بقلم ميرفت عوف

طمأن اللواء المتقاعد خليفة حفتر أن العملية العسكرية التي شنتها قواته على بلدات الجنوب الغربي خلال فبراير (شباط) ومارس (آذار) 2019 قد مكنته من السيطرة إلى حد ما على بعض مناطق جنوب ليبيا، فانتقل بعد ذلك إلى معركة طرابلس، وألقى فيها ثقله العسكري.

لكن الرجل الذي سوق جيدًا لهذه السيطرة لديه الكثير من المشاكل التي نجم عنها تلقى قواته في الجنوب – الهش أمنيًا – عدة ضربات وتحديات، لا تقتصر فقط على هجمات «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش، بل وصلت إلى حد الخلاف مع القبائل التي تحالف معها، وكذلك الاقتتال بين القوات المحسوبة عليه.

«داعش» يزعزع قبضة حفتر على الجنوب

في الرابع من مايو (أيار) 2019 كانت قوات معسكر تدريب ـ تابع للكتيبة 160 المنضوية تحت قوات حفتر ـ تؤدي مهامها كالمعتاد قبل أن تباغتها عناصر من تنظيم (داعش) بالهجوم على المقر، وقتل تسعة منهم بالذبح أو الرصاص، ثم اطلاق سراح 200 سجين، من بينهم عناصر من التنظيم.

يشكل الهجوم على سبها ـ التي تبعد عن طرابلس 650 كم ـ جزءًا محدودًا مما أصبح ينال من أجزاء كثيرة في جنوب ليبيا من هجمات (داعش)، حتى أنه بعد خمسة أيام فقط من الهجوم السابق شن التنظيم هجومًا على بلدة غدوة، وقتل ثلاثة أشخاص، وأحرق المجلس البلدي للمدينة، وعددًا من المنازل.

فمنذ انطلق حفتر في معركته للاستيلاء على العاصمة طرابلس في الرابع من أبريل (نيسان) الماضي، وأهل الجنوب الليبي يدركون جيدًا أن (داعش) يتمركزون في أعالي جبال الهروج، التي تقع تحت سيطرة حفتر، ويأتون إليهم وقتما يشاءون، يتجولون بسياراتهم ويلوحون براياتهم السوداء في أكثر من مدينة بجنوب ليبيا.

وذلك بعد أن غير التنظيم تكتيكه القتالي من السيطرة على المدن والمناطق الصحراوية الشاسعة إلى حرب العصابات بالهجوم على البلدان، ثم الانسحاب منها سريعًا؛ لتفادي الخسائر البشرية.

وفيما يقرأ المحللون توسع التنظيم مرة أخرى في ليبيا بأنه ناجم عن استغلاله لمعركة طرابلس، تظهر الوقائع على الأرض أن هذا التنظيم لن يكف عن توجيه ضرباته الخاطفة على خاصرة الجنوب الليبي الرخوة والهشة أمنيًا، حيث وجد في الفوضى الأمنية بالجنوب فرصة لتكثيف هجماته أكثر من أية منطقة أخرى في ليبيا، خاصة أن قوات حفتر تعاني من تباعد بلدات الجنوب، وطول خطوط الإمداد، وتشتت كتائبها في مناطق شاسعة؛ مما يسهل استهدافها في هجمات خاطفة.

يؤكد المحلل السياسي الليبي عماد بلعيد على أن حفتر استغل بعض الخلافات القبلية وقام بتقوية ودعم طرف على الآخر من أجل إحداث نوع من الدعاية بأن قواته تسيطر على الجزء الأكبر من الأراضي الليبية، أما الحقيقة – حسب بلعيد – فهي أن حفتر تسبب في صراع قبلي ـ بالجنوب الليبي ـ سيحتاج لسنوات حتى يتم علاجه، وتعاون مع تجار الهجرة غير الشرعية لإغراق المنطقة الغربية من ليبيا بالمهاجرين غير النظاميين، بالإضافة لما فعله سابقًا بالتحالف مع قوات «العدالة والمساواة» السودانية ومشاركتها معه في حروب بنغازي، والهلال النفطي، والآن طرابلس.

