بقلم أحمد سمير قنيطة

تطورات دراماتيكية تشهدها الثورة الليبية هذه الأيام بعد التقدّم الأخير لقوات حكومة الوفاق الشرعية والمعترف بها دولياً والممثلة في الأمم المتحدة، والتي استطاعت طرد مليشيات حفتر خارج الحدود الإدارية للعاصمة طرابلس، وقد سبقها قبل أسابيع طرد المليشيات من الساحل الليبي الغربي تماماً، وذلك بعد تحرير مدن صرمان وصبراتة وغيرها.

وكذلك تحرير قاعدة الوطيةالإستراتيجية، وصولاً لتحرير مطار طرابلس الدولي، ثم ترهونة وبني وليد وغيرها، وما زالت العملية العسكرية متواصلة سعياً لتحرير سرت والجفرة للوصول إلى الهلال النفطي الغني بمعظم ثروات ليبيا النفطية.

هذا التقدم الكبير لقوات الوفاق لم يكن ليحدث لولا دخول تركيا على خط الصراع الذي تشترك فيه قوًى دولية وإقليمية، ترغب بتأمين مصالحها والمحافظة على نفوذها في الأراضي الليبية ذات الأهمية والجيوسياسية، والتي تكتسبها من خلال وقوعها على ساحل البحر المتوسط في منطقة غنية بالنفط والغاز والثروات،

ولكي نفهم ما يحدث في ليبيا اليوم يجب أن نعرّج على عدة نقاط أهمها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية واتفاقية التعاون الأمنيالتي أبرمتها حكومة الوفاق مع تركيا بتاريخ 27 نوفمبر 2019 م، كي يضمن الحليفان تركيا وليبيامن خلالهما الحق في مباشرة صلاحياتهما في التصرف في المنطقة البحرية الخاصة بالجانبين.

اتفاقية ترسيم الحدود البحريةبين تركيا والحكومة الليبية قطعت الطريق على الكيان الصهيوني الذي سعى لتصدير الغاز الفلسطيني المنهوب إلى أوروبا عبر المياه الدولية بين ليبيا وتركيا، وقد ضربت الاتفاقية عصفورين بحجرٍ واحد،

فضمنت حق ليبيا وتركيا في التنقيب عن الغاز والثروات في مياه البحر المتوسط، وكذلك شكلت جداراً أمام خط أنابيب الغاز الفلسطيني المنهوب من قبل إسرائيلنحو أوروبا، ما سيتفتح لتركيا المجال لإمكانية اجراء مفاوضات مع الاحتلال الصهيوني، تحقق لتركيا المزيد من المكتسبات الاقتصادية قبل الموافقة على مد خط الأنابيب الصهيوني باتجاه أوروبا، وتجدر الإشارة هنا إلى أن تركيا مطالبة باحترام مبادئها وأخلاقياتها وعدم عقد أي اتفاق مع الكيان الصهيوني الذي ينهب غازنا نحن الفلسطينيين بعدما نهب أرضنا ودنّس مقدساتنا وحاصر شعبنا.

الحديث هنا يدور عن مكاسب سياسية واقتصادية تسعى تركيا لتحقيقها بفرض واقع جديد يفرض على الدول المعادية لتركيا احترام حقها في التنقيب عن الغاز في مياه المتوسط، ذلك الحق الذي سعت إسرائيل واليونان وقبرصلحرمان تركيا منه عبر مشروع خط الغاز الذي تسعى أوروبا لإنجاحه، ليكون الغاز الفلسطيني المنهوب بديلاً عن الغاز الروسي الذي يغذّي معظم احتياجات أوروبا، وهذا ما يفسّر حجم المعركة الدائرة على الاراضي الليبية اليوم بين القوى الدولية والإقليمية التي تسعى لتأمين مصالحها وتحسين فرص تأثيرها في القرار الدولي والاقليمي.

