عد تسعِ سنواتٍ عجافٍ مرّت منذ اندلاع الثورة الليبية عام 2011، لا زالت ليبيا في النفق المُظلم، فالانقسام السياسي والصراع العسكري لم يحسما الخلاف لصالح الطرف الأقوى حتى الآن.

كذلك فشلت كافة خطط الأمم المتحدة في الوصول إلى تسوية عبر المفاوضات؛ فالسلاح لم يحلّ المشكلة، والمبادرات الدولية مزّقت كل الأطراف لصالحها.

وفي ظل وصول الأزمة لطريق مسدود بعد تحول ليبيا إلى حرب أهلية تزامنت مع عودة جنرال ليبي منزوع النفوذ والشرعية؛ ليصبح بعد ثلاث سنواتٍ محط أنظار الجميع، بعدما فرض اسمه سياسيًا وحضوره عسكريًا في أغلب الأراضي الليبية. لم يكن أمام أوروبا على ما يبدو سوى تجاهل الصراع العسكري على أمل أن يفرض المنتصر شرعيته السياسية.

التقرير التالي يوضح لك أبرز المبادرات التي ارتبطت بمسارات الحل السياسي للأزمة الليبية، والتي أضاعها حفتر الذي عوّل على مقدرته إحراز نصر عسكري.

اتفاق الصخيرات.. حل أممي لأزمة دستورية

بالنسبة للعديد من المحللين فإن الخلفية السياسية لتدخل الأمم المتحدة للوصول إلى اتفاق الصخيرات هو الخوف من تهديد المصالح الأوروبية في الداخل عقب قرار المحكمة الدستورية بطلان الانتخابات البرلمانية أواخر عام 2014؛ لتنقسم ليبيا فعليًا إلى ما هو أشبه بالدولتين؛ فالبرلمان الذي رفض القرار شكّل حكومةً في الشرق، بينما المؤتمر الوطني – السُلطة التشريعية المؤقتة – الذي أيّد القرار أعلن تشكيل حكومة في الغرب.

تم توقيع اتفاق الصخيرات – التسوية السياسية الأهم في تاريخ الأزمة – في ديسمبر (كانون الأول) عام 2015، ونصَّ الاتفاق وقتها على تشكيل حكومة وفاق وطني تحظى باعتراف دولي من الأمم المتحدة، ويكون في صلاحياتها تعيين قادة الجيش، كما حددت الأمم المتحدة أن السلطة التشريعية تضم برلمان طبرق، المُنتخب والمعترف به دوليًا، بالإضافة لتشكيل مجلس أعلى للدولة يتولى إبداء الرأي الملزم بأغلبية في مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية التي تعتزم الحكومة إحالتها إلى مجلس النواب.

رفض حفتر الاتفاق إلى جانب مجلس النواب الاتفاق، وتشكلت ثلاث حكومات، أولها حكومة الوفاق في طرابلس برئاسة فائز السراج، وحكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل، عضو حزب «العدالة والبناء» – المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين – وبالرغم من أنّها لم تحظَ بدعم دولي، إلا أنها كانت تسيطر على أجزاء كبيرة من غرب ليبيا وجنوبها قبل اندثارها، وفي أقصى الشرق تشكلت حكومة برلمان طبرق برئاسة عبد الله الثني، وتضع ولاءها تحت قيادة حفتر.

قرار الأمم المتحدة حظر تصدير السلاح

انقسام ليبيا إلى ثلاث حكومات مهّد لبدء حرب الوكالة، في ظل انتشار رقعة تنظيم الدولة، وبعد تحذيرات أطلقها المبعوث الأممي الأسبق إلى ليبيا مارتن كوبلر بأن ليبيا تسبح في بحر من الأسلحة بوجود 20 مليون قطعة سلاح في البلد الذي تسكنه 6 ملايين نسمة، أصدر مجلس الأمن قرار رقم 2292 لسنة 2016 والخاص بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا ليكون امتدادًا للقرار رقم 1970 لسنة 2011.

