بقلم رشيد خشانة

تراهن ألمانيا، التي طالما بقيت على الحياد في الصراع الليبي، على إنجاح مؤتمر برلين (ربما يُعقد في ميونيخ) بُغية بلورة اتفاق على بنود رئيسية لحل سياسي يأخذ في الاعتبار عدم تكرار الأخطاء التي ارتكبها الفرنسيون في مؤتمر باريس والإيطاليون في مؤتمر باليرمو.

واقتصرت مخرجات المؤتمرين على مصالحات كاذبة والتقاط بعض الصور التي تجمع بين رئيس حكومة الوفاق فائز السراج والقائد العسكري للمنطقة الشرقية الجنرال المتقاعد خليفة حفتر.

وتحشد ألمانيا منذ فترة المشاركين في المؤتمر المنوي عقده، مُركزة على مجموعة الدول الصناعية السبع والدول الأخرى (العربية والأوروبية) المعنية بإنهاء الأزمة الليبية.

ويمنح الألمان الأولوية لوقف الاقتتال الدائر حاليا حول العاصمة، مع وقف تدفق السلاح على المتحاربين. ويتزامن هذا التحرك الألماني مع إدراك جميع الأطراف في ليبيا تقريبا، حقيقة طال التهرُب منها، وهي أن لا حل عسكريا للأزمة، وأن هناك إجماعا دوليا على استبعاد هذا الخيار.

خطوتان

مهد الألمان لمؤتمر برلين باجتماعين عُقد أولهما في 17 أيلول/سبتمبر في برلين، برئاسة مشتركة بين الأمم المتحدة والحكومة الألمانية، وحضرته وفود من مصر وفرنسا وإيطاليا وروسيا وتركيا والإمارات وأمريكا وبريطانيا، إلى جانب مندوبين من الاتحاد الافريقي والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي.

أما الاجتماع الثاني فالتأم في مطلع تشرين الأول/اكتوبر الماضي، بمشاركة الأطراف نفسها.

واللافت أن السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند زار الجزائر بعد اجتماع برلين الثاني، واجتمع مع وزير الخارجية الجزائري بوقادوم، الذي شكا من انعكاسات تدهور الأوضاع الأمنية في ليبيا على الاستقرار في دول الجوار، ومن ضمنها الجزائر، بما يُضعف الحرب على الإرهاب، ويُربك النمو الاقتصادي في شمال افريقيا بأسره.

وبعد الجزائر توجه السفير نورلاند إلى الإمارات في ما يُشبه الجولة التنسيقية، ثم إلى مصر، فروسيا وأخيرا تركيا. ودلت تلك الجولة المكوكية، على أن واشنطن تولي أهمية لنجاح مؤتمر برلين، مثلما أكد مصدر دبلوماسي ألماني مُطلع على الملف.

ولهذا السبب تحاول أمريكا إقناع الدول الداعمة لحفتر، بأن لا حل للأزمة الليبية سوى الحل السياسي. ونُقل عن السفير نورلاند أنه عبر عن قلق الولايات المتحدة من التصعيد العسكري، الذي أوقع ضحايا كُثرا في المعارك الدائرة في تخوم طرابلس، خلال الشهر الماضي، واستعدادها للتعاون مع جميع الأطراف الداخلية والخارجية، من أجل إنهاء الصراع، وتمكين المواطنين الليبيين من استئناف حياتهم الطبيعية.

وتُولي واشنطن، حسب ما قال نورلاند لمحاوريه، أهمية كبرى للمحافظة على وحدة المؤسسات الليبية الرئيسية، وفي مقدمتها “المؤسسة الوطنية للنفط” التي تعتبر العامود الفقري للاقتصاد الليبي، ومصرف ليبيا المركزي، وسط تواتر الحديث عن مشروع لتقسيمهما إلى فرع في الشرق وآخر في الغرب، ما اعتبره الليبيون خطرا على مستقبل التنمية في البلد وازدهاره الاقتصادي، واستطرادا على وحدته الترابية.

