بقلم مرتضى الشاذلي

مرةٌ على مدينة مُرزق أقصى جنوب ليبيا، وأخرى على زوارة ومطارها الذي يبعد عن العاصمة طرابلس نحو 120 كيلومترًا غربًا، وثالثة على مصراتة ثالث أكبر التجمعات السكنيّة الليبية كثافة في عدد السكان.

ماذا يريد اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر وقواته التي تقصف هذه المواقع فتدمر قبل أن تنسحب؟

وماذا يريد من مصراته، بوابة طرابلس الشرقية؟

ولماذا يقصف المطارات المدنية ويدَّعي أنها مطارات عسكرية؟

تحمل السطور التالية الإجابة عن هذه التساؤلات، في محاولة للبحث عن دلالات لجوء حفتر المتزايد لقصف المرافق المدنية وتزامن ذلك مع تراجع قواته على الأرض في الغرب الليبي ومدى قدرة اللواء المتقاعد على الصمود في الغرب الليبي في ضوء تطورات الميدان والإدانات الأممية المتكررة لقصفه الجوي.

استهداف المدنيين .. ماذا يريد حفتر؟

مرة بعد مرة تخفق قوات حفتر في تحقيق الهدف الذي من أجله اقتربت من العاصمة الليبية طرابلس، فمنذ أكثر من 4 أشهر، تحاول قوات الجنرال الليبي المتقاعد اقتحام العاصمة لكنها تفشل في كل مرة، فلا تقدم يُذكر إلا تقدم أعداد القتلى والجرحى من قوات حفتر وقوات حكومة الوفاق الوطني، ولا حوار إلا عبر فوهات البنادق والمدافع.

آخر مرة حاولت فيها قوات حفتر التقدم صوب طرابلس كانت من جهة جنوبها الشرقي، وتحديدًا من محور الزطارنة، لكنها مُنيت بخسائر فادحة، وخصوصًا في الآليات والعتاد، وهو ما أكدته مصادر عسكرية بقولها مقاتلو الحكومة دمروا عربات عسكرية معادية وأجبروا قوات حفتر على التراجع إلى مواقعها على مشارف مدينة ترهونة جنوب شرق طرابلس، في حين تعرض مطار معيتيقة الدولي مجددًا للقصف وسط استنكار أممي.

ومنذ هزيمتها في غريان واستعادة قوات الوفاق المدينة قبل شهرين، فقدت قوات حفتر المبادرة في الهجوم، كما فقدت المئات من مقاتليها بين قتلى وجرحى، ولم تعد إلا مجموعات مسلحة قبلية تقاتل لأجل البقاء والدفاع عن نفسها خوفًا من الهزيمة.

واكتفت في المقابل بالدفاع عن مواقعها التي استولت عليها سابقًا في جنوب طرابلس، بعد أن كانت تتحدث عن قدرتها على السيطرة على العاصمة في 3 أيام فقط.

هذا الفشل الميداني عزز مواقف عديدة أكدت أنه لا سبيل لإنهاء الأزمة في ليبيا من خلال الحسم العسكري، وأن حفتر لن يستطيع الاقتراب أو تحقيق أي من أهدافه في طرابلس، خاصةً بعد خسارته الصفوف الأولى من قواته وفقدانه لأي إستراتيجية عسكرية واضحة تمكنه من تحقيق أي تقدم عسكري أو إستراتيجي.

غير أن حفتر بدا مُصرًا على المُضي قدمًا في اتجاه أهدافه، حتى لو اقتضى ذلك استهداف المدنيين غير عابئ باستنكار جهات دولية والأمم المتحدة لذلك، لكن ذلك لا يتحقق باليسر الذي ظنه حفتر، ما دفعه إلى تكثيف الغارات.

بالتزامن مع فقدان قواته مدينة مُرزق في جنوب الغرب الليبي بعد 6 أشهر من إحكام قبضتها عليها، قصفت طائرة مسيَّرة تابعة لقوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر الكلية الجوية في مدينة مصراتة (غرب ليبيا)، العصية على الرجل الذي يراهن على التوصل لتسوية فيها بغرض تحييدها على الأقل في معركته الكبرى على طرابلس.

شيئًا فشيئًا بدأت معالم القصف تتكشف، فقد تحدث المتحدث باسم قوات حفتر، أحمد المسماري، عن 3 طائرات وليس طائرة واحدة، استهدفت جميعها الكلية الجوية، وهو ما يفسر العدد المرتفع نسبيًا للصواريخ التي قيل إن منظومة الدفاع الجوي ردت عليها وتصدت لإحدى هذه الطائرات، ما أجبر الطائرات الأخرى على الابتعاد في وقت واحد.

ورغم تأكيد آمر غرفة عمليات سلاح الجو لقوات حفتر محمد منفور نجاح العملية، فإن مصادر داخل الكلية الجوية أكدت أن هذه الضربة لم تحقق أهدافها، حيث استهدفت مخازن خالية، ونفت المصادر ما جاء في حديث المسماري عن استهداف مخزن للطائرات دون طيار، وغرفة تحكم ومرسلات لتشغيل هذه الطائرات، بالإضافة إلى مخازن للصواريخ التي تستخدمها هذه الطائرات المسيرة.

