بقلم خالد التومي

المصالحة الوطنية هي مشروع سياسي؛ يهدف إلى استعادة السلم والأمن الاجتماعي في الدولة من ناحية، وإلى المحافظة على الاستقرار السياسي من ناحية أخرى؛

.

الجزء الثاني

المصالحة الوطنية بين النظرية والواقع في ليبيا اليوم

إن المصالحة الوطنية لم تنجح، ولم تتحقق بالرغم من تبنيها كشعار، لأنها انحسرت في فكرة المستوى النظري على كافة المستويات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، بالرغم من جهود الصُلح التي تُبذل فيما بين بعض المناطق بين الحين والآخر.

فعلى الصعيد الوطني والقومي والرسمي، ظلت المصالحة بنداً أساسياً ضمن خطابات النخبة السياسية داخل دوائر صناعة واتخاذ القرار، لكنها لم تتحول عند هذه النخبة إلى مشروع متكامل الأركان على المستوى العملي، حيث لم يتم تفعيله على كافة المستويات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، من خلال تبنيه كبرنامج وطني توظف له كل الإمكانيات، وتوفر له كافة ضمانات النجاح.

المصالحة الوطنية من حيث النظرية

إن أهمية المصالحة الوطنية بخلاف العفو والمسامحة، لأن المفهومين يختلفان في المنطق القانوني، فالأول هو أن المصالحة الوطنية تعني التوصل إلى تسوية أو وفاق، والثاني يعني بلغة بسيطة جداً أن المسامح كريم أي بمعنى الاعتذار والتقبل.

وحتى يقبل المواطن بمشروع المصالحة الوطنية؛ يجب أن ينهض المُبادرون بالمصالحة عن الكراسي السيادية والشرفية، للجلوس على الأرض، حتى تُبعث الثقة في المواطن البسيط لأنها قضية محورية وضرورية، ولها ضوابطها، وقواعدها، وقوانينها، وهي حاجة ضرورية وعنصر حيوي لإعادة الوئام الاجتماعي والسلم الأهلي.

كما أنها معنية بكل أبناء الوطن مهما اختلفت انتماءاتهم السياسية، ودرجة تعليمهم أيضاً أي بمعنى ليست مجرد لقاءات إعلامية، أو بيانات سياسية، أو أطروحات نظرية لأن طرح مشروع المصالحة الوطنية يجب أن يستبقه خطة أمنية تستهدف تحقيق الاستقرار ووقف النزيف في البلاد، لتوفير الأجواء والأرضية الصالحة للبدء بحوار جاد وفعال، وبمنهجية مغايرة، وترك اللون السياسي جانباً وهذا لم نجده واضحاً في معظم الدول التي طرحت مشروع المصالحة الوطنية بأجندةٍ سياسية، ولم تفلح فيه.

إذاً الأمر الوحيد الذي يجدي نفعاً هو مشاركة كافة قطاعات المجتمع كمشروع شامل لا تتبناه فئة معينة، بل من الضروري إنشاء فريق المصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، وهيئات مدنية تجمع مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، حيث تكون فاعلة تعكف إلى التعارف والتقارب وقبول الأخر.

فالتواصل الاجتماعي هو ركيزة من ركائز المصالحة الوطنية، وواحد من أهم عناصر تجنب عوامل التباعد والتناحر وتخفيف حدة الاستقطاب، وما دون الوطنية كالعشائرية والقبلية والطائفية، كما أنه القوة المعنوية التي تحطم حاجز الجليد بين المكونات الاجتماعية المختلفة.

بمعنى أنه كُلما كان المجتمع المدني يتمتع بالتنوع والتعدد والاتساع والقدرة على الانتشار داخل المؤسسات التعليمية، والدينية، والثقافية، كان قادراً على لعب أدوار هامة في إنقاذ الوطن، وصيانة وحدته، وتحقيق المصالحة بين أبنائه.

للمجتمع المدني تأثير يضاهي أحياناً دور القوى والتيارات السياسية المكبلة بأجنداتها الحزبية وأيديولوجياتها الفكرية، حيث لا تلعب الأحزاب السياسية دورا كبيرا في تحقيق المصالحات الوطنية لانشغالها غالباً بقضاياها الكبرى باستنفاذ طاقاتها في بناء التجاذبات السياسية.

يكون الشعار في المرحلة القادمة الوطن لكل المواطنين سواءً بسواء، لهم نفس الواجبات ونفس الحقوق، هذا هو المنطق الذي يحكُم صلب المصالحة الوطنية لأنه يُعيد الحقوق لأصحابها، ويُعلي من شأن المواطن، ويُكرس الوطن كحاضن وجامع وحامٍ للجميع دون استثناء.

فالتغيير في السياسيات والإصلاح وحده لا يكفي للانتقال إلى حالة الاستقرار والأمن الاجتماعي، إذ تشكل المصالحات الوطنية إجراءً ضرورياً وحاجة مُلحة لإتمام الانتقال والتغيير في البلاد.

إن المصالحات الوطنية في العالم قد شكلت دوماً منعطفاً يُهتدى به، وكسبت تقدير واحترام الأمم والشعوب على السواء، وهذا لِما تُمثله من قيم الانتصار على الذات، وتغليب المصلحة الوطنية والعامة على الأهداف والمصالح الخاصة بالأفراد والجماعات، حيث إن هذه التجارب التي مرت بالعالم قد وضعت خارطة طرق واضحة لأي شعب يقف على مفترق الطرق، ويرغب أبناؤه في الولوج للمستقبل وهم أكثر ثقة بأنه سيكون أكثر حرية وعدالة.

إلا أن كل تلك التجارب الخاصة بالمصالحة الوطنية على الصعيد العالمي تُشير إلى أنه ليس هناك شكل واحد باستطاعته تحقيق المصالحة الوطنية في دولة ما، وأن السياق الخاص بكل واقعة، أو حادثة، أو أزمة، أو ثورة، يختلف عن السياق الآخر، ولهذا لنا أن نأخذ بعض الأفكار المؤسسة لتلك الدول في مجال المصالحة الوطنية مع مراعاة اختيار وسائل متعددة أو مختلطة تصور المضمون الذي ترمي إليه المصالحة الخاصةِ بنا، وذلك للاختلاف العادات والتقاليد والأعراف المعمول بها في داخل نسيجنا الاجتماعي.

يتبع في الجزء الثالث

***

خالد التومي ـ أكاديمي ليبي، دكتوراه في العلاقات الدولية والدبلوماسية، باحث بالمركز القومي للبحوث والدراسات العلمية، طرابلس

 

_________________

مواد ذات علاقة