بقلم نهى أبو الدهب

على مدار عقد منذ الانتفاضة التي أطاحت بالقذافي، لم يتحقق سلام ولا عدالة في ليبيا. فالعدالة باعتبارها مجال سياسي واسع هي جزء لا يتجزأ من عملية الانتخابات وبناء الدستور والاستقرار والأمن وتوزيع الموارد.

وبرغم ذلك، تبقى اعتبارات العدالة غائبة إلى حد كبير عن محاولات بناء السلام في ليبيا.

الجزء الثالث

المصالحة والمسار التشاوري للملتقى الوطني

بالنظر إلى النزاع المستمر والتفتت السياسي، لن يمكن للعدالة –ولا ينبغي لها على أي حال– أن تكون “سريعة أو ناجزة”، كما لا يجب أن تُفسر بشكل صارم على أنها عدالة جنائية أو تقاضي جنائي.

الفهم المحدود لما يشكل “العدالة” يؤدي إلى تعليق العمل من أجل العدالة الانتقالية ككل ودون داعٍ حتى تبدأ الظروف السياسية والاجتماعية المثالية في الظهور –وهي ظروف من المحتمل أن تأخذ سنوات حتى تتطور.

على الرغم من ذلك، يوفر المسار التشاوري للملتقى الوطني فرصة نادرة لضمان تلبية احتياجات العدالة المعقدة للمجتمع الليبي في الوقت الذي تكافح فيه البلاد للتحول نحو السلام وبناء الدولة.

لكن تقرير المسار التشاوري للملتقى الوطني لا يوضح بما فيه الكفاية ماهية توقعات العدالة هذه. وهو ما يعد أمرًا مخيبًا للآمال إلى حد ما؛ وذلك نظرًا للمسار التشاوري التي كُتب من خلاله التقرير النهائي الذي نُشر في نوفمبر 2018. حيث شملت هذه العملية 77 اجتماعًا تحضيريًا في 43 موقعًا داخل ليبيا وخارجها، بمشاركة حوالي 7000 ليبي.

فبينما يزعم التقرير أنه كُتب بمشاركة “كل فئات المجتمع” الليبي، إلا أن ربع المشاركين فقط كانوا من النساء. على الرغم من ذلك، وصلت وسائل الإعلام المحلية وحملات وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما يقرب من 1.8 مليون ليبي.

وبغض النظر عن الأسئلة المتعلقة بمستوى المشاورات وطبيعتها التشاركية، يصف التقرير النهائي للمسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي “المصالحة” تحديدًا باعتبارها واحدة من النقاط المفتاحية أو المبادئ الرئيسية التي يتعين التعامل معها بمجرد انعقاد المؤتمر الوطني.

ومع ذلك، فمن غير الواضح ما المقصود بالمصالحة الوطنية كما أن الفترة الزمنية التي ستعالجها هذه المصالحة تظل غامضة. فضلًا عن وجود تأكيدات متعددة في التقرير على رفض التدخل الأجنبي وأي دور للجهات الفاعلة الدولية –حتى كمراقبين– في الانتخابات

على سبيل المثال، ورد في التقرير أنه “يجب تحقيق المصالحة الوطنية، بناءً على الممارسات والقيم الليبية التقليدية مع احترام مطالب العدالة. يجب أن تكون عملية المصالحة خالية من التدخل الأجنبي”.

في الوقت نفسه، يؤكد التقرير على رغبة المشاركين في أن تكون الأمم المتحدة والمجتمع الدولي شريكين في تسهيل عملية المصالحة والإشراف عليها “يمكن للسلطات الليبية والمجتمع الدولي المساعدة في ضمان الوفاء بشروط نجاح عمليات المصالحة الوطنية هذه”.

إن التناقض الصارخ بين الفقرتين المذكورتين أعلاه فيما يتعلق بالتدخل الدولي والتدخل الأجنبي يؤكد الحاجة إلى تحديد الكيفية التي يريد بها الليبيون أن يربطوا بين “التدخل” الأجنبي و”الدعم” للمصالحة الوطنية في ليبيا.