ويشدد بلعيد ـ خلال حديثه لـ«ساسة بوست» ـ على أن ما سبق كان من الطبيعي أن يستغله بقايا (داعش) المطرودة من سرت، والتي تنتشر خلاياها في الجنوب، وتقوم بعمليات على البلدات الصغيرة هناك، والتي تعجز قوات حفتر عن تأمينها بسبب الدفع بكل قواته في حربه على طرابلس، بالإضافة إلى إعاقة جهود حكومة الوفاق الوطني لتأدية دورها الطبيعي.

إنفراط عقد التحالف مع فلول القذافي

حاولت القوات التابعة لحفتر إظهار عملية قتل قائد «اللواء 26»، العميد مسعود الضاوي ورفاقه ـ من أنصار نظام القذافي ـ في يوم 23 مايو 2019 وكأنها وقعت بمناطق الاشتباكات في محور عين زارة جنوب طرابلس، حيث تدار المعارك هناك للسيطرة على العاصمة.

لكن الدلائل سرعان ما أظهرت أن الرجل ورفاقه قتلوا في منطقة «فم الملغة» في الحدود الإدارية لمدينة ترهونة، وأن الجثامين قد تلقت طلقات متعددة من سلاح «بي كي تي». بيد أنه قبل أن يهدأ احتقان قبائل ورشفانة (ينتمى لها الضاوي) التي اتهمت مليشيات حفتر في ترهونة باغتيال ابنها ورفاقه؛ خرجت اعترافات آمر «لواء الشهيد محمد المدني» بالزنتان غربي ليبيا، إبراهيم المدني، لتؤكد في تسجيل مصور بأن قادة تابعين لحفتر طلبوا منه اغتيال سيف القذافي.

لذا شكلت الحادثتان دلائل على وجود انعدام للثقة بين شخصيات محسوبة على نظام القذافي متحالفة مع حفتر، كانت قد سعت لحشد الدعم المسلح لحفتر بين قبائل الجنوب، وخاصة القبائل الموالية للقذافي.

ويزيد خطر هذا الخلاف مع معرفة أن قوات حفتر تتشكل في الأساس من خليط غير متجانس، موزع على عدة جبهات؛ ما يعني أن اشتعال هذه الجبهات في آن واحد يأتي على حساب جبهة على أخرى، وأول جبهة يتوقع خسارتها هي مدن الجنوب الهشة أمنيًا، ناهيك عن أن الجنوب بمساحته الشاسعة يسهل فيه فقدان السيطرة والتحكم في تمركزات هامة، وفقدان خطوط الإمداد للقوات.

حتى أن زيادة الهجمات من قبل كتائب التبو المدعومة من المعارضة التشادية المسلحة – كما سيأتـي الذكر – وهجمات (داعش)، دفعت حفتر  إلى إرسال تعزيزات إلى الجنوب كانت تشارك في معركة طرابلس، إذ يتخوف الرجل من فقدان السيطرة على  منطقة الهلال النفطي، والتي تتواجد بها الموانئ النفطية.

بيد أن أخطر ما نجم عن هذه الخلافات هو: حالة نزاع عسكري، إذ تتحدث مصادر ليبية عن وجود خلافات بين كتائب متحالفة مع حفتر على توزيع الذخائر والرجال على محاور القتال في معارك طرابلس، كالخلاف الذي وقع بين «اللواء التاسع» من مدينة ترهونة (المنطقة الغربية)، وكتائب من مدينة أجدابيا (المنطقة الشرقية)

هذا الخلاف دفع الأخيرة إلى سحب 20 آلية برجالها من محاور القتال والعودة بهمه إلى أجدابيا، إذ من السهل أن يؤدي طول فترة المعركة في طرابلس، واحتكاك هذه الكتائب فيما بينها، بما تمثله من تناقضات جهوية وقبلية وإيديولوجية، إلى تفجر الصراع بينها من الداخل.

قبائل الجنوب الليبي وحفتر.. «للصبر حدود»

إذا ما مررت في شوارع مدينة مرزق ـ 180 كيلو مترًا جنوب غرب سبها ـ فإنه من الطبيعي أن ترى عناصر كتيبة «خالد بن زياد» التابعة لحفتر منتشرين في طرقات المدينة بسياراتهم العسكرية وكامل عتادهم الحربي.

