بقلم علي أبوزيد

رفض الحرب على العاصمة طرابلس لا يمكن اعتباره موقفاً سياسياً بقدر ما يمكن اعتباره موقفاً إنسانياً يتفق عليه جميع العقلاء.

ويتأكّد هذا الأمر إذا كان الذي يصرّ على هذا الموقف كياناً سياسياً يعوّل عليه في ترسيخ مدنية الدولة التي تعتبر بيئته التي لا يستطيع أن يعمل إلا فيها.

ولا يمكن بحال أن يكون رفضه للحرب فقط هو الموقف السياسي الذي يبني عليه توجهاته ومبادراته غاضاًّ الطرف عن سياقات الحرب ومبرّراتها، لأن وصف الدواء دون البحث في أسباب الداء ليس إلا نوعاً من العبث، وهو في السياسة ضجيج وضوضاء تسجل بها المواقف الفارغة ليس إلا.

المبادرة التي قدّمها تحالف القوى الوطنية لوقف الحرب على طرابلس مبنية على مغالطة كبيرة هي ادعاء الحياد الرافض للحرب فقط، فمهما تذرّع التحالف بموقف الحياد المتستر برفض الحرب، فإنه بهذا الحياد الجديد يؤكد على انحيازه القديم لمشروع الكرامة.

ذاك الانحياز الذي أخرجه من دائرة التأثير السياسي بعد تغول الكرامة وإصرار حفتر على أن يكون أيقونة المشروع الوحيدة التي يتلاشى تحت وهجها كل بريق، وإن كان بريقَ العبقرية للألمعي الدكتور محمود جبريل.

وها هو التحالف اليوم يقدم مبادرة يحاول من خلالها إعادة تموضعه في المشهد السياسي في حالة ترنّح بين مشروع الكرامة الاستبدادي، والتيار الوطني المصطف من وراء المجلس الرئاسي للدفاع عن مدنية الدولة وتضحيات الليبيين من أجل حريتهم وآمالهم في أن يكون لهم دولة الدستور والقانون والمؤسسات.

هذا الترنّح الذي لن يلبث حتى يرتمي في أحضان العسكر مرة أخرى بعد أن فعلها في 2014.

الانطلاق في هذه المبادرة من التداعيات الآنية وما يتوقع لها من عواقب دون النظر في السياق الذي اندلعت فيه وكيف أن حفتر هو الذي نسف العملية السياسية ورفض مبدأ المشاركة فيها ولو كان له في النصيب الأوفر.

محاولة استغلال حالة الجمود العسكري لتقديم مبادرة تدعي احترام مواقف الطرفين (وهي في الحقيقة تساوي بين المدافع والمعتدِي)، هذه المبادرة تؤكد على حالة الإرجاف والتذبذب (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) التي يعانيها التحالف.

وهذا ما يفسر البُعد الحالم وغير الواقعي الذي بنيت عليه هذه المبادرة من خلق منطقة عازلة بين الطرفين تكون فيها قوة مشتركة منهما قوامها 10 آلاف تتولى قيادتها قيادة ميدانية على الأرض، ولا أعتقد أن مدرِكاً لواقع ما يجري على الأرض وتداخل البعدين الجغرافي والاجتماعي فيه، إضافة لحدة الاستقطاب والانهيار التام للثقة يقول بمثل هذا.

ثم إن الحياد المجحِف الذي تنطلق منه مبادرة التحالف والذي يسقط حق المجلس الرئاسي في الدفاع عن العاصمة طرابلس، وإنكاره لشرعية المجلس الرئاسي وحكومته من خلال إصراره على ترسيخ وجود حفتر في المشهد كأمر واقع ليس إلا تبريراً لإجرامه وشرعنة لعسكرة الدولة،

بل يتعامى عن حقيقة أن حفتر لا يؤمن بمبدأ الشراكة السياسية ولا بالممارسة الحزبية، وهو ما يفسر غياب التحالف عن مدينة بنغازي والمنطقة الشرقية حيث لا وجود إلا لمشروع الكرامة.

قد يقول قائل: إن الحياد هنا ضروري لجعل المبادرة مقبولة لدى الطرفين، ويمكن الرد على هذا بتساؤل أكثر إلحاحاً هو:

هل تحالف القوى الوطنية يمكن قبوله كوسيط يبادر للحل؟

والجواب عن هذا بسيط:

لا يمكن ذلك؛ لأن التحالف لا يملك من النفوذ ما يجعله مؤثراً على أطراف النزاع أو قادراً على تجاوز أحدها، وحياده الذي يدعيه ومبادرته ليسا إلا مناورة في المشهد السياسي يثير بها الجلَبة ويجتذب الأضواء بعد أن طال بقاؤه في الظل.

ومهما ادعى التحالف صدقه في حياده فإنّ من ورائه انحيازاً للعسكر يدفعه إلى ذلك تآكل شعبيته التي تجعله متخوفاً من المشاركة في عملية سياسية مؤطرة بالدستور تسع كل التوجهات وتحتكم إلى صندوق الانتخاب واختيار الشعب.

إن الأولى بالتحالف وهو الذي يرفع شعار المدنية أن يكون في طليعة المدافعين عنها، وأن يكون أكثر الكيانات السياسية وضوحاً في موقفه الرافض لعسكرة الدولة وعودة الاستبداد، لا أن يكون من سدنته، أو تيساً محلّلاً يبادر ليرجعه إلى العملية السياسية.

***

علي أبوزيد ـ كاتب ليبي

_________

مواد ذات علاقة