صورة دقيقة عن ليبيا

وفقا لما أورده موقع السفارة الأمريكية في تونس يعتزم الأمريكيون رعاية حوار اقتصادي في نهاية العام الجاري، في العاصمة التونسية “لبلورة صورة دقيقة عن ليبيا مستقرة ومزدهرة”.

وفي سياق هذا التحرك اجتمع مسؤولون في “المؤسسة الوطنية للنفط” مع مسؤولين في وزارة الطاقة الأمريكية في واشنطن، يوم 10 أيلول/سبتمبر الماضي. وتقرر عقد اجتماع ثان ضم مسؤولين سامين من وزارتي المال والتخطيط الليبيتين، زيادة على مسؤولين من المصرف المركزي ومؤسسة النفط.

وهناك اجتماع ثالث مُقرر لنهاية العام الجاري في الإطار نفسه. وترمي تلك الحوارات إلى تحديد الإجراءات المقبولة من الطرفين، التي من شأنها تعزيز الشفافية والمسؤولية في إدارة المؤسسات الاقتصادية الليبية.

اللافت أن هذا الاهتمام الأمريكي بمصائر الاقتصاد الليبي، يُقابله اهتمام مماثلٌ في موسكو، التي دعت وفدا رفيع المستوى من “المؤسسة الوطنية للنفط” للمشاركة في “أسبوع الطاقة الروسي” وشارك الوفد أيضا في الاجتماع الوزاري لمنتدى البلدان المصدرة للغاز، وذلك بغية الاطلاع على فرص التبادل التجاري مع شركاء دوليين في هذا القطاع.

سباق مع الزمن

يخوض الألمان سباقا مع الزمن من أجل إنجاح المؤتمر، وقام وزير الخارجية هايكي ماس (وهو أحد قادة الحزب الديمقراطي الاشتراكي) بجولة في المنطقة أواخر الشهر الماضي، شملت كلا من تونس وليبيا ومصر، وكانت من أهم محطاتها اجتماعه مع رئيس حكومة الوفاق فائز السراج في مدينة زوارة القريبة من الحدود التونسية، في حضور رئيس البعثة الأممية في ليبيا غسان سلامة.

كما أجرى ماس جلسة عمل مع وزير الخارجية المفوض في حكومة الوفاق محمد سيالة، أكد خلالها على مسألتين قال إن برلين تعتبرهما أساسيتين:

أولا: هما الحد من أي تدخل خارجي في الأزمة، إذ تعتبر ألمانيا أن التداخلات الخارجية هي سبب المشكلة،

ثانيا: ضرورة إيجاد اتفاقات بين الأطراف المتنازعة، في نطاق خطة الأمم المتحدة، معتبرة أن تطبيق هذه الخطة “شرط مسبق لإنعاش العملية السياسية” على ما قال ماس لمحاوريه في تونس وزوارة والقاهرة.

غير أن الألمان لا يُعاملون جميع الأطراف على قدم المساواة، إذ أنهم يعتزمون دعوة الدول الكبرى إلى مؤتمر برلين، وتجاهل دول الجوار، التي تعتبر الأقرب إلى الملف الليبي والأكثر تضررا من استمرار الحروب الأهلية فيها.

وكان الألمان دعوا كلا من مصر والإمارات إلى اجتماع تنسيقي في تشرين الأول/اكتوبر الماضي، شاركت فيه كل من فرنسا وإيطاليا وروسيا وأمريكا وبريطانيا وتركيا، واستبعدوا تونس والجزائر وقطر، من دون مبرر.

وشجع ذلك الفيتو إيطاليا على السخرية من دول الجوار، بالرغم من أنها أخفقت هي نفسها مرارا في حلحلة الأزمة، إذ علق وزير خارجيتها لويجي دي مايو، في كلمة أمام مجلس الشيوخ الإيطالي أخيرا، قائلا إن تغييب تونس والجزائر من مؤتمر برلين يشكل فرصة مهدورة، لأنهما بلدان مهمان في الحرب على الإرهاب ويتفهمان (موقف) إيطاليا أكثر من شركائنا الآخرين”.

غائبون حاضرون

الأغرب من ذلك أن الليبيين أنفسهم، أصحاب القضية، لن يُدعوا للمؤتمر، المخصص أصلا لحل أزمتهم.