ولا تعد تلك النقطة مجرد تفصيلة، بل إنها سؤال هام؛ خاصةً مع ملاحظة عدد المرات التي حذر فيها التقرير من التدخل الأجنبي.

علاوةً على ذلك، فإن “الممارسات والقيم الليبية التقليدية”، و”مطالب العدالة”، و”عمليات المصالحة الوطنية” هي عبارات مبهمة، تُذكر دون أي تفسير للمقصود منها، وستكون عرضة لمختلف الجهات الفاعلة التي تتنافس من أجل السيطرة في ليبيا لتفسرها على هواها.

استخدام هذه المصطلحات دون تحديد أو تفصيل يفترض أنها مفهومة بالشكل نفسه لدى الجميع، لكن كما يتضح من عمليات العدالة التي بدأت في أعقاب انتفاضة 2011، أ، هذا غير صحيح.

كذا تظل الإشارة إلى كيفية معالجة ماضي ليبيا –وأي جزء من هذا الماضي بالتحديد– غامضة أيضًا. يجد تقرير حزب المؤتمر الوطني أن الليبيين يعتقدون أن جهود المصالحة “من المرجح أن تنجح إذا تأمل المسئولون عن العملية في تراث أجداد ليبيا وعاداتهم وتقاليدهم، وإذا تم الجمع بين جهود كبار السن والشباب الليبيين”.

من غير الواضح ما الذي ستستتبعه عملية التأمل هذه بالضبط، ولا ما هو المقصود من الجمع بين جهود “كبار السن” وجهود “الشباب” في ليبيا. يؤكد التقرير أيضًا على أهمية “الشهامة والتسامح مع جرائم الماضي”، ويلاحظ أن “ليبيا لديها تاريخ من المصالحة والعفو والصفح”.

 ومع ذلك، يستثني التقرير بوضوح الجرائم ضد الإنسانية، ويؤكد أنها تتطلب “العدالة” وليس “الإفلات من العقاب”. لا يشرح التقرير الإطار الزمني الذي ستطبق عليه هذه “العدالة” ويشير بدلًا من ذلك بغموض إلى الحاجة إلى المصالحة عن “الجروح التي لحقت بالليبيين… على مدى السنوات الثماني الماضية وما قبلها”.

على الرغم من أوجه القصور هذه، يحدد التقرير الإجراءات الرئيسية التي أبرزها المستشارون على أنها ضرورية للمصالحة. فهو يدعو أولًا إلى عفو عام عن “فترة النزاع” (من المفترض أن النزاع هنا يشير إلى التطورات منذ انتفاضة 2011). وتشمل الإجراءات الأخرى إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، وضمان العودة الآمنة للنازحين، وتوحيد المؤسسات العسكرية والأمنية مع نزع سلاح “الميليشيات الخارجة عن القانون”.

ولكن مع كل هذا، فإن هناك مخاوف من فشل الجهود المبذولة لإحلال سلام دائم في ليبيا؛ إذا لم تقترن تلك الجهود برؤية وأهداف شاملة تتناول المصالحة والعدالة والسلام في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة.

يمثل توزيع الموارد قضية حيوية في ليبيا، كما تؤكد ذلك نتائج مشاورات المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي.

هنا، يجب أن تكون مسائل العدالة الاجتماعية جزءً لا يتجزأ من نهج العدالة المتكاملة الذي يتم دمجه في جميع مجالات السياسة الخمسة المحددة في التقرير: الأولويات الوطنية والحكومية، الأمن والدفاع، توزيع السلطات والموارد، العمليات الدستورية والانتخابية، وأخيرًا المصالحة الوطنية. وكما يلاحظ خوان مينديز وجيريمي كيلي، فإن “أي وساطة ناجحة للسلام يجب أن تتضمن كلًا من العناصر القضائية وغير القضائية”.

يدعم المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي ضمنيًا هذا التوجه، لكن يجب أن تتضح بنودها أكثر خلال الفترة المتبقية من المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي.

