بقلم خيري عمر

يشكل الهجوم على طرابلس في 4 إبريل/ نيسان 2019، علامةً مهمةً في استكشاف توجهات التعامل الدولي مع الأزمة السياسية في ليبيا.

تكشف المؤشرات الحالية عن ظهور انقساماتٍ أدّت إلى تعطيل مجلس الأمن عن الإضطلاع بمهامه في حفظ السلم والأمن، وصار أقرب إلى منتدى نقاشٍ بين أعضائه، بشكلٍ يتيح الفرصة لتزايد التوجهات التدخلية، وهذا ما يثير التساؤل عن الأطر الدولية البديلة، ومدى قدرتها على ضبط التنافس الدولي على الثروة، والهيمنة على الحكومة الليبية والحيلولة دون التدخل المباشر.

المواقف الأوروبية والأميركية

دعا بيان مشترك لحكومات فرنسا وإيطاليا والإمارات والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، في 4 إبريل/ نيسان 2019، إلى وقف القتال بالقرب من غريان، غرب ليبيا.

وبلغةٍ أقرب إلى التدخل والتهديد بمحاسبة الداعمين لاستمرار الحرب، طالبت الدول بخفض التوتر الذي يعوق فرض وساطة الأمم المتحدة، واعتبرت أن استمرار التطلعات الفردية يهدّد بإعادة ليبيا إلى حالة الفوضى.

كما ركز البيان على دعم خطة البعثة الأممية للمرحلة الانتقالية، وإحلال السلام عبر الملتقى الوطني الجامع، والذي كان مخططاً لانعقاده بين 14و16 إبريل/ نيسان الماضي.
وعلى الرغم من بساطة لغة البيان، فإن ما يلفت الانتباه هو اهتمام الدول الخمس بوقف العمليات في غريان دون غيرها، على الرغم من استهداف العاصمة.

وهنا، يمكن القول إن أهمية غريان في أنها محور الخطة العسكرية لدخول اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، المنطقة الغربية، وجعلها مركز قيادة متقدما، بمعاونة الخبراء الفرنسيين.

وبهذا المعنى، تبدو مواقف المنضوين في البيان المشترك متقاربةً تجاه فتح الطريق أمام وقف العمليات العسكرية في ظل أوضاع المعارك الجديدة حول طرابلس.

ولم تكن البيانات التالية مختلفة في مضمونها عن البيان المشترك بشأن غريان، فقد تماثلت مواقف الدول في الدعوة إلى وقف القتال، بجانب تعطيل مجلس الأمن ومنع صدور قراراتٍ جديدة، على الرغم من عدم فاعلية القرارات السابقة، سوى في فرض الوصاية على الحكومة الليبية.

وهو ما يعني أن هذه الدول سعت إلى تقييد تحرّكات حكومة الوفاق في مواجهة الهجوم على العاصمة، حيث يمكن القول إنه على الرغم من حديث الحكومات الأجنبية عن إمكانية مساهمة الحرب في إرساء الديمقراطية، فإن توسيع التحليل الخاص بوقف العمل العسكري في غريان يكشف عن وجود رغبة في توطيد الوضع العسكري لعملية الكرامة.

وعلى مستوى الدول، تقوم السياسة الفرنسية على أن سياستها تجاه ليبيبا، وتأييد حفتر، توفر فرصةً لبناء تحالفاتٍ واسعةٍ في الشرق الأوسط، تكون أكثر أهميةً من الاعتبارات التجارية، فهي تعمل على تطوير تحالف استراتيجي مع الإمارات والسعودية ومصر،

وهو تحالفٌ يقوم على أن عدم استقرار ليبيا يؤدي إلى انتشار التوتر والتطرّف وفوضى السلاح في دول الجوار وإقليم الساحل، غير أن هناك اتجاهات ترى أن فرنسا تتبنّى مواقف متناقضة تجاه ليبيا،

فبينما تعترف بحكومة الوفاق، وتتعامل معها بوصفها حكومة شرعية، فإنها تدعم خروج حفتر عليها، غير أنه تمكن ملاحظة أن التناول الفرنسي يقوم على أساس أن ارتباط حكومة الوفاق بمجموعات إرهابية يخلّ بمشروعيتها، ويضعف الاعتراف الدولي بها،

كما أنها تتعامل مع حفتر باعتباره جزءا من الحكومة الليبية، كما أنها على الرغم من تشدّدها ضد حكومة السراج في مجلس الأمن تعقد اتفاقيات تعاون معها، حيث تعمل على توسيع علاقاتها مع الأطراف الليبية من دون التخلي عن إبعاد الإسلاميين عن السلطة.

