بقلم مختار غميض

بعد نجاحها في تحييد سلاح الجوّ الأشهر الأخيرة، يبدو أن قوات الوفاق الوطني في الغرب الليبي بدأت عمليًّا في التمهيد لامتلاك سماء المنطقة الغربية من خلال اكتساب عوامل التفوّق، جوًّا وبرًّا مع حلول العام الأوّل لإعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر هجومه على العاصمة طرابلس في عمليّة أطلق عليها اسم الفتح المبين“.

(3)

ثالثا: حظوظ السلام

أ فرص الحسم

باتت قوات الوفاق تستهدف قوات حفتر برّا وجوّا لضرب خطوط إمداداته بالذخيرة والوقود، الأمر الذي قد يبرّره تعجيل الإتحاد الأوروبي بخطته التي ترمي لمنع دخول الأسلحة إلى ليبيا والتي أعلن تطبيقها بداية من آخر مارس المنصرم، حيث أطلق عملية إيرينيفي ما بدا محاولة أوروبية للتأثير على عاصفة السلام“.

كما تبدو هذه الخطوة الأوروبية مساندة لحفتر بعد أن انهار أمام ثوار طرابلس، بل إن تأكيدات بعض الدوائر الاستخباراتية تفيد بأن السّفير الإماراتي بواشنطن يوسف العتيبة طالب الولايات المتحدة بالتدخّل لفرض هدنة في ليبيا ووقف إطلاق النار، وهذا الطلب غير المسبوق لم يكن ليحدث لولا استشعار تأثيرات التفوق الجوي للوفاق، هذا إن لم يكن الطلب من حفتر نفسه.

لكن رغم العملية التي تستهدف بالأساس التدخل التركي مع الوفاق مقابل التغاضي عن دعم حفتر برا من خلال الحدود الواسعة مع مصر، وجوا بينه والإمارات، كما تبقى العملية مجرّدة من كل جديّة ما لم يعطها مجلس الأمن الدولي الضوء الأخضر أو تحظى بالدعم الأمريكي.

وبناء على ذلك فان كثافة الاستهداف الجوي للقواعد العسكرية ودخول القطع التركية للمياه الليبية مع حداثة الدفاعات الجوية للوفاق، كلها ظروف مواتية لفرض السيطرة والتحكم عبر تسيّد السماء والميدان.

وبقطع خطوط الإمداد العسكري بالعتاد والمقاتلين، تصبح قوات حفتر في تقهقر مستمر خاصة مع تأثيرات وباء كورونا على مناطق نفوذه من حيث المصاريف الموجهة إليه لاسيما مع عدم صرف رواتب الموظفين الذين احتجوا مؤخرا أمام المصارف.

كذلك انعكاس الوباء على الدول الداعمة لحفتر فالسعودية الأولى عربيا من حيث الإصابات، تليها الإمارات، فلا شك أن المُصاب الجلل سيرهق ميزانياتها ويعطّل اقتصادها الريعي، أما مصر فوضعها الصحي لا تحسد عليه، فهي الأكثر كارثية ، بينما تُعد فرنسا وأوروبا عامة أكبر بؤرة للوباء العالمي ومنشغلة بنفسها حتى يأتي ما يخالف ذلك.

هذه الظروف الموضوعية جعلت قوات الوفاق تتحيّن الفرص وتسابق الزمن لاسترجاع نفوذها كاملا على منطقتها الغربية وهذا المصرح به حاليا، ودرءا لأي تطورات لداء كورونا في الداخل الليبي.

هذا الوباء سيؤثر حتما على خارطة العالم من حيث ترتيب قواه الحيّة، خاصّة وأنّه حاليا تبدو كل القوى الغربية غير معنية بليبيا كما كانت من قبل، مما سيسهم في إزاحة تعقيدات المشهد الليبي كلما تخلى عنها اللاعبون الدوليون.

فتصريح الأمين العام للأمم المتحدة حول مسؤولية حفتر عن قصف العاصمة قد يفسّر ثقل الحمل الذي كان مسلّطا من الدول الكبرى على الأمم المتحدة وحقيقة تكتمها على كثير من الحقائق تواطئا منها مع مصالح القوى المتصارعة على الثروة الليبية.