الدور التركي في المنطقة العربية برأيي مرتبط بمصالح سياسية واقتصادية أكثر منه ترجمةً لمبادئ وأخلاقيات يتغنى بها بعض العرب المحبين لتركيا كشعارات السلطانالتي يطلقها البعض على الرئيس التركي أردوغان، أو دولة الخلافةعلى تركيا، وغيرها من الشعارات التي لم يتبناها أصلاً النظام التركي،

والذي دائماً ما يصرّح بأنه يبحث عن مصالحه القومية ورفاهية شعبه وتعزيز مكانته في المنطقة والعالم، وقد يكون الموقف التركي بالمناسبة يجمع بين المبدأين ما لم يتعارضا، لذلك نجد أن مصلحة الأمة العربية والإسلامية وشعوبها الثائرة اليوم في نجاح المساعي التركية، في ظل الردة السياسية والأخلاقية التي تصدح بها الحكومات الاستبدادية العربية، كونها – أي تركيا – تسعى لتحقيق مصالحها القومية، وليست مجرد أداة كما هو حال الحكومات المتصهينة التي تعمل على تنفيذ المخططات الصهيوأمريكيةفي المنطقة.

نأتي الآن للحديث عن تطورات الأحداث العسكرية مؤخراً وعلاقتها بالتاريخ والجغرافيا الليبية، وما الذي تهدف له تركيا في هذه المرحلة بالتحديد من دعمها لحكومة الوفاق الليبية، تاريخياً تنقسم ليبيا إلى ثلاث أقاليم رئيسية اقليم برقةفي الشرق، واقليم طرابلسفي الشمال الغربي، واقليم فزانفي الجنوب الغربي، حيث تخضع المنطقة الشرقية برقةلسيطرة مليشيات حفتر بشكل كامل،

هذه المنطقة تحتوي على معظم آبار النفط في ليبيا وتنتج أكثر من ثلاثة أرباع صادرات النفط الليبي في منطقة تعرف بالهلال النفطي، وتضم حقول الزويتينةوالبريقةوالسدرةوراس لانوفوغيرها،

أما المنطقة الغربية إقليم طرابلسفتخضع لسيطرة حكومة الوفاق الوطني، لكنها كانت تتعرض لهجمات مستمرة من قبل مليشيات حفتر ومرتزقة فاغنرالروسية طيلة الأشهر الماضية قبل تحريرها مؤخراً بعد التدخل التركي، ولا تحتوي هذه المنطقة إلا على حقل البوريالنفطي وميناء الزاوية المرتبط بخط أنابيب قادم من الحقول الجنوبية.

أما الاقليم الجنوبي الغربي فزانفهي مناطق صحراوية واسعة تخضع لسيطرة القبائل الليبية ومجموعات مسلحة أخرى، وتعتبر مناطق نفوذ لعصابات حفتر التي عملت على كسب ولاءات القبائل مقابل بقائها في حقول النفط المسيطرة عليها في الجنوب،

لكنها لا تعد سيطرة حقيقة وصلبة لأن ولاءات القبائل تتغير وتتبدل وفق مصالحها القبيلة، وتحتوي هذه المنطقة على ثلاث آبار نفط مهمة تنتج ما يقارب ربع الانتاج من النفط الليبي وهي حقول الشرارةو الفيلو الوفاء“.

بذلك تكون خريطة السيطرة عملياًعلى الأرض متقاربة بعد الانتصارات الأخيرة لقوات الوفاق التي وصلت إلى مشارف سرت والهلال النفطي حتى كتابة هذا المقال، فمليشيات حفتر تسيطر على الشريط الساحلي الشرقي، والوفاق تسيطر على الشريط الساحلي الغربي، والجنوب مناطق نفوذ فقط؛

إذا ما وضعنا في الاعتبار أن سيطرة حفتر على الجنوب معتمدة على الولاءات وليس على القوة العسكرية الصلبة التي ستتحول لصالح الوفاق لاحقاً فيما لو استطاعت تثبيت انتصاراتها الأخيرة.