وقد استقبلت إيطاليا وفرنسا كلاً من رئيس حكومة الوفاق، فائز السراج وخليفة حفتر، بشكل يعطي لهما ميزاتٍ متماثلة في التأثير على مرجعيات الأحداث في ليبيا،

لكن الاختلاف بينهما يكمن في تضامن الفرنسيين مع مشروع حفتر، فيما يقف الإيطاليون، ودول أوروبية أخرى، عند مستوى الدعم الدبلوماسي لحكومة السراج.

ولذلك تكون السياسة في ليبيا أمام تفاوتٍ نوعيٍّ في الدعم السياسي، فبينما يقف الدعم الإيطالي عند مستوى التعاون السياسي، وتقديم تسهيلات لوجستية، تتوسع فرنسا في تقديم المشورة والخبرات الفنية، فضلاً عن وجود الوحدات الخاصة ضمن العمليات العسكرية الحالية.

وتكشف تصريحات كل من السراج وحفتر، لدى زيارتهما باريس في 8 و22 مايو/ أيار الحالي، عن ملاحظتين:

الأولى أن فرنسا تبدو الأكثر تأثيراً في الملف الليبي، مقارنة بالتصريحات الدبلوماسية في إيطاليا.

أما الثانية، فقد طالب المندوب الفرنسي لدى مجلس الأمن، في 21 مايو، بوقف إطلاق النار بدون شروط، مع وضع نظام دولي للرقابة، لمنع انتشار المجموعات الإرهابية في مؤسسات الدولة.

وبالتالي، تبدو تصريحات الرئيس الفرنسي، ماكرون، نيابة عن حفتر، بمثابة رفض لوقف الحرب، ومن ثم، يبدو حديثه عن وجود أزمة ثقة بين الليبيين محاولة للفت الانتباه إلى الأسباب المحلية للصراع المسلح.

ومنذ بدء الهجوم على طرابلس، لم يشهد الموقف الأميركي تغيراً جوهرياً تجاه الأزمة في ليبيا، فهي، تقليدياً، أبدت القلق على الآثار المتوقعة على مكافحة الإرهاب، فيما جاء تهديد المدنيين وتقويض الحل السياسي في أولوية تالية. وعلى أية حال، لم تسع إلى اتخاذ تدابير لوقف الهجوم على طرابلس، ولكنها تجنبت الانخراط في الأزمة، عبر سحب قوات أفريكومبعيداً عن مناطق الاشتباكات.

وفي سياق مماثل، تحاول روسيا تبنّي سياسة انفتاحية على كل أطراف الأزمة، فقد عملت على فتح قنوات اتصالٍ مع حكومة الوفاق وخليفة حفتر، وهو ما يمكن اعتباره مراجعة لمواقفها المتباعدة مع حكومة الوفاق.

دول الجوار

قبل اندلاع الحرب حول طرابلس، دارت مناقشات اجتماع دول جوار ليبيا، في مارس/ آذار 2019، حول دعم التسوية السلمية ووقف تدهور الأوضاع في طرابلس، من خلال دعم دور البعثة الدولية، كما كشفت تصريحات وزراء الخارجية عن تطابق المواقف تجاه تهديد المليشياتً لمؤسسات الدولة.

وعلى الرغم من انعقاد القمة العربية في نهاية مارس/ آذار الماضي، ظلت بعيدة عن مناقشة التطورات في ليبيا.

