ثمة أزمة مصرفية لا يجري الحديث عنها بالشكل الكافي تهدد بمفاقمة القتال المهلك الذي تدور رحاه في طرابلس، وإشعال حرب طويلة الأمد للسيطرة على الموارد وتعميق الانقسام بين شرق البلاد وغربها. إن إيجاد مخرج من هذه الأزمة يتطلب الاتفاق على وقف لإطلاق النار في طرابلس ووضع حد للانقسام المستمر منذ أربع سنوات بين الفرعين المتنافسين للمصرف المركزي.

الجزء الثاني

أولا: عوامل نشوء أزمة مصرفية في ليبيا

في العام 2014، تعرضت ليبيا لأزمة سياسية قسمت البلاد إلى برلمانين وحكومتين متنافستين: الحكومة المؤقتة برئاسة الوزراء عبدالله الثني في الشرق، والتي تمتعت بالاعتراف الدولي حتى ديسمبر 2015، وحكومة تتخذ من طرابلس مقرا لها.

في وقت لاحق، وفي اتفاق الصخيرات الذي جرى بواسطة الأمم المتحدة في ديسمبر 2015، شكل المتفاوضون حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، وبمجلس رئاسسي يرأسه فايز السراح، وفر لها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اعترافا دوليا.

رغم ذلك، استمرت حكومة الثني بالعمل في الشرق، وبدعم قوات حفتر. كما أدت الأزمة السياسية في عام 2017 إلى انقسام المصرف المركزي بين محافظه الصدّيق الكبير، ونائبه على الحبري، الذي شرع في إدارة فرع المصرف في بنغازي بشكل مستقل.

أفضى انقسام المصرف المركزي إلى نزاع بين مركزي القوى في ليبياـ طرابلس وبنغازي ـ حول كيفية توزيع موارد الدولة (المتأنية بشكل رئيسي من مبيعات الوطن).

ثلاثة تطورات ذات صلة فاقمت هذا الخلاف. تمثل التطور الأول في قرار المصرف المركزي في عام 2014 فصل فرع بنغازي عن نظام الدفع الإلكتروني للمصرف، ما دفع الأخير للجوء إلى نظام محاسبي يدوي مواز.

لقد أعلن المصرف المركزي أنه لا يعترف بالنظام المحاسبي الموازي لفرع بنغازي، إلا أن البرلمان الذي يتخذ من مدينة طبرق الشرقية مقرا له قال أنه يعترف به، وتعتبر السلطات في المنطقة الشرقية المعاملات التي تجري عبره صحيحة بموجب القانون الليبي.

وتمثل التطور الثاني في قرار الحكومة المؤقتة في شرق ليبيا تفويض فرع بنغازي بتوسيع القاعدة النقدية للمصرف (بطبع العملة الممولة بسندات الخزينة لكن دون أن تكون مدعومة برأس مال حقيقي) دون موافقة المصرف المركزي من أجل دفع رواتب موظفي القطاع العام وتسديد مدفوعات أخرى في المناطق الخاضعة لسيطرتها، بما في ذلك دفع رواتب جيش حفتر.

بلغت مثل هذه الدفعات نحو تسعة مليارات دينار ليبي (6.4 مليار دولار) سنويا منذ العام 2015. ومن أجل تسديد هذه الدفعات، استخدمت الحكومة في شرق ليبيا المصارف التجارية الواقعة مقراتها ومعظم فروعها في الشرق، حيث تستطيع دفع رواتب للموظفين وأفراد قوات الأمن الذين عينتهم الحكومة حديثا.

هناك ثلاثة مصارف بشكل خاص ـ المصرف التجاري الوطني ومصرف الوحدة اللذان تملكهما الدولة، ومصرف خاص صغير هو مصرف التجارة والتنمية ـ تعالج الجزء الأكبر من هذه المدفوعات، التي يبلغ مجموعها 30% من الاحتياجات إلى المصارف التجارية في ليبيا. ونتيجة لهذه العمليات، راكمت هذه المصارف احتياطات واعتمادات لدى فرع المصرف المركزي في بنغازي لا يعترف بها المصرف المركزي في طرابلس.

وأتى التطور الثالث في أكتوبر 2018، عندما فرضت حكومة طرابلس إجراءات مالية حررت شراء العملات الأجنبية في سائر أنحاء البلاد بسعر صرف جديد أعلى.