وهذا يدل على أن الدول الكبرى التي تتصارع على النفوذ في ليبيا منذ أكثر من عشر سنوات، تريد تصفية الحسابات القديمة والجديدة بينها أولا، لتنتقل لاحقا إلى تنفيذ خريطة طريق جديدة، إذا ما توصلت إلى صيغة لتقاسم الكعكة تُرضيها جميعا،

وهو ما أكده غسان سلامة في تصريحاته الأخيرة، التي أوضح فيها إن المؤتمر “سيركز في الأساس على ترميم موقف الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن من الأزمة”.

وهو اعتراف بأن الانقسام الحاد في مجلس الأمن يعرقل حل الأزمة، مشيرًا إلى أن المجلس عقد 14 اجتماعا منذ بدء حرب طرابلس، من دون القدرة على إصدار قرار واحد، أو حتى الدعوة لوقف إطلاق النار، على ما قال الموفد الأممي.

واستطرادا فإن عجز مجلس الأمن أتى نتيجة لتضارب المصالح والمطامع بين الدول الكبرى، التي يقف بعضها خلف حكومة الوفاق في طرابلس، فيما يدعم بعضها الآخر القوات التي يقودها الجنرال المتقاعد حفتر.

والأرجح أن إحدى النقاط الجوهرية التي سيبحثها المؤتمر، لن تكون محل اتفاق بين الحضور، وهي المتعلقة بإرسال مراقبين دوليين محايدين لمراقبة وقف إطلاق النار، فلا الدول الكبرى سترضى بإرسال أبنائها إلى الموت في ليبيا، ولا الدول العربية والافريقية، المُستبعدة من التسوية، ستقبل أيضا بإرسال جنودها طعاما للمدافع.

مشاورات تمهيدية

بالمقابل، هناك خطوات تجري في شأنها مشاورات تمهيدية قبل مؤتمر برلين، يمكن إيجاد بعض الصيغ لتطبيقها، منها العمل على إعادة المدنيين الذين هاجروا أو هُجروا من بيوتهم، خاصة في التخوم الجنوبية للعاصمة، إلى منازلهم، وتبادل الأسرى وجثامين القتلى، الذين سقطوا في الحرب من الجانبين.

لكن يصعب الحديث عن تقدم حقيقي في هذه المجالات، بدليل أن الإحاطة التي تلقتها اللجنة التي شكلها مجلس الأمن، للتحقُق من تدفق الأسلحة على ليبيا، تضمنت قلقا صريحا من استمرار تدفق السلاح.

وعبر فريق الخبراء الأمميين المعني بليبيا، عن خشيته من أن تكون تلك الأسلحة تساهم في تغذية الصراع بين المتحاربين.

وأطلق وزير الداخلية في حكومة الوفاق فتحي باشاغا تحذيرا مماثلا حين قال أخيرا “ندفن يوميا الشباب الذي يُفترض أن يكون جزءا من بناء ليبيا”.

وتوقع باشاغا، الذي يعتبر الرجل القوي في الغرب الليبي، أن يعمد تنظيما “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” إلى استثمار الفراغ الناتج عن انشغال حكومة الوفاق بالدفاع عن طرابلس، للتمدُد في اتجاه الصحراء الليبية، حيث الدولة غائبة أو منهارة.

أما سكان طرابلس فهم مستمرون بدفع ثمن المعارك بين القوات الآتية من الشرق والجماعات الموالية لحكومة الوفاق، وهو القتال الذي أدى، حسب منظمة الصحة العالمية، إلى مقتل ألف شخص على الأقل، بينهم مئة مدني، ونزوح أكثر من 120 ألفا من سكان طرابلس.

قصارى القول إن النسر الألماني الذي ينتظر الليبيون أن يُحلق بهم عاليا، لإخراجهم من مُختنق الأزمة السياسية، سيكون مكسور الجناحين، فلا الليبيون ستكون لهم كلمة في الموضوع، ولا بلدان الجوار، المعنية بالأزمة قبل سواها، ستُعطى دورا في تسوية سلمية … تأتي ولا تأتي.

__________

مواد ذات علاقة