بقلم أحمدعلي أوغلو

يتداخل العسكري والسياسي في الجزائر والسودان نتيجة تجارب سياسية معقدة وممتدة لكن ما يميز الجزائر والسودان أنهما استفادا من تجاربهما الخاصة وتجارب غيرهما، ويبقى أن نجاح حراك البلدين السلمي سيعطي بالتأكيد أملًا بإمكانية التغيير في المنطقة دون إراقة دماء وتهجير، وتدمير البلاد.

الجزء الثاني

خصائص العقلية العسكرية لكلا الجيشين الجزائري والسوداني

يذكر لوكهام في كتابه المؤسسة العسكرية، والعسكرة، والديمقراطية في إفريقيا (1998)، أن حكم المؤسسة العسكرية في فترة ما بعد الاستعمار في بلدان شمال إفريقيا، كان انتقالًا لا مفرَّ منه، وتحولًا نموذجيًّا لا غنى عنه في أسلوب الحكم وإدارة البلاد.

وبمرور الزمن، أضحت مطالبة الجيش بالسلطة وأحقيته في الحكم تنبثق أساسًا من اقتناع المؤسسة العسكرية بأن أية حكومة مدنية قد تفرزها انتخابات ديمقراطية لن تكون جديرة بالثقة، ولن تكون مؤهلة لخوض غمار السياسة، وسبر أغوارها.

ففي الذهنية العسكرية، يؤمن الجنرالات بأن أي كيان مدني سيكون عرضة للفساد، وسيعرِّض البلاد إلى اضطرابات اقتصادية بسوء إدارة، ومراهقة سياسية، وافتقار للخبرة والحنكة والانضباط الذي تتمتع به المؤسسة العسكرية.

ولكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن أيًّا من منظمات المجتمع المدني، أو الأحزاب السياسية لم تُمنح فرصة حقيقية لإثبات قدراتها في فترات الأنظمة البوليسية القمعية، التي عملت على تصحر وتجريف الحياة السياسية بالمطلق.

اتخذ الجنرالات القصور الذي يشوب الأحزاب السياسية، والمؤسسات المدنية، ذريعةً، فنصبوا أنفسهم حماة للحمى، ورعاة لمقدرات الوطن والمواطن. ولكن المفارقة أن سجلات الجنرالات والعسكر جاءت خاوية من أي إنجاز اقتصادي، أو اجتماعي في أي من الدول التي حكموها.

كانت استراتيجيتهم اللعب على وتر سيكولوجية الشعوب، واحتياجها للأمن والأمان، الذي توفره لهم المؤسسة العسكرية حصريًّا. فكانت الانقلابات العسكرية المدعومة شعبيًّا، ولو شكليًّا، هي أبسط وأقصر الطرق لاحتفاظ الجنرالات بالحكم.

سرعان ما تعدى دور الجيش في الجزائر والسودان اعتلاء سدة الحكم فقط، إلى تدبير ممارسة السلطة وتسييرها. فأصبح الجيش في الجزائر والسودان هو حامي مؤسسات الدولة وضامن استمراريتها. أصبحت يد الجنرالات هي الطولى وبلغت جمهورية الضباطامتدادها الأوسع. فأضحى الجنرالات يتمتعون بإمكانية الوصول إلى مراكز المال والأعمال، وحتى بعد تقاعدهم، فهم يسيطرون على الموارد الطبيعية للبلاد، وكذا على فرص الاستثمار ضمن الاقتصاد المدني.

كما أنهم لا يسمحون للقطاع المدني بمحاسبة أو مراقبة ميزانية الدفاع، والمساعدات والصفقات العسكرية الخارجية، والأهم أن المؤسسة التشريعية والتنفيذية لا تمتلك أدنى فكرة عن الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية.

لم يعد الأمر يقصر دور المؤسسة العسكرية على السيطرة على المستويات السياسية العليا بل تعدى ذلك لتسيير كافة الأمور الحياتية والإدارية من اقتصاد وتجارة وبنية تحتية. جاء هذا الاحتكار والتغول في السيطرة كنتيجة طبيعية لعقلية الجنرالات الحاكمة؛ فهم يرون أن الإدارة المدنية تتبنى سياسات واستراتيجيات بمستويات مفرطة من المرونة والليونة في التعامل مع المؤسسات الخدمية.

وبالتالي، فإن المؤسسة العسكرية تعتبر أن القطاع المدني غير كفء لتلك المهمة العظيمة، وأداءه الخدمي والإداري غير مرض ليكون أهلًا لتحمل تلك المسؤولية.

ولتوطيد أركان حكمهم، أتقن الجنرالات اللعب على أوتار الوطنية والقومية والفداء الذي يتمتع به الجيش الوطني، فأظهروا أن تدخلات الجيش تأتي تلبية لنداء الجماهير، وللحفاظ على مكتسبات البلاد، ومحاربة الإرهاب المتربص بالوطن ومقدراته، وللتصدي لمؤامرات العدو الخارجي.