وخلال الاجتماعات أخيرا، أعلنت دول جوار ليبيا تمسّكها بالاتفاق السياسي باعتباره إطارا لوقف الصراع المسلح، لكنها لم تتخذ مواقف جماعية للتعامل مع الهجوم على طرابلس.

وكان لافتا أنه منذ اجتماع مارس/ آذار 2019، لم يلتق وزراء خارجية مصر وتونس والجزائر، كما لم تضع آلية للمبادرة المشتركة الخاصة بوضع حدّ لتدهور الأوضاع الأمنية، ما يعكس عدم الانسجام بين السياسة المصرية من جهة والتونسية والجزائرية من جهة أخرى، في هذا السياق، تواجه دول الجوار تحدّي تعدد أطراف التدخل في ليبيا.

وعوضاً عن ذلك، اتجهت مصر إلى توسيع المساهمة الأفريقية في أزمة ليبيا، في 23 إبريل/ نيسان، بمشاركة رئاسة لجنة ليبيا في الاتحاد الأفريقي (الكونغو) بالإضافة إلى رواندا وجنوب أفريقيا، حيث أشار الاجتماع إلى تضرّر الدول الأفريقية من حالة عدم الاستقرار في ليبيا.

وفي 29 إبريل/ نيسان، دعت الجزائر وتونس إلى بناء موقف مشترك لوقف القتال في ليبيا، وتفعيل المبادرة الثلاثية. وتكشف هذه التوجهات عن مظاهر تفكّك إطار دول الجوار الذي تشكل في التلاقي المستمر منذ أغسطس/ آب 2014.

وعلى الرغم من أهمية توسيع الأطر الدولية لوقف التدهور في ليبيا، يؤدي انخفاض التنسيق بين دول الجوار إلى زيادة النفاذ الدولي، وزيادة المخاطر الأمنية

البعثة الدولية بدون مجلس الأمن

اعتبر مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، غسّان سلامة، أن الهجوم على العاصمة عمل غير مشروع. وفي تقديم إفادته في مجلس الأمن، في 21 مايو/ أيار، ركز على التصنيفات الجنائية، عندما أشار إلى مشاركة مطلوبين للمحكمة الجنائية في الأعمال القتالية في الجانبين، تقع مسؤوليته السياسية على الحكومات.

يعكس هذا التوجه نظرة متوازنة للوضع السياسي، حيث اعتمد على تصنيف الأمم المتحدة للجماعات السياسية جماعات إرهابية. ووفق هذا التوجه، يقترب سلامة من تعريف خليفة حفتر بأنه ليس جزءا من الحل، بقدر ما يشكل عبئاً على العملية السياسية، ويفتقر للكاريزما بشكلٍ يزيد من توجهاته السلطوية.

وبينما يعتبر أن حكومة الوفاق تحظى بالشرعية السياسية، يرى سلامة أن حفتر يواجه مشكلتين. تتمثل الأولى في تحميله مسؤولية انهيار المسار السياسي، وتتعلق الثانية بانكشاف قدراته السياسية مع تزايد احتمالات إخفاق إطاحة حكومة الوفاق والاستيلاء على السلطة، حيث إن عدم التقدّم في معركة طرابلس يعني انكشاف وهم الرجل القويتشكيل ضغوطٍ على مؤيديه.

ولدى النظر إلى انخفاض فاعلية مجلس الأمن، يبدو أن اختلاف المصالح الدولية سوف يؤثر على تعامل مجلس الأمن مع الوضع السياسي في ليبيا، فمنذ اندلاع المعارك الحالية، لم يتخذ مجلس الأمن تدابير لوقف القتال، كما لم يتمكّن من إصدار قرار أو بيان رئاسي، ومن المحتمل أن تزيد، هذه التحولات، فرصة ظهور تنافس دولي حول ليبيا من خارج الأمم المتحدة.

يمثل هذا التحول خطورةً من وجهة أن يأتي في مرحلةٍ متأخرة، انهارت فيها المؤسسات الدستورية وصارت الحرب الأهلية أكثر انتشاراً وعمقاً. وهنا، يكون أثر الانقسامات الدولية مضاعفاً، حيث يعمل على تغذية الاستقطاب والتنافر بين المكونات العسكرية والسياسية في ليبيا.