ذهبت قوات حكومة الوفاق إلى أبعد من ذلك بإعلانها منذ ساعات إسقاط طائرة إماراتية مسيَّرة، كانت إحدى الطائرات التي هاجمت مطار مصراتة وحاولت استهداف الطائرات والبنية التحتية للمطار، بحسب بيان نشرته عبر صفحتها على فيسبوك عمليةُ بركان الغضبالتي أطلقتها للتصدي لهجوم قوات حفتر على طرابلس.

لم تكن هذه الطائرة الإماراتية الأولى التي تُسقطها القوات التابعة لحكومة الوفاق، فقد أعلنت الحكومة في يونيو/حزيران الماضي إسقاط طائرة تحمل شعار الإمارات.

قصف الطائرات المسيَّرة الذي أكد بيان لقوات حفتر أنه يأتي انتقامًا من مقاتلي مصراتة المدافعين عن مدينة طرابلس، جاء بعد تجديد بعثة الأمم المتحدة في ليبيا واتهامها قوات حفتر بشن ضربات جوية ألحقت أضرارًا بالبنية التحتية لمطار زوارة المدني غرب ليبيا، وتأكيد البعثة بعد فحص منشآت المطار وجميع المباني المجاورة له خلو المطار من أي مظاهر مسلحة يمكن أن تبرر قصفه.

وعلى ما يبدو، تخلت الأمم المتحدة عن سياسة إمساك العصا من الوسطفي ليبيا، وأصبحت تشير إلى حفتر على أنه مسؤول عن جرائم ترتكب ضد المدنيين، مشيرة إلى أن المطار منشاة مدنية، والقصف الذي تعرض له يشكل انتهاكًا خطيرًا للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، الأمر الذي يضيق الخناق عليه عسكريًا وسياسيًا من جانب المجتمع الدولي.

ووفقًا لمصادر تابعة له، فإن قوات حفتر شنَّت 13 غارة على مصراته، واستهدفت ما تقول هذه المصادر إنها منشآت عسكرية تنطلق منها طائرات مسيَّرة تركية، وهو ما تنفيه مصادر حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا.

تقول مصادر أخرى إن حفتر يبحث عن أي نصر وبأي ثمن، وتكثيف غاراته المتعمدة ضد المدينة الأقوى في الغرب هدف تفاوضي لإجبار قياداتها على التفاوض معه لإنهاء القتال أو عقد صفقة، لكن بشروطه هو، وذلك يعني تحييد المدينة في معركة طرابلس، كون الأخير يعلم جيدًا أن العقبة الأكبر هي مصراتة وليست طرابلس.

إخفاق متواصل.. هل يبحث حفتر عن نصر سريع؟

يطرح استهداف الطيران التابع لقوات حفتر مقر الكلية الجوية للمرة الثالثة خلال شهر واحد، مزيدًا من التساؤلات عن أهداف الخطوة وردود فعل أقوى المدن تسليحًا، وهي المدينة التي لا تزال الرقم الأصعب في أي مواجهة مع الغرب الليبي، وحتى الآن لم تشارك المدينة بكامل قواتها في المواجهة ضد حفتر لعدة أسباب، منها ما هو خاص بتأمين المدينة وحدودها، ومنها رفض كتائب بعينها دعم حكومة الوفاق لوجود اختلافات فيما بينهم.

وبحسب كثيرين، فإن حفتر يريد نصرًا سريعًا يكون محل إطراء داعميه ومناصريه في الإقليم ممن أفلحت أدواتهم في جنوب اليمن فيما فشل فيه هو غرب ليبيا، فسارعوا بعد انقلاب عدن إلى عرض نقل خبراتهم خارج حدود اليمن، وأبدوا على لسان نائب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي هاني بن بريك استعدادهم لدعم مَنْ وُصفوا بالأشقاء في لييبا، متمنين أن يحسم حفتر أمر مَنْ وصفها بـالميليشيات الإرهابية المدعومة من قطر وتركيا“.

ومع تأخر النصر المنتظر، يمارس حفتر سياسة التلويح بأن لديه اليد العليا في المنطقة، بينما يعجز عن ضرب أبسط الأهداف أو تحقيق أي انتصار يرفع من معنويات قواته وداعميه.

وهو ما يفسر لجوء حفتر لاستهداف المنشآت المدنية ومن ثم المواقع الأهم عسكريًا لقوات الوفاق، وتحديدًا الكلية الجوية، كونها المهبط الوحید الذي یستخدمه سلاح الجو التابع للحکومة، وأن أغلب الضربات الجوية ضد قواعد قوات حفتر كانت تخرج من هذا المكان، وقصف الكلية سيعتبر من وجهة نظر الأخير ضربة موجعة للحكومة.