وبالتالي فان تخفيض مستوى الاهتمام بالملف الليبي عند كثير من الدول المتدخلة بشكل مباشر فيه، سيمنح الأطراف الليبية القدرة على الحسم، وهذا ما نادت به قوى ليبية المجلس الرئاسي.

ب – “أغصان الزيتونمن جديد

بناء على ما سبق، وباستهداف منصّات الانطلاق في الوطية وترهونة وطرق الإمداد شرق بني وليد حتى الجفرة تكون محاور الوسط وجنوب العاصمة وشرق مصراته، أرضية لتلقي ضربات جوية ومدفعية دقيقة وغارات جوية مركزة ستسبب في انهيارات في محاور خط الدفاع داخل معسكر حفتر المعتمد أكثر على مقاتلين أجانب، وبذلك تعود لغة الهدنة ونحن مستعدين للحوار ومد يد السلام، للظهور من جديد !

فبعد يوم على عملية الطيران المسير في ترهونة وبني وليد النوعيتان، جاء كلام المتحدث باسم حفتر، أحمد المسمارى، أن أيديهم لا تزال تمتد بأغصان الزيتون وأنهم يؤيدون السلام، بينما لاتزال قواته تقصف أحياء العاصمة وتستهدف المستشفيات.

كلام المسماري لا يخلو من لهجة استعطاف ورجاء بعد الضربات الجوية التي منيت بها قواته وهو الذي عرف خطاب التهديد والوعيد، ووصف ضربات الوفاق بالهجوم الشاملأما قوله مجددا بأنه مازال يحافظ على الهدنة، فهو كلام للاستهلاك موجّه أساسا للخارج.

ومما يثبت كذلك غياب الجدية والمسؤولية في طلب السلام هو عدم الالتزام بضبط النفس وحماية المدنيين وكالعادة يبدو كذلك طلب الهدنة لربح الوقت لاستقدام مزيد من العتاد وتحقيق توازن لسلاح الطيران بعد أن فاجأتهم القدرات الجوية للوفاق، وإلا كيف لراغب في هدنة أن يواصل في شحن الذخائر بأنواعها إلى أرض المعركة ؟

وكيف يستنكرون هذه الهجمات وهم الذين مارسوا أنواع القصف لإحدى عشر شهرا بينما نظيرهم حديث عهد باستعمال سلاح الجو !

وبالاعتماد على ما سبق يمكن القول إن تحوّل خطاب المسماري من سياسة الترهيب وصندوق الذخيرة إلى توسّل السلام ومدّ غصن الزيتون ينبئ عن تخبّط في سياسات حفتر قد ترتبط بحالة مقاتليه وتأثرهم بقوّة الردع التي أجبرتهم على الانكسار ممّا كان وراء ظهور دعوات في معسكر الوفاق تنادي بمواصلة التصعيد العسكري وعدم الخضوع لطلب وقف إطلاق النار، بل واعتبرت الاستجابة لذلك خيانة صريحة، وانتقاد ذلك خيانة أيضا.

وعليه، بات من المؤكد أن السّواد الأعظم من مناصري قوات الوفاق هم مع الاستمرار وبقوة في تسديد ضربات لتحصينات القوات المعتدية حتى إبعادها عن طرابلس ثم النظر في جدية رغبتهم في السلام.

هم يرون أنّه لا عهد ولا وعد لخاسر، يريد حاليا الانتقام بمزيد قصف للعاصمة لترفيع فاتورة الخسائر المدنية حتى يتدخل داعموه بالضغط لفرض هدنة ووقف إطلاق النار ولو بثمن غال هو دماء الناس وأملاكهم، في سلسلة عقاب جماعي، وبضرب المستشفيات ومنازل المواطنين.

فكيف يريد لطرابلس أن تكون ونموذج سرت الذي يبشر به ليس ببعيد، مع معاناة الأهالي من تردي الخدمات، وهو مالا يمكن مقارنته بمدينة غريان حاليا التي عاشت نفس الوضعية.

وقد بدأت نخبة من الليبيين في الضغط منذ شهر على حكومة فائز السراج لاستبدال مستشاريه وتشكيل حكومة حرب بوزير دفاع لعكس الهجوم وعدم التراجع ، وتنقية صفوفه من المتواطئين وصفوف القوى المساندة من الذين يقدّمون الإحداثيات والمواقع للمناوئين بهدف قصفها.

