بقلم جيروم توبيانا (ترجمة حميد العربي)

يتم احتجاز المهاجرين في ليبيا، القادمين في الغالب من إريتريا، في ظروف جد مزرية. كثيرا ما يتعرضون لبطش المليشيات التي تعذبهم وتسلبهم أموالهم عن طريق فرض “الخوة” أي الفدية عليهمفي الوقت الذي تفضل فيه الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي صرف النظر بعيدا عن ذلك. إليكم شهادات عن مٱسيهم.

تزداد رائحة البراز ونحن نقترب من المستودع الذي يشكل المبنى الرئيسي لمركز اعتقال /ظهر الجبل/، بجبل نفوسة. يعتذر المدير مرتبكا بأن هناك مشكلة سباكة. يفتح الباب الحديدي للمستودع الذي يأوي 500 معتقل كلهم تقريبا من الإريتريين. يتمدد طالبو اللجوء على فُرش رمادية ملقاة على الأرض مباشرة.

في نهاية الممر الفاصل بين الفرشات يصطف رجال للتبول في أحد الـ 11 دلوا مخصصاً لهذا الغرض. شرح لي أحد المعتقلين خلال زيارتي الأولى، في مايو 2019، أن أحدا منهم في هذه الحجرة لم ير ضوء النهار منذ سبتمبر 2018، تاريخ نقل حوالي 1000 مهاجر إلى هنا كانوا محتجزين بطرابلس. فزنتان، المدينة الأقرب، بعيدة عن الاشتباكات الحاصلة في العاصمة الليبية، ولكنها أيضا بعيدة عن أعين الوكالات الدولية. يقول المهاجرون أنه تم نسيانهم.

ما يزال في ليبيا حوالي 5000 مهاجر من المعتقلين لأجل غير مسمى في حوالي 10 مراكز اعتقال رئيسية، تديرها رسميا إدارة مكافحة الهجرة غير الشرعية، التابعة لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا. في الواقع ومنذ سقوط القذافي في 2011، لم تعد لليبيا حكومة مستقرة، وغالبا ما تسيطر الميليشيات على هذه المراكز. ففي غياب حكومة تؤدي وظائفها يتم اعتقال المهاجرين في ليبيا بانتظام ويتم استعبادهم وتعذيبهم من أجل تحصيل الفدية.

أوروبا تمول خفر السواحل”

يقوم الاتحاد الأوروبي منذ 2017 بتمويل خفر السواحل الليبية بغية منع المهاجرين من الوصول إلى السواحل الأوروبية. وتقوم قوات ليبية، بعضها مجهز ومدرب من طرف الاتحاد الأوروبي، بالقبض على المهاجرين وحبسهم في مراكز احتجاز يوجد بعضها في مناطق حرب، أو يوضعون تحت حراسة ميليشيات معروفة ببيعها للمهاجرين.

على عكس مراكز الحجز الأخرى التي زرتُها في ليبيا، لا يشبه مركز ظهر الجبل السجن. قبل 2011 كانت مجموعة المباني هذه المتواجدة في وسط ريفي، تسمى رسمياً مركز تدريب ل“براعم وأشبال وسواعد الفاتح”، وهم الأطفال الذين كانوا يتلقون تعاليم /الكتاب الأخضر/ للقذافي.

عندما تشكلت حكومة الوفاق الوطني، الموجودة في طرابلس، سنة 2016 تم وضع المركز تحت سلطة إدارة مكافحة الهجرة غير الشرعية. وفي أفريل/ نيسان بدأت منظمة /أطباء بلا حدود/ التي كنت أعمل لديها بالقيام بمشاورات بظهر الجبل. وكان المركز يحتجز آنذاك 700 مهاجر، أغلبهم مسجلين كطالبي لجوء من طرف وكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ولكنهم، وفقا للقانون الليبي، مهاجرون “غير شرعيين” ويمكن احتجازهم إلى أجل غير مسمى.

حاول كثير منهم، ممن فقدوا الأمل في الخروج، الانتحار عن طريق لمس الأسلاك الكهربائية. في حين وضع آخرون إيمانهم في الله وأيضا في الشبكات الاجتماعية وفي مهاراتهم في الأشغال اليدوية. أغلب المعتقلين الإريتريين مسيحيون: على الجدار المواجه للباب بنوا كنيسة أورثوذوكسية حبشية، بورق مقوى ملون بالأطعمة، وبالأفرشة الخضراء التي توفرها المفوضية السامية للاجئين، مع صلبان من الشمع المذاب.

وعلى أفرشة أخرى كتبوا بمعجون الطماطم والفلفل الأحمر شعارات مثل: “نحن ضحايا مفوضية غوث اللاجئين في ليبيا”. كما نشروا بهواتفهم النقالة صورا لهم على الشبكات الاجتماعية وهم واقفين مكتوفي الأذرع ليظهروا بأنهم سجناء.

