، حيث يستخدمن كرهائن في عمليات تبادل على خلفية الأوضاع السياسية والعسكرية.

يقر العمامي بأنه يصعب الحصول حتى على أرقام تقريبية لعدد السجينات بالسجون التابعة لعملية الكرامة شرقي ليبيا، بسبب التكتم الشديد والرعب الذي تنشره المليشيات التابعة لحفتر، ويقول إن قرابة 90 سجينة سياسية في سجن معيتيقة (طرابلس)، بينهن حوالي أربعين سجينة من زوجات عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، كما يوجد عدد آخر في سجن الكلية الجويةفي مدينة مصراتة (نحو مئتي كلم شرق طرابلس).

تشير المعطيات التي جُمِّعت والشهاداتوفق ما ذكره العمامي – إلى أن سجون المنطقة الشرقية، خاصة سجني الكويفيةفي بنغازي وقرنادةفي مدينة شحات (شمال شرق، قرب مدينة البيضاء) يعتبران الأسوأ على مستوى معاملة السجينات .والانتهاكات الحاصلة

وتدار معظم السجون في شرق البلاد وغربها من قبل الفرقة المدخلية المتشددة، وهم من مؤيدي عملية الكرامةالتي أطلقها حفتر عام 2014-، كما أن جميع أقسام مكافحة الجريمة يديرها أصحاب الفكر المدخلي، كما يقول العمامي.

من جانبه، يقول الباحث والناشط الليبي خالد العقيلي إن الكرامة الإنسانية تنتهك بحق النساء في سجون شرق ليبيا وغربهاوأن السجينات يتعرضن إلى التعذيب اللفظي بالسب والقدح، إضافة للتعذيب الجسدي بالضرب بالعصي والركل واللكم والتقييد من الخلف وأن ذلك يتكرر في مختلف المعتقلات الرسمية منها والسرية.

أخطر ما في الأمركما يقول العقيليأن أغلب من يديرون هذه السجون أعضاء في ميليشيات ارتدت الزي الرسمي وأُصبغت عليها الشرعية، وهي تستخدم المدارس والمزارع وأماكن أخرى مخفية كمراكز اعتقال، وهناك تمارس الانتهاكات ضد النساء، وكذلك الأطفال والرجال.

ورغم هذه التجاوزات المتكررة والممنهجة بحق المرأة الليبية يفلت كثيرون من العقاب، يتخفون وراء قانون الصمتالذي كرسته عادات وأعراف تعتبر بوح المرأة بالمَظلمة فضيحة. كما تساهم حالة الانقسام والانفلات الأمني والسياسي بالبلاد في تفشي هذه التجاوزات وعرقلة أي رقابة أو محاسبة

ضمن تقرير بعنوان ” تجاوزات خلف القضبان: الاحتجاز التعسفي وغير القانوني في ليبيا صدر في نيسان/ أبريل 2018 وثقت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالتعاون مع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا حالات عديدة لاحتجاز غير قانوني للنساء في شرق ليبيا والاعتداء عليهن، بينها حالة فريدة علي عبد الحميد (فريدة في التحقيق) –الصفحات من 32 إلى 35-، كما أكد وجود حالات مماثلة في غرب ليبيا ومناطق أخرى.

وأشار التقرير إلى أنه لا يقدم وصفا شاملا لمعظم ما يحصل في مراكز الاحتجاز خاصة السرية منها أو التي لم يسمح للمفتشين بزيارتها (سجن الكويفية مثلا) لكنه ينقل صورة قاتمة للأوضاع.

***

آلاء زارع ـ إعلامية ومذيعة بقناة مكملين الفضائية

_______________

مواد ذات علاقة