المشهد الذي قد يشي بأن الأمن هنا مستتب، والأوضاع الأمنية مُسيطر عليها.

لكن الأهالي وحدهم يعلمون أن هذا الانتشار ناجم عن الخوف من عمل انتقامي من الأهالي الذين زاد احتقانهم بسبب تنفيذ قوات حفتر لجرائم تصفية واعتقالات قسرية بحقهم منذ يناير (كانون الثاني) الماضي.

الصورة السابقة للوضع في جنوب ليبيا ناجمة عن الفوضى الأمنية بفعل الاختلافات القبلية، التي حاول حفتر الاستفادة منها في إحكام قبضته على الجنوب، ثم خرجت الأمور عن سيطرته.

فالرجل ـ الذي يعي أن أيّة ثورة في الجنوب ستمتد نتائجها حتى إنهاء مشروعه العسكري في الغرب والشرق ـ يهدد إحكام سيطرته على الجنوب عامل الوقت الخاصة بمعركة طرابلس.

إذ إن الكتائب التي سترفض تقديم المزيد من الضحايا تشكلت على أسس قبلية تحكمها مصالح جهوية، من الطبيعي أن تتضارب مع امتداد الوقت؛ لكونها غير مندمجة وفق عقيدة قتالية موحدة.

وفيما يخص القبائل فلم يستطع حفتر نزع ولائها له في الجنوب، فقبل أن يذهب الرجل إلى معركته في طرابلس كان قد شن عملية عسكرية تحت ذريعة تطهير «التنظيمات المتطرفة وعصابات التهريب»، فاعتبرتها إحدى أكبر القبائل بالجنوب الليبي (قبيلة التبو) تهدف إلى تطهيرها العرقي وإبادتها، متهمة حفتر بالاستعانة بقبائل لها عداءات قديمة معها لقتالها، كقبيلة أولاد سليمان وقبيلة الزوية.

وتتصاعد مخاطر هذه الخلافات القبيلة مع زيادة مساحة الجنوب الليبي على 500 ألف كيلومتر مربع، يعيش فيها طيف قبلي متنوع، حتى أن حفتر اضطر مع اشتداد الضربات على قواته في الجنوب لسحب «كتيبة خالد بن الوليد» من جبهات القتال في طرابلس للتوجه إلى مرزق في أقصى الجنوب لصد الهجوم الذي أخذ طابعًا قبليًا وانتقاميًا، وشنته كتائب التبو على المدينة.

يقول الإعلامي الليبي ياسين خطّاب: «إن حفتر لم يتمكن من السيطرة علي الجنوب بشكل كامل أو يؤمنه، خاصة وأن تأمين الجنوب له علاقة بتفاهمات مع دول الجوار باعتبارها رقعة شاسعة تحتاج حدًا أدنى من التفاهم بين القبائل المتواجدة فيها، وهو ما يجعل تأمينه مكللًا بالتحديات الداخلية والخارجية، ويتجاوز الشق الأمني البحت إلى مسألة سياسية تخضع لاعتبارات دولية».

ويوضح خطّاب لـ«ساسة بوست» أن فشل حفتر في جنوب ليبيا يعود إلى أنّ مطامعه منذ أن دخله كانت منصبة نحو طرابلس، وكان يريد فقط أن يؤمن الجنوب من أجل ضمان التحرك في طرابلس.

ويعقب خطّاب بقوله: «في ظل ذلك تبدو الهجمات الأخيرة وهمية، إلا من تصريحات فارغة لحفتر بأنّه استطاع أن يُحرر الجنوب ليتمكن من الوصول إلى طرابلس. وقد بدا ذلك جليًا بعد الهجومات المتكررة، بالإضافة إلى خروج القوات المناهضة لحفتر، التي ما انفكت تعلن رفضها لسياساته ولوجوده».

مضيفًا: «إن الأمر ليس كما يُصوّر؛ فالجنوب من أكثر المناطق تهميشًا وظلمًا، ليس في حرب ليبيا فقطـ وإنما في أي حرب تُخاض في أية بقعة من العالم».

وهو ما أسماه خطاب: «لعنة الجنوب تجاه الشمال».

***

ميرفت عوف ـ صحفية فلسطينية، حاصلة على ماجستير إعلام

_________

مواد ذات علاقة