وبحسب محللين، فإن هذا تكتيكًا نصحت به العاصمة المصرية القاهرة حفتر، وضغطت باتجاه تحقيقه، أي القفز من فوق مصراتة نحو طرابلس، خاصةً بعد إخفاق قواته في التقدم أو الحسم في ظل وجود قوات مصراتة التي تُعرف بشراسة مقاتليها، وتحولها إلى عائق كبير أمام تقدم قوات حفتر نحو العاصمة.

ويُعتقد أن قصف مصراتة جاء بعد فشل حملته على مُرزق وسيطرة قوة حماية الجنوب الموالية لحكومة الوفاق عليها بعد شهور من وقوع المدينة في قبضة قوات حفتر، وبعد خسارة حفتر لمدینة غریان الإستراتیجیة، وكذلك بعد أن أیقن أن دخول قواته إلى وسط العاصمة أصبح مسألة شبه مستحیلة، وأيضًا بعد تلقیه لضربات موجعة في قاعدة الجفرة.

دفع ذلك البعض ليخلص إلى أن الجنرال المتقاعد بات يقاتل في الخطوط الخلفية، ما يعني إقرارًا بعجزه عن التقدم جنوبي طرابلس.

وبحسب هؤلاء، فإن الرجل انتقل إلى مرحلة جديدة من تكتيكات القتال تقوم على الضغط على خصومه باستهداف المدنيين، ما يفسر اعتماده أكثر على الغارات الجوية واستهدافه مناطق سكنية وتركيز غاراته على المطارات التي تؤكد الأمم المتحدة خلوها من المنشآت العسكرية وعدم ثبوت استخدامها عسكريًا من حكومة الوفاق والكتائب المساندة لها.

أمَّا أسباب إصرار حفتر على مواصلة غاراته الجوية رغم عدم جدواها العسكرية وارتفاع كُلفتها السياسية، فهو أمر مرده في رأي البعض إلى ضغوط إقليمية تريده أن يحسم كي يحصد مشروعهم في ليبيا ما حققه في اليمن حتى لو كان الثمن سقوط مزيد من المدنيين جراء قصف يصفه كثيرون بأنه عشوائي.

الخناق يضيق على حفتر

لم تكن نتائج غارات حفتر الأخيرة أفضل حالاً من حصاد زحفه على طرابلس في الرابع من أبريل/نيسان الماضي، الذي لم يجن منه إلا المزيد من الخسائر العسكرية، وبعضها مُذل، والكثير من الضحايا، وأغلبهم مدنيين، فمنذ أسابيع فقط، اكتفت قوات حفتر بشن غارات جوية وتنفيذ ضربات صاروخية استهدفت مواقع ومنشآت مدنية وحيوية، كالمستشفيات الميدانية والأطقم الطبية والمطارات في العاصمة طرابلس.

وبالتزامن مع ما يمكن وصفها بحالة الجمود العسكري على التخوم الجنوبية لطرابلس، لا يلوح في أفق الأزمة الليبية أي حل سياسي، فجمود الموقف العسكري شجّع أطرافًا إقليمية ودولية بعضها داعم لحفتر على الدعوة إلى الحل السياسي دون توضيح معالمه أو خريطة طريقه، ودون الحديث عن عودة حفتر إلى قواعده في شرق البلاد كما كان عليه الوضع قبل الرابع من أبريل/نيسان الماضي، وهو ما تطالب به حكومة الوفاق الوطني.

الدول الإقليمية الداعمة لحفتر، وتحديدًا مصر والإمارات، تلعب دورًا مزدوجًا يضرب بعرض الحائط كل التفاهمات السياسية التي أُنجزت في مؤتمرات دولية سابقة ناقشت الأزمة الليبية في باليرمو وباريس وأبو ظبي.

الإمارات ومصر تطالبان من جهة بالعودة إلى طاولة المفاوضات السياسية، ومن جهة أخرى تواصلان إمداد حفتر بالسلاح والدعم اللوجستي، أمَّا المبعوث الدولي إلى ليبيا، غسان سلامة، فهو يحاول إلى جانب تنديده باستهداف المؤسسات المدنية والمطارات الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، تتبعه تسوية سياسية لتقاسم السلطة بين أطراف الأزمة، لكنه فشل حتى الآن أمام حفتر ورغبة داعميه الإقليميين، خصوصًا في استمرار القتال.

في طرابلس، بدأت تعلو أصوات تشكك في إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية، بل وترفضها بالقول إن غسان سلامة فقد دوره الحيادي، وخصوصًا في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي، التي اُتهم فيها بمساواته بين المعتدِي والمعتدَى عليه في معركة طرابلس، فحكومة الوفاق الوطني ترى نفسها طرفًا معتدَى عليه ومن حقها الدفاع عن نفسها ضد حفتر الذي تصفه بـمجرم الحرب المارقالذي يسعى إلى السلطة بقوة السلاح، لإقامة نظام عسكري يعيد الليبيين إلى حقبة الاستبداد التي عاشوها أكثر من 40 عامًا.

***

مرتضى الشاذلي ـ محرر صحفي في فريق نون بوس

_____________

مواد ذات علاقة