وأسفرت جهودهم أخيراً عن لفت الانتباه، إذ قامت المفوضية السامية للاجئين في 3 جوان/ يونيو بإجلاء 96 طالب لجوء إلى طرابلس. بعد ذلك بأسبوع تم إخلاء المستودع المزدحم حيث كنت قد قابلت المهاجرين لأول مرة. لكن بقي 450 إريتريا محبوسا في المركز، محشورين في مبان أخرى بها 20 زنزانة تحوي أكثر من 20 شخصا في الزنزانة الواحدة، مع أن العديد من المحتجزين يفضلون النوم في الساحات في خيام نصبت كيفما اتفق بالبطانيات.

ينادوننا دولار و يورو”

يروي معظم الإريتريون قصة متقاربة: قبل أن يسقطوا في شرك نظام الحجز الليبي فروا من الديكتاتورية الإريترية، حيث الخدمة العسكرية إجبارية وتعسفية. في عام 2019 ترك جبري ، الذي يزيد عمره عن الثلاثين، زوجته وابنه في مخيم للاجئين في إثيوبيا ودفع للمُهرِبين 1600 دولار لعبور الصحراء السودانية نحو ليبيا مع العشرات من المهاجرين الآخرين.

غير أن المُهرِبين قاموا ببيعهم إلى متاجرين بالبشر ليبيين قاموا باحتجازهم وتعذيبهم بالكهرباء حتى يتصلوا بأقاربهم ويطلبوا الفدية. بعد 10 أشهر من الحبس أرسلت عائلة جبري ما يقارب 10 ألاف دولار (حوالي 9000 يورو) من أجل الافراج عنه: “اضطرت أمي وأخواتي لبيع حليهن. عليَّ الآن تعويضهن. يعزّ عليّ أن أتحدث عن هذا الأمر”.

يتم استهداف المهاجرين الإريتريين بشكل خاص حيث يعتقد الكثير من المهربين الليبيين أنه بإمكانهم الاعتماد على مساعدة مغتربين أثرياء في أوروبا وأمريكا الشمالية. يقول لي مهاجر آخر: “إننا الأفقر. ولكن الليبيون يظنون أننا أغنياء. فهم يسموننا دولارات وأوروات”.

بعد أن نجوا من التعذيب دفع كثير منهم، مثل جبري، مبلغاً آخر لعبور البحر ولكن خفر السواحل الليبي اعترضهم وحبسهم في مركز الاحتجاز. يوجد بعض رفاق زنزانة جبري في الحجز منذ أكثر من سنتين وقد مروا عبر 5 مراكز احتجاز متعاقبة. ولما أصبح عبور المتوسط أكثر خطورة اتجه بعضهم طواعية نحو مراكز الاحتجاز على أمل أن يتم تسجيلهم من طرف مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

ويلات داء السل

التقى جبري في مستودع ظهر الجبل بهابتوم، زميل دراسة قديم، أصبح طبيب أسنان. وبفضل معارفه الطبية أدرك هابتوم أنه مصاب بمرض السل. وبعد أربعة أشهر من السعال تم نقله من المستودع إلى مبنى أصغر مخصص لأكثر الإريتيريين مرضا. جبري، الذي يقول بأنه في ذلك الوقت “لم يكن قادرا على المشي حتى للذهاب إلى المرحاض”، التحق به بسرعة.

عندما زرت “بيت المرضى” كان هناك حوالي 90 إريتيريا محتجزا، يشتبه في إصابة غالبيتهم بداء السل ولم يتلقوا أي علاج مناسب. مرض السل، الذي لم يكن شائعا في السابق في ليبيا، انتشر بسرعة وسط المهاجرين في السجون المكتظة. بينما كنت أتحدث إلى جبري نصحني بوضع قناع: “لقد نمت وأكلت مع مرضى السل، بما في ذلك هابتوم”. توفي هابتوم في ديسمبر 2018.

قطع جبري جبري عهداً على نفسه: “إذا وُفِّقت بالوصول إلى أوروبا، سأساعد عائلته. هذا واجب علي”. توفي بين سبتمبر 2018 ومايو 2019 على الأقل 22 محتجزا بظهر الجبل، معظمهم بسبب السل. حدث ذلك رغم وجود أطباء في مركز الحجز، بعضهم من المنظمة الدولية للهجرة وبعضهم من /الهيئة الطبية الدولية/، وهي منظمة غير حكومية أمريكية تمولها مفوضية الأمم المتحدة للاجئين والاتحاد الأوروبي.