فالذي تسعى له تركيا – بظني – في هذه المرحلة هو تأمين وحماية اقليم طرابلس العاصمة وما حولهالضمان سريان الاتفاق البحري والأمني الذي وقعته مع حكومة الوفاق الليبية، ما يعني أن قضية تحرير الشرق الليبي من سيطرة مليشيات حفتر ليست واردة في الحسابات التركية في المدى القريب على الأقل، فسيطرة حكومة الوفاق المعترف بها دولياً وبسط سيادتها على اقليم طرابلس يضمن لتركيا استمرار سريان الاتفاق البحري،

وبسقوط الوفاق سيسقط فعلياً هذا الاتفاق الذي سيسعى حفتر بدعم اماراتي – مصري – دوليللتنصل منه أو إلغاؤه بشكل كامل في إطار صراع قوى الثورة المضادة مع الدور التركي في المنطقة.

بذلك تفرض تركيا نفسها بقوة على اللاعبين الدوليين والاقليميين المتصارعين على الثروة البحرية الغاز والنفطفي البحر المتوسط، تاركةً الباب مفتوحاً أمامهم لإمكانية عقد مذكرات تفاهم أو صفقات اقتصادية قادمة، تضمن المصالح التركية في مياه المتوسط، فالإمارات والسعودية ومصر ليست الدول الوحيدة الطامعة في الحصول على صفقات للحفر والتنقيب عن النفط والغاز،

فهناك قوى دولية كإيطاليا وفرنسا وروسيا وأمريكا وألمانيا وإسبانيا؛ كلها تتصارع من أجل الظفر بعقود التنقيب عن النفط الليبي الذي يشكّل أضخم احتياطيات نفطية مؤكدة في إفريقيا.

استراتيجياً؛ نجد إن النفوذ التركي المتنامي في المنطقة؛ والذي تؤسس له تركيا عبر بوابة القانون الدولي، استناداً للمصالح المشتركة التي تربط تركيا بجيرانها، فإن هذا النفوذ يساعد تركيا في دعم وتأييد الحكومات الشرعية في مواجهة موجة الانقلابات التي تدعمها الإمارات والسعودية بموافقة أمريكية غربية من جهة،

وكذلك مشاغلة تركيا لقوى الثورة المضادة خارج الجغرافيا التركية كما في (سوريا وليبيا)، للحفاظ على الأمن القومي التركي من جهة أخرى، لذلك فإن الناظر المتفحّص يجد أن الحراك التركي في المنطقة ينطلق من قاعدة أساسية لا يخفيها النظام التركي،

وهي ضمان أمن واستقرار الدولة التركية، ورفاهية الشعب التركي في المقام الأول، ثم دعم الأنظمة الشرعية ومواجهة الانقلابات على ارادة الشعوب في المقام الثاني، كي لا تتكرر مأساة الشعب التركي الذي عانى من حقبة سوداء في تاريخه داس فيها جنرالات الجيش على صوت الشعب وصادروا الشعوب العربية الثائرة وقواها السياسية الشريفة لا شك أنها ستستفيد من الدور التركي في المنطقة،

من خلال عقد تحالفات استراتيجية مع تركيا تضمن حشد الدعم والتأييد السياسي والعسكري والاستخباري التركي في مواجهة قوى الثورة المضادة، وبذلك تحقق الشعوب العربية أهدافها المنشودة في التحرر والانعتاق من الحكم الاستبدادي، وتحقق تركيا أهدافاً سياسية واقتصادية تخدم طموحاتها في زيادة تأثيرها في القرار الدولي،

وعلى هذا المبدأ تقوم العلاقات الدولية بين الدول في العالم، بانتظار أن تتحرر الشعوب وتتهيأ الأمة لقيامة جديدة تنتشلها من مستنقعات الظلم والظلام وحكم جنرالات الدم وأباطرة المال، لتقدّم للعالم نموذجاً فريداً للتحالفات القائمة على قاعدة دعم الحق ومقاومة الظلم واغاثة الملهوف ونصرة الضعيف قبل المصالح السياسية والاقتصادية.

***

أحمد سمير قنيطة ـ طالب ماجستير في برنامج الدبلوماسية والعلاقات الدولية، مهتم بالقضايا العربية والإسلامية وعلى رأسها قضية فلسطين.

____________

مواد ذات علاقة