تسبب هذا في استنزاف احتياطات المصارف الثلاثة المذكورة أعلاه لدى المصرف المركزي، الذي قام بالسحب من حساباتها بالعملة المحلية.

تدفع هذه التطورات الثلاثة معا المصارف التجارية العاملة في شرق البلاد إلى أزمة حادة مع انخفاض احتياطاتها المودعة لدى المصرف المركزي إلى ما يقترب من الحد الأدنى المطلوب بموجب القانون، أي 20% من إجمالي إيداعاتها.

إذا بلغت أدنى من هذا الحد ـ كما يبدو وشيكا أو قد يكون حدث أصلا ـ يمكن للمصرف المركزي أن يفرض قيودا عليها، بشكل رئيسي على شراء العملات الأجنبية، وهذا سيحد من قدرتها على تسديد الدفعات، أو يمكن أن يؤدي إلى استنفاد احتياطياتها بالكامل، وعندها ستصبح هذه المصارف غير قادرة على العمل حكما.

في أواخر أبريل، فرض مسؤولو المصرف المركزي في طرابلس قيودا وآليات تحكّم خاصة بعمليات العملات الأجنبية على مصرف الوحدة ومصرف التجارة والتنمية، وعلى مصرفين آخرين أصغر منهما.

ادعى المصرف المركزي أن الأجراءات شكلت تدابير ناظمة ولازمة لمنع عمليات الغش، إلا أن ممثلي أحد المصارف المستهدفة ومسؤولي فرع المصرف المركزي في بنغازي يقولون إنها إجراءات انتقامية تستهدف المصارف الشرقية على نحو خاص، وبالتحديد تلك التي تضاءلت احتياطياتها لدى المصرف المركزي في طرابلس.

من شأن القيود المفروضة أصلا، والقيود الإضافية التي يتوقع أن تفرض، بما في ذلك على مصارف أخرى مثل المصرف التجاري الوطني، أن تمنع هذه المصارف من دفع رواتب السلطات التي تتخذ من شرق ليبيا مقرا لها، وتوثر أيضا بعملياتها في باقي أنحاء البلاد.

لم تجتذب الأزمة المصرفية حتى الآن ما يكفي من الاهتمام العام، لكن بعض مسؤولي المصرف المركزي، وفرعه الشرقي والمصارف التجارية الثلاثة المتأثرة أطلقت جرس الإنذار أولا في مارس.

بالنظر إلى توقيت تقدم حفتر باتجاه طرابلس، والذي بدأ في مطلع أبريل، من المحتمل جدا أن تكون الضغوط المالية قد ساعدت في دفعة لاتخاذ القرار بشن الهجوم، حيث يحتمل أن يكون قد راهن على اقتحام سريع للعاصمة لفرض سيطرته على الحكومة المركزية وإعادة توحيد المصرف المركزي تحت سيطرته.

كانت مثل هذه الحصيلة ستجبر المصرف المركزي على قبول جميع الإلتزامات المترتبة على فرعه الشرقي ومنح حفتر إمكانية الوصول المستمر إلى أموال الدولة.

كما أنه كان سيرضي بعض داعمي حفتر الخارجيين، الذين يتهمون المصرف المركزي في طرابلس بتمويل الميليشيات والمجموعات الإسلامية التي يعارضونها.

لكن إذا فشل هجوم حفتر، فلن يكون لديه خيار سوى دعوة داعميه الخارجيين لتغطية نفقاته العامة في الشرق. في هذه الأثناء فإن محاولة حفتر الجارية للسيطرة على العاصمة بالقوة توفر لسلطات طرابلس مبررا للسماح بتطور الأزمة المالية وربما اتخاذ خطوات إضافية لقطع جميع قنوات التمويل الداخلي عن أولئك الذين يهاجمون طرابلس.

يستند هذا التقرير إلى عشرات المقابلات مع مسؤولين مصرفيين وحكوميين ليبيين في شرق وغرب ليبيا في الربع الأول من العام 2019.

كما أنه يبني على الأبحاث التي أجرتها مجموعة الأزمات حول الجوانب المالية للأزمة السياسية الليبية، والمستمرة منذ العام 2014.

يتبع

____________

مواد ذات علاقة