ويؤكد مسؤول ليبي: “ترجيناهم بإرسال محتجزين إلى المستشفى ولكنهم ردوا بأنه ليست لديهم ميزانية لذلك”. وقد كانت عمليات النقل نحو المستشفى نادرة. بالمقابل تم تحويل حوالي 40 من المحتجزين الأسوأ مرضا وأغلبهم مسيحيون نحو مركز حجز بغريان، الأقرب إلى مقبرة مسيحية. يشرح جبري: “تم إرسالهم لغريان ليموتوا هناك”.

وقد توفي 8 منهم بين جانفي/يناير ومايو/أيار. على عكس ظهر الجبل يشبه غريان مركز اعتقال: سلسلة من الحاويات محاطة بسياج حديدي عال. تم نقل يمان إلى هنا في جانفي/ يناير: “قال لنا مدير ظهر الجبل وموظفو الهيئة الطبية الدولية بأنهم ينقلوننا إلى مستشفى بطرابلس، لم يتحدثوا عن غريان… عندما وصلنا، أغلق علينا على الفور في حاوية”.

مهاجرون يباعون ويعذبون

حسب يمان حاولت سيدة شنق نفسها حين أدركت بأنها في غريان وليس في مستشفى كما وعدها بذلك أطباء الهيئة الدولية للأطباء. وكان كثير منهم يحتفظ بذكريات سيئة عن غريان: في 2018 قام مسلحون ملثمون بخطف حوالي 150 مهاجرا محتجزا في المركز وتم بيعهم إلى مراكز تعذيب. أغلق المركز لمدة قصيرة ثم أعيد فتحه برئاسة مدير جديد الذي أسر لي بأن المهربين يتصلون به بانتظام لمحاولة شراء المهاجرين المحتجزين.

في أفريل/ نيسان 2019 شنت قوات خليفة حفتر، الرجل القوي في شرق ليبيا، هجوما على القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني بطرابلس واستولت على غريان. أقامت قوات حفتر بالقرب من مركز الاحتجاز وقد قامت طائرات حكومة الوفاق الوطني بقصف المنطقة بانتظام. فر الحراس خوفاً من الغارات الجوية ومن المهاجرين المصابين بالسل على حد سواء.

في كل مرة كنت أذهب فيها إلى عين المكان كنا نضطر إلى البحث عن المدير في بيته بالمدينة. جئنا به حتى بوابة المركز حيث نادى على مهاجر لفتحها. لقد طلب منه المحتجزون قفلا حتى يتمكنوا من غلق البوابة وحماية أنفسهم من الاقتحامات. في الواقع كانت القوات الموالية لحفتر تأتي لتطلب من المهاجرين العمل لصالحها.

يقول يمان أنهم قاموا يوما بخطف 15 رجلا لم يعد لهم أثر. طالبت منظمة أطباء بلا حدود من المفوضية السامية للأمم المتحدة للاجئين بإجلاء محتجزي غريان. نفت وكالة الأمم المتحدة في الأول أن تكون غريان في منطقة حرب قبل أن تقر بذلك وتقترح نقل المحتجزين نحو مركز الاحتجاز /النصر/ بالزاوية، غرب طرابلس. تم ذلك مع أن مجلس الأمن للأمم المتحدة قد اتهم القوات التي تسيطر على هذا المركز بالاتجار بالمهاجرين كما وضع اثنين من قادتها تحت طائلة العقوبات.

إن كنتم مرضى فموتوا”

كان المعتقلون ما يزالون في غريان عندما استرجعت قوات حكومة الوفاق الوطني المنطقة في 26 جوان/ يونيو. في اليوم التالي اقتحموا بوابة الحجز بسيارة وطلبوا من المهاجرين أن يقاتلوا إلى جانبهم. أظهر المحتجزون الخائفون أدويتهم ضد مرض السل، مكررين الكلمات العربية التي علمها لهم موظفو المفوضية السامية للاجئين “كحة ودرن”.

غادر رجال الميليشيا وقال أحدهم للمهاجرين:“إن كنتم مرضى سنعود لقتلكم. يجب أن تموتوا!”. في 4 يوليو/ جويلية، قامت المفوضية السامية للاجئين أخيرا بإجلاء باقي المعتقلين نحو طرابلس. منحت الوكالة لكل منهم 450 دينارا ليبيا (حوالي مائة أورو) قصد تلبية حاجاتهم في مدينة لا يعرفونها. ولأن الملجأ الذي يفترض أن يؤويهم باهظ الثمن انتقلوا إلى مكان أرخص كان في السابق إسطبلا.

