بقلم جلال سلمي

تتناول هذه الدراسة، جملة القضايا التي ترتبت على مذكرتي التفاهم بين تركيا وليبيا، موضحة دوافع ابرام تركيا للمذكرتين، ومواقف الجهات الفاعلة منها، السيناريوهات المتوقعة في ظل التطورات المتسارعة على الأرض.

الجزء الثاني

ثانياً: التأطير الشرعي لتحركاتها

تأتي مذكرة التفاهم البحري في إطار اتفاقية قانون البحار لعام 1982، أما مذكرة التعاون الأمني المشترك فتأتي في إطار المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنص على حق الدول توقيع اتفاقيات دفاع مشتركة من أجل مواجهة المخاطر المواجهة لها.

وفي ضوء ذلك، تسعى تركيا لتأطير تحركها في حوض البحر المتوسط وليبيا بعيداً أي عقوبات أو ضغوطات قد تُفرض عليها من قبل مجلس الأمن أو الاتحاد الأوروبي.

ثالثاً: تحرك استباقي وقائي

من ناحية استباقية مُتعلقة بالتوقيت، يأتي الاتفاق قبل أسابيعٍ معدودةٍ من اتفاق مؤتمر برلين المُزمع عقده من أجل حل الصراع في ليبيا، حيث أرادت أنقرة، على الأرجح، المشاركة في المؤتمر أو التأثير في مساره على وقعٍ يُثبت نفوذها قبل وضعه على طاولة المفاوضات، فضلاً عن رغبتها في تجاوز أي عائق يطال تحرك حكومة الوفاق دولياً، أو أي نتيجة تغيّر الظرفية السياسية في ليبيا.

أما من ناحية وقائية، فيأتي أمام تحركات مصر مع قبرص اليونانية واليونان، وأمام تحركات بعض دول الخليج ومصر وفرنسا في دعم قوات حفتر في هجومه على مناطق حكومة الوفاق، وعلى الأرجح يأتي هذا التدخل التركي المباشر في ليبيا وحوض شرق المتوسط، مخافة تكرار سيناريو خسارتها في سوريا عند حدوث أي تسوية نهائية بخصوص المسألة الليبية.

فضلاً عن تحرك تركيا الوقائي ضد مناورات روسيا التي باتت اللاعب الأكبر في سوريا المُطلة على حوض شرق البحر المتوسط، والتي انتقلت للعب في ليبيا بالتعاون مع مصر.

وتُعدّ هذه النقطة قاسم مشترك بين تركيا وحكومة السراج التي تسعى للتحرك مع تركيا ضد اليونان التي استقبلت وفد من برلمان شرق ليبيا ـ غير المعترف به دولياً ـ ووقعت معه خطة إعادة إعمار شاملة لبعض مناطق بنغازي. ونقطة المشاركة في عملية إعادة الإعمار مهمة جداً بالنسبة لأنقرة، بلا أدنى شك.

مواقف الجهات الفاعلة:

ـ برلمان طبرق

لم يتأخر اعتراض برلمان طبرق الذي يمثل، وفقاً لاتفاق الصخيرات، الجهة التشريعية لليبيا، ولكنه يُساند قوات حفتر على مذكرتي التفاهم، معرباً، على لسان رئيسه، عقيلة صالح عيسى، عن “شعوره بخطورة المذكرات على الدولة الليبية ومستقبلها”.

واتجه برلمان طبرق نحو رفع مذكرة اعتراض للأمم المتحدة والجامعة العربية، مطالباً بسحب الاعتراف بحكومة الوفاق الليبية، ومبيناً أن عدم شرعية مذكرتي التفاهم يعود إلى “كونها مذكرات تفاهم غير مُصدقة من قبل البرلمان بحسب اتفاق الصخيرات، عدا عن عدم وجود حدود بحرية مشتركة بين ليبيا وتركيا تستدعي الترسيم، ووجود اليونان ومصر وقبرص ضمن المناطق المٌستهدفة في إطار مذكرة ترسيم الحدود”، ولم تتفاعل الأمم المتحدة والجامعة العربية بهذه المطالبة.

ولم يكتفِ البرلمان بالمطالبة بإلغاء الاتفاقية وإسقاط الاعتراف عن حكومة الوفاق، بل تحرك باتجاه الرياض في إطار سعيه للمناورة وتكثيف الدعم الإقليمي لموقفه الرافض لمذكرات التفاهم، بالتزامن مع تدهور العلاقات التركية ـ السعودية على إثر أزمة خاشقجي منذ أكتوبر 2018، ما يعكس رغبة البرلمان في الاستفادة من حالة التوتر في صالحه، وبالتالي يتطابق مع التوجه السعودي لموازنة التحرك التركي المضطرد في المنطقة عامةً.

وقد يصل موقف برلمان طبرق رفضه للمذكرات من خلال إعلانه عدم شرعية أي اتفاقية تُبرم مع أنقرة، ورفض أي وجود أمني أو عسكري لها على الأراضي الليبية، كما تم عندما وقعت إيطاليا مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق بخصوص العمل العسكري والأمني المشترك لمكافحة الهجرة غير الشرعية في فبراير 2017.