ففي الحالة السودانية، تصدر المؤسسة العسكرية الصورة وكأن كل انفعالات الجيش وتحركاته، وحسمه للأمور جاء انحيازًا للجماهير المنتفضة سواء في انتفاضة عام 1964، أو في الثورة الشعبية عام 1985.

من جهة أخرى، قدَّم الدعم الخارجي خدمات جليلة لتوطيد أركان حكم الجنرالات، فمنذ بداية الاستقلال، وانتهاء الحرب الباردة، ارتأت دول الاستعمار التاريخي حتمية إبقاء الجيش حاكمًا نافذًا وفاعلًا للسيطرة على دول الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، في فترة ما بعد الاستعمار.

فبالنسبة للقوى الاستعمارية، كان الجيش هو القوة الأكثر تنظيمًا وفعالية للتعامل معها، وتوظيفها لخدمة أجندات الدول الاستعمارية، فببعض الامتيازات، والدعم السياسي واللوجستي للجنرالات، تضمن تلك الدول ولاءات الجنرالات وإخلاصهم لأجندات تلك الدول الداعمة والمثبتة لأركان حكمهم.

مما ميز المؤسسة العسكرية الجزائرية والسودانية عن نظيراتها، الليبية والسورية مثلًا، أن الأولى عملت على تشكيل جيش قومي تنصهر فيه كل مكونات الشعب الإثنية والقبلية، مراعية لتوازن دقيق بين مكونات المجتمع في منح الرتب العسكرية وتشكيلات قادة الفرق والقطاعات، وكانت فلسفة التأهيل والتدريب في الجيش تقوم على فكرة انصهار الجميع في هذا الوعاء القومي.

بينما اعتمد الجيش السوري مثلًا على المذهبية والعائلية في تكوينه الرتبي، وكذا اعتمد الجيش الليبي على المناطقية والقبلية، فكان لذلك الأثر البيِّن في التعامل العسكري الخشن للجيشين، الليبي والسوري، مع الهبَّات الشعبية، بينما لم يكن ذلك النموذج الخشن متبعًا من قبل الجيش التونسي مثلًا.

ولكن تبقى العقلية العسكرية، وسياسات هيمنتها على الحياة السياسية، واستخدامها للأدوات متشابهة إلى حد بعيد. فمن جهة، هي تمتلك القوة الغاشمة، ومن جهة أخرى هي متغلغلة في تفاصيل الاقتصاد المدني. ومن هنا، كان تقليص دور المؤسسة العسكرية ووضعها في حجمها الطبيعي، وإرجاعها لممارسة دورها الأساسي، عملية معقدة ودقيقة قد تستغرق سنوات عديدة إن سلكت دروب الإصلاح التدرجي.

فهل يقبل الجيش في الجزائر والسودان بتسليم الحكم لسلطة مدنية؟

يبدو أن افتراضات نظرية التوافق ونظرية اقتسام السلطة، لا تصلح للحالتين، الجزائرية والسودانية، في أية مرحلة انتقالية؛ إذ إن النظريتين يمكن أن تُطبقَّا في الدول الديمقراطية، أو على الأقل في الدول حديثة التحول نحو الديمقراطية، حيث يكون للعسكريين دورهم في صنع القرارات المتعلقة بالقضايا الدفاعية وكيفية استخدام وتوظيف القوات المسلحة في ظل القيادة المدنية ذات اليد العليا والقرار السيادي.

لعل النظرية الأقرب إلى الواقعية في الحالتين، الجزائرية والسودانية، هي نظرية جانووتيز، والتي يرى من خلالها أن تدخل المؤسسة العسكرية في النظم الديمقراطية يجب أن يكون مقتصرًا على مجال سياسات الدفاع، وبذلك لا يتم استبعاد المؤسسة العسكرية تمامًا عن ممارسة أي دور سياسي، بل تكون مشاركة في وضع أسس النظام الديمقراطي، إذ لا يمكن الفصل الحاد بين المؤسسة العسكرية، وباقي المؤسسات المدنية.

فذلك يتنافى مع واقع العلاقات المدنيةالعسكرية على الأرض؛ حيث إن أفراد القوات المسلحة ينتمون إلى طبقات وفئات المجتمع، فأفراد القوات المسلحة ليسوا طبقة مستقلة قائمة بذاتها في المجتمع.

المعضلة التي تواجه هذه النظرية على أرض الواقع، هي تلك الطغمة العسكرية الحاكمة والمنتفعة والمرتبطة بأجندات خارجية. تلك المجموعة من الجنرالات التي لن تترك الحكم قبل أن تستنفد كل ما في جعبتها من سهام مقاومة تسليم الحكم لقوة مدنية، ويبقى نجاح أي نموذج مرتبطًا بالحقائق على الأرض، وإصرار الجماهير، ومؤسسات المجتمع المدني على المضي قدمًا في نموذج انتقال سياسي من العسكرة إلى المدنية الفاعلة.

لا يزال مصير الحراكين الشعبيين في السودان والجزائر منذ شهور، ولا يبدو أن بوادر انتقال سياسي نحو حكم مدني تلوح في الأفق.