فضلا عن البدء في مشروع دمج الثوار وإعطائهم أرقاما عسكرية، واستغلال التعاون التركي ومزيد العناية بهيكلية الضبّاط المنحدرين من مناطق فيها تعقيدات قبلية كالزنتان.
ومن أولائك المناصرين من دعا إلى ضرب العمق الاستراتيجي لعصابات المرتزقة ومواليهم في مدن الشرق، معتبرين أن قائد الكرامة ليس له من غاية سوى الوصول للسلطة مع عائلته مهما كلفه الأمر.

وهم يرون أنه لا خيار غير مطاردته إلى قواعده فلا فائدة في تجربة المجرّب الذي لم يقبل يوما بالسلام بدل السلاح، حتى أن الأمم المتحدة لم تعد تتستر على جرائمه بعد إستقالة غسان سلامة.

والتصريح الأخير للأمين العام أنتونيو غوتيريش بشأن حفتر الذي حمّله مسؤولية بدأ الصراع وواصفا قصف المستشفيات بجرائم الحرب، ولو أن الاعتراف جاء متأخرا وهو الذي كان في طرابلس عندما بدأ حفتر عمليته، لذلك تعتبر دعوة غوتيريش لوقف الحرب أقرب إلى مصلحة حفتر من الوفاق الذي بدأ لتوّه مرحلة الهجوم.

أما حلفاء حفتر فلم تعد تحركهم كثيرا الاتفاقية التركية مع طرابلس التي حرّكت سابقا كل المياه الراكدة وأرعبت كل الحلفاء من اليونان إلى فرنسا وإيطاليا والسعودية فقد أصبحت مذكرة التفاهم أمرا واقعا تخيف حفتر أكثر من أي وقت مضى.

حفتر قد يتخلى عن سلاحه الجوي نهائيا خشية من مبدإ المعاملة بالمثل واستهدافه في عقر داره، لذلك لم تعد قواته ترى الطريق إلا بمسالك أخرى، تتوخّى خطة بديلة وهي إطالة عمر المعركة رغم مطالبات غربية بوقفها مع تفشي وباء كورونا الذي لا يفرّق بين طرفي النزاع.

خاتمة:
لم تجن العاصمة الليبية منذ سنة غير تشريد عشرات آلاف الأطفال وتهجير آلاف العائلات، من الشرق والغرب، ودمار أحياء ومطارات وجامعات وموانئ ومستشفيات، ثمن غال يزيد ارتفاعه زمنيا.

ما حدا بقوات الوفاق إلى إعلان مرحلة الهجوم متكئة على عامل جديد، وهو سلاح الجوّ بعد تعزيز قدراتها بدفاعات جوية، في مسعى للسيطرة البريّة والجويّة لإبعاد الخطر على مدينة كل الليبين“.

وفي الأذهان يُعدّ استرجاع غريان الإستراتيجية (مفتاح طرابلس)، هدية نفيسة لقوات حفتر بالتقاط أنفاسها مجدّدا، فجلبت المرتزقة الروس (فاغنر) والسودانيين (بلاك شيلد الإماراتية) وهذا لم يكن ليحدث لولا اكتفاء قوات بركان الغضب بالدفاع.

أما تصميمها حاليا على كسب المعركة الجوية وربما فرض حظر جوي على المنطقة الغربية لمنع عبور كل أنواع الإمدادات طالما أن عملية إيرينيالأوروبية غير مجدية دون مراقبة الأجواء والحدود البرية للمنطقة الشرقية، التي ما تزال تأتيها مخصصاتها المالية من طرابلس، بينما تخصّص حكومة البيضاء كل الأموال الخاصة والعامة للمجهود الحربي.

ومع أزمتيْ إغلاق موانئ النفط وكورونا ستزداد حتما الأعباء على المجلس الرئاسي والمصرف المركزي وتلك معركة أخرى، ما لم يتم حلّها، فستُلقي بظلالها على الاقتصاد الليبي، وخاصة على الحرب على طرابلس.

***

مختار غميض ـ صحفي تونسي

___________

مواد ذات علاقة