 وأخيراً، قد يتجه نحو القبول بدعم خارجي، غالباً خليجي ـ فرنسي، لاستغلال توقيت ما قبل مؤتمر برلين، ومنح حفتر فرصة أخيرة لحسم معركته تجاه طرابلس.

وبالركون إلى حالة التنافس بين حكومة الوفاق والبرلمان حول شرعية التمثيل الخارجي ونطاق السيطرة على مؤسسات الدولة الليبية، وبالاستناد إلى ضغط الدعم الخليجي على البرلمان وقوات حفتر، فإن موقف برلمان طبرق يأتي في إطارٍ طبيعي.

ـ مصر

لم يمضِ سوى ساعات على إعلان توقيع أنقرة وحكومة الوفاق مذكرتي التفاهم، حتى أصدرت وزارة الخارجية المصرية بياناً بُيّن فيه مهاتفة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، نظيريه اليوناني، نيكوس دندياس، وقبرص، نيكوس خريستودوليس.

وفي نهاية التواصل الهاتفي اتفق وزراء الخارجية على “عدم الاعتداد بمذكرتي التفاهم، لا سيّما المتعلقة بترسيم الحدود، كونهما تتعديان صلاحيات رئيس مجلس الوزراء الليبي، وفقاً لاتفاق الصخيرات تحديداً المادة الثامنة التي تنص على أن مجلس رئاسة الوزراء ككل وليس رئيس المجلس منفرداً يملك صلاحية عقد اتفاقات دولية، بالإضافة إلى تأثيرها على حقوق الدول المشاطئة للبحر المتوسط”.

وكانت اللافت في بيان الخارجية المصرية تغيّر خطابها بشأن المعادلة الليبية، فقد أشارت الخارجية المصرية، في 25 سبتمبر من العام الجاري، بأن الدور التركي في ليبيا يكمّن في توجه دعمها السياسي واللوجيستي للجماعات الإرهابية والمتطرفة.

غير أن بيانها الأخيرة لم يركن إلى ذريعة “دعم الإرهاب” لرفض مذكرة التفاهم”، بل يستند إلى ذريعة “مخالفة اتفاق الصخيرات” الذي وصفته سابقاً، وعلى لسان، محمد بدر الدين زايد، مساعد وزير الخارجية لدول الجوار، بأنه اتفاق “غير ناجع” “زاد من التباس الوضع في ليبيا”، ما يشي بإسقاط مذكرة التفاهم الخاصة بالتعاون المشترك بين أنقرة وحكومة الوفاق ذريعة الدبلوماسية المصرية التي اضطرت للاحتكام لاتفاقٍ لا يصب في صالحها، وهذا ما قد يتبعه خناق أوسع على مناورات مصر الدبلوماسية والأمنية في ليبيا وحوض المتوسط.

ولا يقف الأمر على تضييق مذكرتي التفاهم الخناق على نطاق المناورة

الدبلوماسية للقاهرة، بل يمتد لعدة نقاط أهمها:

  1. تخوف القاهرة الفعلي من احتمال تأثير تحرك أنقرة على هذا النحو في نتائج مؤتمر برلين بمصالحها سلباً.

  2. إدراك القاهرة لهدف تركيا في تجفيف فرص توسيع القاهرة نفوذها الدبلوماسي في ليبي، من خلال تقريب حكومة الوفاق إليها باتفاقيات ارتباط وثيق تحجم دور مصر في ليبيا والمتوسط.

  3. ـ تخوف القاهرة من اتساع مساحة سيطرة جماعا طرابلس في ليبيا، وبالتالي تعرض حدودها وأمنها لتهديدات خطيرة.

  4. ـ وعي القاهرة بأن هذه المذكرات تحدث تداخلات معقدة في المتوسط، وبالتالي تعيق حالة الاستقرار السياسي والأمني بالنسبة لعمليات استخراج الطاقة وتصديرها من حوض المتوسط، لا سيّما أن المذكرتين، في حال تم تطبيقهما جزئياً، قد يضران باتفاقية التعاون التنموي بين القاهرة وقبرص المُبرمة لعام 2013.

  5. ـ توقع القاهرة اتاحة المُذكرة البحرية لتركيا التنقيب عن الطاقة بالتعاون مع المؤسسة الوطنية للنفط ـ التابعة لحكومة الوفاق ـ في الشمال الغربي ليبيا، ما قد يضر بالمنتدى المتوسطي الذي شكّلته مصر بعضوية 7 دول لم تكن تركيا ضمنها.

وأمام هذه العوامل، تسارع القاهرة الخطى في تحركاتها ضد مذكرتي التفاهم مخافة الوقوع تحت سياسة “تطويق” تركيا التي لم قد تزيد الضغط الدبلوماسي على القاهرة في ظل حالة عدم الاستقرار النهائية في السودان، والضغوط الإثيوبية في عملية بناء سد النهضة على مسار نهر النيل، ما يجعل طوق الضغوطات يشتد على مصر.

يتبع في الجزء التالي

***

جلال سلمي ـ باحث فلسطيني، متخصص في اقتصاديات الشرق الأوسط، جامعة غازي التركية

___________

المعهد المصري للدراسات

مواد ذات علاقة