ففي السودان، وصلت المفاوضات بين قوى الحرية والتغيير، وأعضاء المجلس العسكري، إلى ما يشبه الطريق المسدود بسبب تعنت المجلس العسكري وإصراره على أن تكون الأغلبية في المجلس الانتقالي للمجلس العسكري ولا تزيد مشاركة المدنيين فيه عن ثلاثة أعضاء.

إثر خروج هذا الخلاف إلى العلن، يبدو أن مواقف المجلس العسكري السوداني بدأت تنحو نحو التصعيد. وهو ما حذَّر منه سايمون تيسدال، المعلق السياسي بصحيفة غارديان البريطانية؛ حيث رأى في مقاله أن الثورات نادرًا ما تمضي إلى نهايات سعيدة، وأضاف أن المؤسسة العسكرية السودانية التي ظلت قابضة على زمام الأمور طيلة ثلاثين عامًا ليس لديها أدنى فكرة في كيفية التعامل مع الاحتجاجات الشعبية السلمية.

أما الوضع في الجزائر فيبدو أكثر تعقيدًا حيث لا وجود لأية قناة اتصال بين حراك الشارع والمؤسسة العسكرية. فلا المتظاهرون اختاروا أو أعلنوا من يمثلهم ولا المؤسسة العسكرية دعت إلى أي حوار.

بشكل مختلف عن السودان، يبدو أن مشكلة الحراك الجزائري أنه لم يتمكن من إفراز قيادة تتحدث باسمه. ورغم ضغط الشارع وحراكه المتدفق إلا أن المؤسسة العسكرية لا تزال متماسكة.

يلخص الحراك الشعبي في الجزائر والسودان الأزمة الحقيقية للدول العربية فبالرغم من الإطاحة برأس النظام كما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا إلا أن المعضلة الحقيقية تبقى رفض الجنرالات التنازل عن الحكم والانتقال لحكم مدني ديمقراطي منتخب.

من جهة، تدعي المؤسسة العسكرية أنها متخوفة من فراغ سياسي يهدد كيان الدولة، والحقيقة أنها تتخوف من تحول ديمقراطي حقيقي يحجِّم دورها، وينتزع الصلاحيات والامتيازات منها، وقد يصل الأمر إلى محاكمة عناصرها. ومن جهة أخرى، تتخوف الجماهير من العودة للمربع الأول إن هي سمحت للجنرالات بالبقاء متمسكة بالسلطة.

ولربما كان تدخل أطراف خارجية تُعرف بدعمها لموجات الثورات المضادة هي أصعب التحديات التي ستواجه الحراكين في البلدين. فقد كانت تلك التدخلات نقمة على موجات الربيع العربي الأول إذ قررت أن تعطي درسًا قاسيًا لشعوب المنطقة المتطلعة نحو الحرية والعدالة والديمقراطية، فبدعمها للجنرالات في مصر استطاعت إعادة إنتاج نظام سياسي موال لها، وتحاول أن تخلق نفس النموذج في ليبيا، ولا شك أنها ما انفكت تحاول أن تعمِّم التجربة على الحراك الجزائري والسوداني.

وتبقى الأيام كفيلة بتبيين: هل نجحت تلك المخططات أم أن الشعبين، الجزائري والسوداني، قد قررا كسر موجات الثورات المضادة؟

خاتمة

ثمة حقيقة دامغة، وهي أن التغيير هو الثابت الوحيد في الحياة، وأن كل تغيير عادة ما يأتي بموجات متعددة. ومما لا شك فيه أن الشعبين، الجزائري والسوداني، قد استوعبا الدرس من موجة الربيع العربي الأولى، وهما مصرَّان على عدم اختطاف ثورتهما، وعدم الرضا فقط باقتلاع رأس النظام.

ولكن تحصين الجزائر والسودان من حكم العسكر لا يزال تحديًا مهمًّا في طريق تكريس نظام حكم أكثر تشاركية، وأكثر استجابة لاحتياجات الشعوب، ينتهي بترسيخ السلطة بيد الشعب، ببناء مؤسسات مدنية واجتماعية ومجالس محلية، وتغيير ثقافي مرافق.

لا يزال التخوف قائمًا من اختطاف المشروع التحرري الشعبي من طرف العسكر، بتمويل من قوى الثورات المضادة، وهو لا يزال يخيم على الجزائر والسودان.

ولكن ما يميز الجزائر والسودان أنهما استفادا من تجاربهما الخاصة وتجارب غيرهما، ويعلمان أنه لابد من تحصين نفسيهما من ألاعيب الثورات المضادة، وأن يتخذا التدابير التي تقيهما شر المشاريع المضادة.

في النهاية، من المبكر الحكم على ما يجري في الجزائر والسودان، ولكن نجاح حراك البلدين السلمي سيعطي بالتأكيد أملًا بإمكانية التغيير في المنطقة دون إراقة دماء وتهجير، وتدمير البلاد

***

 أحمد علي أوغلو: أكاديمي وصحافي مهتم بقضايا الشرق الأوسط.

_____________

مواد ذات علاقة