بقلم عبدالحميد صيام

تعتمد الأمم المتحدة في محاولاتها فض النزاعات بين الدول أو بين مكونات الدولة الواحدة، مجموعة من الآليات نص عليها الفصل السادس لميثاق الأمم المتحدة الذي يؤسس لمنظومة متكاملة من الآليات التي يمكن اختيار واحدة منها أو اثنتين للتعامل مع الأزمات المتفجرة أو الكامنة.

تنص المادة 33 من الميثاق على: “يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضات والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجأوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها”.

كما يعطي الفصل نفسه مجلس الأمن حق التحقيق في أسباب النزاعات وتقديم توصيات لحلها. أما إذا كان النزاع قانونيا مثل خلافات على ترسيم الحدود أو ملكية الجزر أو السيادة على منطقة معينة فيمكن أن تعرض المسألة على محكمة العدل الدولية.

وحسب البند 99 من الميثاق فمن حق الأمين العام أن يلعب دورا في درء الصراعات وتنبيه مجلس الأمن بالأزمات المرشحة للانفجار.

وقد توسع الأمين العام الأسبق بطرس غالي في الكتيب الذي قدمه في الستة أشهر الأولى من ولايته بعنوان “خطة للسلام” توسع في موضوع الدبلوماسية الوقائية وتحويل الأمم المتحدة إلى دور الإطفائي الذي يضع عدة وسائل واقية ومنبهة لشم الحريق واحتوائه قبل استفحاله، بدل أن تلعب دور الشرطي الذي ينتظر انتهاء الجريمة ويصل متأخرا ليكتب تقريرا.

وقد جرب بطرس غالي هذه السياسة الوقائية في دولة مقدونيا التي انفصلت عن يوغسلافيا فكادت تنشب حرب بينها وبين يوغسلافيا من جهة بسبب الانفصال كما حدث مع كرواتيا والبوسنة والهرسك، وحرب أخرى مع اليونان لأنها استخدمت اسم (مقدونيا) الذي يعتبر رمزا لتاريخ اليونان وعراقته تجسد في الاسكندر المقدوني الذي روض العالم بسيفه آنذاك.

قام بطرس غالي بنشر قوة حفظ سلام وقائية، هي الأولى من نوعها، فأصبح اجتياح مقدونيا صعبا لأن ذلك سيمر على جثث أكثر من 2000 من أصحاب القبعات الزرقاء وهو أمر مستعبد ولذلك نجت البلاد من حرب مدمرة وبقيت الوساطة بين اليونان ومقدونيا مستمرة إلى أن حلت بالطرق السلمية في اتفاقية بين الطرفين في حزيران/يونيو 2018 وأصبح اسمها رسميا على المستوى الدولي جمهوية مقدونيا الشمالية بداية من شباط/فبراير 2019.

من صراع عبر الحدود إلى صراع داخلها

في الأربعين سنة الأولى من عمر الأمم المتحدة كان النزاع السائد بين الدول المتجاورة وغير المتجاورة، مثل الهند وباكستان، ومصر وكل من إسرائيل وفرنسا وبريطانيا، وفييتنام والولايات المتحدة والعراق وإيران، وغيرها الكثير.

أما بعد نهاية الحرب الباردة فانتقل الصراع ليكون بين مكونات الدولة الواحدة التي تضم عدة شعوب وجنسيات، حيث بدأ التفكك يظهر مع انهيار الاتحاد السوفييتي الذي انفرط عقده ليكون 15 دولة فاستعرت داخل هذه الدول صراعات جديدة مثل جورجيا وأوكرانيا والشيشان.

وقسمت يوغسلافيا إلى 6 دول وإقليم كوسوفو نشبت فيها صراعات وارتكبت مجازر بشعة.

كما تفجرت صراعات بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ وانشقت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين بينما توحد شطرا الألمانيا واليمن، وانسلخت إريتريا عن إثيوبيا وانقسم الصومال إلى شطرين.

نشطت الأمم المتحدة في فترة ما بعد الحرب في نشر قوات حفظ السلام وقوات الحماية وإرسال المبعوثين الخاصين والوسطاء الدوليين وفرق التحقيق ولجان تقصي الحقائق.

لقد تكونت لدى المنظمة الدولية خبرة متراكمة حول الوساطة في النزاعات ودور الوسيط الدولي الذي يعمل مع أطراف النزاع لاحتواء الأزمة والتوصل إلى حلول سلمية تنقل البلاد إلى مرحلة الهدوء فالاستقرار فإعادة الإعمار فالتنمية.

هكذا انتهت النزاعات في ناميبيا وكمبوديا وتيمور الشرقية ونيكاراغوا والسلفادور وهايتي وليبيريا وسيراليون وبوروندي ورواندا والبوسنة ووالهرسك وكوسوفو وغيرها.

الاستثناء للقاعدة هي المنطقة العربية، فلا النزاعات القديمة حلت ولا النزاعات الجديدة. فما زالت على أجندة الأمم المتحدة تسع قضايا شائكة هي: فلسطين وسوريا ولبنان والعراق واليمن والصومال والسودان وليبيا والصحراء الغربية. ولنأخذ ليبيا مثالا على النزاعات المستعصية.

ليبيا وتبدل المبعوثين

قد تكون المسألة الليبية من أعقد القضايا المطروحة على جداول أعمال الأمم المتحدة. فهي بلاد شاسعة وعدد سكانها قليل. وفيها حكومة معترف بها في طرابلس وبرلمان شرعي في طبرق/البيضاء.