أخيرًا، يبرز التقرير “صراحةً” مناقشات التشاور والأهمية التي يوليها المشاركون “للعملية النفسية” وليس فقط التعويض المادي لعائلات الضحايا.

 ومع ذلك، ليس من الواضح الكيفية التي يتبعها المشاركون في رؤية تلك القضايا التي تم تناولها.

هل يجب عليهم إنشاء لجنة للحقيقة؟

ما هو مدى الفترة الزمنية التي ستنظر فيها لمعالجة مآسيها؟

وما هي سبل الانصاف الفورية التي سيتم توفيرها للضحايا؟

المضي قدمًا: نهج متكامل للسلام والعدالة في ليبيا

يناقش هذا المقال أسئلة ليست بالسهلة، خاصةً بالنظر إلى الانقسامات العميقة وعدم وجود سلطة مركزية للسيطرة على حالة انعدام الأمن المتفشية. لا غرابة في أن التقرير يعطي الأولوية للأمن.

ليس من الممكن التعامل مع العدالة بجميع أشكالها –بما فيها العفو والتقاضي والمصالحة والتعويضات ولجان الحقيقة– على أنها فئة أو مجال سياسي منفصل ومعزول، بينما يبدأ الليبيون في إعادة بناء دولتهم، ومعالجة التحديات الأمنية والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي واستعادة ترابط النسيج الاجتماعي.

إن الدراسة المتعمقة لكيفية دمج العدالة في جميع مجالات السياسة الخمسة التي يحددها المسار التشاوري من شأنها أن تعزز احتمالات تحقيق سلام أكثر استدامة، بالإضافة إلى خلق إطار عمل قانوني مناسب للسياق الليبي.

على الرغم من التناقضات فيما يتعلق بدور الدعم الدولي والرفض المتكرر “للتدخل الأجنبي” في المسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي، من المنتظر أن تكشف المشاورات عن الأهمية التي يعلقها الليبيون على تشكيل عملية المصالحة الوطنية التي تناسب احتياجاتهم.

لسوء الحظ، فإن التشرذم على الصعيدين المحلي والدولي –حيث تتنافس النخب السياسية من أجل السيطرة السياسية والدبلوماسية، مع تجاهل التفكير في ضحايا ليبيا في عهد القذافي وفترات ما بعد القذافي– يعني أن العدالة لن تتحقق إلا عندما تخدم مصالح الدول والجهات الفاعلة المتعددة.

 يجب أن نتعلم الدرس من الاضطرابات الحالية في اليمن، حيث لم يسفر تهميش “العدالة” بجميع أشكالها، وخاصةً باسم “السلام”، عن نتائج إيجابية. جزء من المشكلة هو الوصمة أو الجدال الذي يثيره مصطلح “العدالة”، لا سيما بين النخب السياسية التي تخشى أن تُحاسَب على الجرائم التي قد تكون تورطت فيها سابقًا.

يكمن التحدي هنا في توسيع معني العدالة بحيث لا يقتصر على العناصر القضائية، وحتى يشمل مفاهيم مثل المصالحة والعدالة الاجتماعية، كما ينبغي الاعتراف بأن العدالة مجال سياسي عريض وواسع وجزء أصيل من الانتخابات وعمليات بناء الدستور وتحقيق الاستقرار والأمن وتوزيع الموارد.

ينبغي كذلك ألا يكون التركيز الأكبر على الملاحقات القضائية الانتقامية، بل على استعادة الأمن، واستمرار الحوار الشامل، وإظهار الحقيقة، وهي كلها خطوات أولية أساسية نحو المصالحة في ليبيا.

إذا كان المؤتمر الوطني جاد في التزامه باتخاذ تدابير ذات فرص نجاح أفضل، فمن الضروري أولًا توضيح ما يتوقعه الليبيون من مفاهيم “المصالحة” و”العدالة” و”السلام”.

***

نهى أبو الدهب هي زميلة في مركز بروكنجز الدوحة وبرنامج السياسية الخارجية بمعهد بروكنجز ومتخصّصة حائزة على جائزة في مجال العدالة الانتقالية في المنطقة العربية.

__________________

مواد ذات علاقة