يقول يمان: “قالت المفوضية العليا للاجئين أننا سنكون آمنين في هذه المدينة، لكن بالنسبة لنا لا توفر ليبيا لا الحرية ولا الأمن”. يوجد معظم المهاجرين 29 الذين تم إجلاؤهم من غريان عالقين الآن في العاصمة، يواجهون الخطر في شوارع طرابلس ولكنهم لا يزالون يأملون في الحصول على حق اللجوء خارج ليبيا. ومع استمرار القتال في طرابلس، اقترح أعضاء ميليشيات على يمان أن يقاتل معهم مقابل 1000 دولار شهريا.

قال لي مؤخرا عبر الواتسآب: “رأيت كثيرا من المهاجرين الذين تم تجنيدهم هكذا، ثم تحولوا الى جرحى”. اثنان من رفاق يمان، كانا يشاركانه أجر السكن، سجنتهما مجدداً ميليشيات طالبتهما ب200 دولار للفرد الواحد. صار مهاجرو غريان يخافون السير في شوارع طرابلس إلى حد أنهم طلبوا إعادة حجزهم؛ وقد تمكن بالفعل أحدهم من الدخول إلى مركز اعتقال أبو سليم. ويعاني كثير منهم من مرض السل. اكتشف يمان في نهاية أكتوبر/ تشرين أول أنه هو أيضا حامل للمرض ولكنه لم يتلق علاجا بعد.

أَعطونا آمالا كاذبة

خلافا لغريان فإن ظهر الجبل بعيدة عن القتال ولكن منذ أفريل/ نيسان يرفض المهاجرون المحتجزون بطرابلس أن يتم نقلهم إلى هناك خشية أن يتم نسيانهم في جبل نفوسة. يقول أحد المسؤولين في المنطقة: “مشكلتنا هنا أن المفوضية السامية للاجئين لا تقوم بعملها. فهم يقدمون منذ سنتين وعودا زائفة لهؤلاء الناس”.

تم تسجيل أغلب محتجزي ظهر الجبل كطالبي لجوء من طرف المفوضية السامية للاجئين وهم يأملون بالتالي أن يتم نقلهم نحو بلدان مضيفة آمنة. تم تسجيل جبري في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 بظهر الجبل: “منذ ذلك الحين لم أر المفوضية. لقد منحونا آمالا كاذبة قائلين إنهم سيعودون قريبا لإجراء مقابلات معنا وإجلائنا من ليبيا”.

كان الإريتريون والصوماليون ال96 الذين تم نقلهم في جوان/ يونيو من ظهر الجبل إلى “مركز التجميع والمغادرة” للمفوضية السامية للاجئين بطرابلس مقتنعين بأنهم سيكونون من المحظوظين الأوائل الذين سيتم نقلهم نحو أوروبا أو أمريكا الشمالية. ولكن في أكتوبر بلغ عدد الطلبات التي رفضتها المفوضية 60 طلباً، بينهم 23 امرأة و6 أطفال.

ولم يبق لهم أي حل سوى محاولة البقاء على قيد الحياة في شوارع طرابلس أو قبول “العودة الطوعية” إلى بلدان هربوا منها بسبب العنف. وقد حذر تقرير الأمم المتحدة بعد زيارة ظهر الجبل في جوان/حزيران، خلال عملية النقل هذه، بأن “عدد الأشخاص الذين يمكن للمفوضية السامية للاجئين إجلاءهم سيكون ضعيفا جدا مقارنة بعدد المقيمين بظهر الجبل بسبب عدد الأماكن المحدودة المقدمة من طرف المجتمع الدولي”.

وبالفعل سجلت المفوضية السامية للاجئين ما يقارب من 60000 طالب لجوء في ليبيا ولكنها لم تتمكن من إجلاء سوى 2000 في السنة. ترتبط قدرة الوكالة في إجلاء طالبي اللجوء من ليبيا بعروض البلدان المضيفة، الأوروبية أساسا. ولا يقبل الأكثر انفتاحا منها استقبال سوى بضع مئات من اللاجئين العالقين في ليبيا. ويعرف معتقلو ظهر الجبل ذلك.

ففي خلال إحدى مظاهراتهم كانت شعاراتهم المكتوبة بصلصة الطماطم موجهة مباشرة إلى أوروبا: “ندين سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه اللاجئين الأبرياء المحتجزين في ليبيا.” يشرح جبري: “تقول أوروبا إنها تعيدنا إلى ليبيا لأجل أمننا. لماذا لا يتركوننا نموت في البحر، دون معاناة؟ ذلك أفضل من تركنا نذوي ونزول هنا.”

***

جيروم توبيانا ـ باحث وصحفي متخصص بالنزاعات وحركات الهجرة عبر الصحراء والقرن الإفريقي. وهو مؤلف الرواية المصورة التي تحمل اسم “فتى غوانتانامو” الصادرة بالفرنسية من منشورات دارغو 2018

___________

 

مواد ذات علاقة