وقد تركت 41 سنة من الحكم الفردي المطلق بلادا لا مؤسسات فيها ولا أحزاب ولا مجتمعا مدنيا ولا جيشا مهنيا ولا قوة شرطة متماسكة. فدلفت البلاد مبكرا نحو الفوضى وتشكلت الميليشيات العديدة التي اقتطعت لنفسها منطقة نفوذ.

وقفز جنرال متقاعد تم تأهيله في الخارج ليلملم بقايا وحدات عسكرية أطلق عليها اسم “جيش ليبيا الوطني” وفرض على برلمان طبرق تأهيله ورفع رتبته إلى مشير وشبّك علاقات مع دول الجوار مبكرا لضمان وصول السلاح والمال.

وأصبحت ليبيا منطقة نزاع إقليمي ودولي حيث تحول النزاع من ليبي ليبي إلى صراع محاور إقليمية ودولية. واستمر مجلس الأمن يصدر القرارات والبيانات الرئاسية تقريبا بالإجماع ولكن على مستوى الممارسة تقوم بعض دول المجلس دائمة العضوية بدعم طرف ضد الآخر.

أنشأت الأمم المتحدة بعثة خاصة بليبيا بتاريخ 16 أيلول/سبتمبر 2011 تحت اسم “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” بهدف نقل البلاد إلى الاستقرار عبر التوصل إلى وثيقة ينجزها الليبيون أنفسهم بالتراضي والحوار لعبور المرحلة الانتقالية إلى الدولة المدنية الحرة المستقلة التي يحكمها القانون وتحسم الانتخابات النزيهة تشكيل السلطتين التشريعية والتنفيذية.

تناوب على منصب ممثل الأمين العام الخاص بليبيا ستة من الدبلوماسيين المميزين وهو أعلى من عدد المبعوثين إلى اليمن الذي بلغوا ثلاثة وسوريا الذي وصل عددهم أربعة.

والمبعوثون الستة هم: عبد الإله الخطيب من الأردن، وطارق متري من لبنان ويان إيغلاند من النرويج، وبرناردينو ليون من إسبانيا ومارتن كوبلر من ألمانيا وأخيرا غسان سلامة من لبنان.

وكانت إنجازات المبعوثين الأولين الخطيب ومتري هو احتواء الصراع والإشراف على الانتخابات التشريعية بين عامي 2012 و2014. ثم قام برناردينو ليون بإنجاز وثيقة الصخيرات المهمة مع طيف واسع من الليبيين وتم التوقيع عليها بتاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر 2015 في المدينة المغربية ثم قام مجلس الأمن باعتماد الوثيقة بالإجماع بتاريخ 23 كانون الأول/ديسمبر أساسا لحل الصراع في القرار 2259 ليكون خريطة طريق لنقل البلاد إلى الاستقرار.

وقد كلفت الأمم المتحدة إثنين من المبعوثين الخاصين للعمل على تنفيذ اتفاقية الصخيرات وهما الألماني مارتن كوبلر واللبناني غسان سلامة. لكن ليبيا ما زالت تواجه نزاعا أقرب إلى الحرب الأهلية وصل إلى حدود مدينة طرابلس التي تحوي ثلث سكان البلاد.

ولكي تنجح الوساطة الأممية هناك مجموعة شروط نصت عليها وثيقة الأخضر الإبراهيمي التي قدمها لمجلس الأمن عام 2000 واهمها:

أن يكون مجلس الأمن موحدا في دعم الوساطة الدولية ونشر قوات حفظ السلام إذا تطلب الأمر ذلك.

أن توفر الأمم المتحدة كافة الإمكانيات اللوجستية والسياسية لإنجاح الوساطة.

أن يكون هناك جدول زمني محدد قابل للقياس، أي أن تكون هناك خريطة طريق منضبطة لجدول زمني يتم تحقيق إنجازات في كل مرحلة تتوح بإنجاز عملية المصالحة وبدء عملية إعادة الإعمار.

أن يكون هناك تعاون من قبل أطراف الصراع – وأن يكون لدى مجلس الأمن استعداد لفرض عقوبات حقيقية على من يعطل عملية السلام ويعبث بأمن البلاد.

وأخيرا أن لا تكون هناك تدخلات خارجية لدعم طرف على حساب طرف آخر مما قد يعطل سير العملية السياسية أو يفشلها تماما.

مراجعة بسيطة لهذه الشروط تشير إلى أن المشكلة ليست في المبعوثين الدوليين في ليبيا، بل في توفر الشروط الأخرى وخاصة وحدة مجلس الأمن لدعم الوساطة ووقف التدخلات الخارجية.

وما دام هناك طرف في ليبيا يعتقد أنه سيحسم الصراع بالقوة المسلحة ويجد من يدعمه في هذا التوجه لا نتوقع أن نرى حلا سلميا قريبا للنزاع في ليبيا.

لعل مذبحة تاجوراء مساء الثلاثاء الماضي تكون بداية التحول نحو وحدة مجلس الأمن ووقف التدخل الخارجي. ولن يتردد عندها غسان سلامة في تنفيذ خريطة الطريق التي عرضها على مجلس الأمن والتي تبدأ بعقد مؤتمر حوار وطني شامل تنبثق عنه لجنة دستورية ثم تقوم البلاد بانتخاب برلمانها ورئيسها قبل نهاية هذا العام.

فهل مسموح للشعب الليبي أن يتجاوز المحنة؟

***

عبدالحميد صيام – الباحث في الشؤون الإمريكية، ومحاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز في نيوجرسي الأميركية

___________

مواد ذات علاقة