حظر السلاح

يستند حظر السلاح على ليبيا إلى قرارات مجلس الأمن، وهو ما يثير الجدل بشأن الطبيعة القانونية لتصرفات السلطة في ليبيا، فمن جهة، أبرمت الحكومة المؤقتة في سبتمبر/ أيلول 2014 اتفاقية تعاون عسكري مع مصر، كما استقبلت خبراء ومعدات عسكرية من الإمارات والسعودية وفرنسا.

ومع اندلاع الهجوم على طرابلس، تلقت حكومة الوفاق عرباتٍ مدرعة من تركيا. وفي تقريره إلى مجلس الأمن، يشير غسّان سلامة إلى تلقّي كل الأطراف السلاح من دول مختلفة، ما يجعل قرارات مجلس الأمن الخاصة بحظر السلاح قليلة الجدوى، وتؤدي إلى زيادة العنف والتطرّف والجرائم.

تشكل هذه التخوفات القلق المشترك لدى دول عديدة، غير أن مناقشة مشروعية تصرّفات الحكومة الليببة واختصاصها في تمثيل الدولة تتوقف على عاملين: الأول، حيث يشترط توافر الاعتراف الدولي للحكومة، من هذه الوجهة، تعد تصرّف الحكومات الليبية مشروعاً، باستثناء تلقي الحكومة المؤقتة السلاح بعد ظهور حكومة الوفاق في مارس/ آذار 2016.

ويرتبط العامل الثاني بالقدرة على السيطرة على السلاح، وتبدو هذه النقطة الأكثر أهمية، فقد ارتكزت فكرة حظر السلاح على أن عدم اكتمال مشروع الجيش وقوات الأمن يسهل وصول السلاح إلى المنظمات الإرهابية.

وبغض النظر عن الجدل القانوني بشأن تمتع السلطة الليبية بالسيادة الكاملة، لم تستطع الأمم المتحدة بناء نظام محكم لحظر السلاح على ليبيا، فعلى مدى سنوات اندلاع الحرب الأهلية، زاد انتشار السلاح في ليبيا.

ولعل اقتراحات مبادرة البعثة الأممية بدمج المسلحين في الجيش والأجهزة الأمنية كانت حلاً ملائماً لتقنين حمل السلاح، غير أن استمرار النزاع فترة طويلة أدّى إلى زيادة احتياجات الأطراف الليبية للتسلح.

وترتبط هذه النتائج بأن القرارات الأممية لم تكن مصحوبة بالإرادة التنفيذية، على الرغم من خضوع ليبيا للفصل السابع، المواد 40 – 42، فعلى مدى السنوات اللاحقة لاتفاق الصخيرات، ظهرت الأمم المتحدة متساهلةً مع خرق مبدأ مسؤولية الحماية للمدنيين وتهريب السلاح.

بشكل عام، يمكن القول إن المواقف الدولية تجاه النزاع المسلح تبدو متطابقةً بشأن مشاركة مليشيات مسلحة في المعارك الحالية، لكنه على الرغم من وضوح التوجه الدولي، في هذا الشأن، ظهر انقسام بين الدول بشأن تعريف الجماعات الإرهابية والسلاح الشرعي، حيث تميل غالبية الدول إلى الاعتراف بحكومة الوفاق، لكنها ترى قصور سياساتها في مكافحة الإرهاب، بل وخضوع المجلس الرئاسي للمليشيات المسلحة.

وهناك اتجاه آخر يذهب إلى أن الجيش العربي الليبيتنضوي تحته مليشيات مسلحة. وفي ظل بروز هذا التناقض، يساعد توقف المسار السياسي، وانهيار فكرة توحيد الجيش على أن يظل الوضع في ليبيا مغرياً لتدخل دول عديدة، وخصوصاً مع توقعات استمرار الحرب في غرب ليبيا فترة طويلة.

***

خيري عمر ـ استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .

___________

مواد ذات علاقة