يسمح القرار للدول الأعضاء في الأمم المتحدة بصفتها أو عبر منظمات إقليمية – بما في ذلك الاتحاد الأوروبي – بتنفيذ حظر السلاح المفروض على ليبيا، وذلك بالتشاور مع حكومة الوفاق الوطني، ويتضمن ذلك السماح بتفتيش السفن المتجهة إلى ليبيا أو القادمة منها في المياه الدولية، والتي يشتبه في نقلها أسلحة بطريقة غير مشروعة.

والقرار الذي مازال ساريًا إلى اليوم لم يخلُ من بعض الخروقات، فروسيا التي خسرت مليارات في صفقات السلاح بسبب سقوط القذافي زودت حليفها سرًا بالعتاد العسكري في محاور القتال، وتقرير الأمم المتحدة يكشف جزءًا آخر من القصة؛ فمصر والإمارات هرّبتا أسلحة إلى ليبيا شملت ذخائر وأسلحة خفيفة وثقيلة وحتى طائرات.

ما هي نقاط القوة والضعف عند حفتر والسراج؟

في 31 مارس (أذار) الماضي، أطلق الاتحاد الأوروبي عملية إيريني العسكرية، بهدف مراقبة بحرية لتطبيق قرار حظر توريد الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا عقب سقوط القذافي، والعملية التي حصلت على الضوء الأخضر من المجلس الأمن، حصلت بالإجماع مؤخرًا على تمديد عملها لمدة عام قبالة السواحل الليبية.

اتفاق الصخيرات، إضافة القرار الأممي يحظر توريد السلاح لم يحل الأزمة الليبية، وهو ما استدعى تدخلًا مباشرًا من الدول الفاعلة في الملف الليبي.

بيان القاهرة .. حفتر والسراج وجهًا لوجه

في فبراير (شباط) عام 2017، استقبلت رئيس أركان الجيش المصري السابق الفريق محمود حجازي ممثلًا للجنة الوطنية المعنية بالملف الليبي كل من خليفة حفتر، وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب، وفايز السراج رئيس المجلس الرئاسي الليبي، فضلًا عن أعضاء من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وممثلين لأعيان وقبائل ليبيا.

مثّلت الاجتماعات التي عُرفت باسم «لقاءات» القاهرة فرصةً لتسوية الأزمة الليبية بعد فشل الأمم المتحدة عقب عدم تنفيذ بنود «اتفاق الصخيرات»، واقترحت مصر مبادرة مكونة من أربعة بنود رئيسة.

بحسب المبادرة المنشورة على موقع الهيئة العامة للاستعلامات التابع للرئاسة المصرية، فالوسيط المصري اقترح تشكيل لجنة مشتركة من أعضاء مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لتعديل الاتفاق السياسي، ثم رفعها لمجلس النواب الليبي لاعتمادها، وفي البند الثاني خوّل لمجلس النواب بإجراء التعديلات الدستورية اللازمة لتضمين الاتفاق السياسي في الإعلان الدستوري، ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في موعد أقصاه فبراير 2018، مع استمرار جميع شاغلي المناصب الرئيسة في ليبيا.

بالرغم من التقارب العلني والتوافق الذي أحدثته القاهرة بين حفتر والسراج، إلا أنّ المبادرة المصرية فشلت نتيجة تهديد قادة البنيان المرصوص، وعسكريين، وضباط يترأسون كتائب ضاربة وقوية بغرب البلاد، باقتحام العاصمة طرابلس والسيطرة عليها في حال استمرار مسار القاهرة لضم حفتر وضباطه ضمن قيادة الجيش.

مبادرة المبعوث الأممى غسان سلامة

بعد فشل مبادرة «بيان القاهرة»، أطلق المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا غسان سلامة في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2017، مبادرة سياسية مكونة من 11 مادة، جاءت نتيجة للتشاورات التى أجريت فى العاصمة التونسية، وحضرها وزراء خارجية مصر، وتونس، والجزائر.

قصدت المبادرة بالأساس إعادة إحياء الاتفاق السياسي الليبي وحكومة الوفاق الوطني، والسعي لإنشاء حكومة وحدة وطنية بالاتفاق بين الطرفين والبدء في إصلاحات اقتصادية واسعة في البلاد، من خلال توحيد مؤسسات الدولة المنقسمة، وعلى رأسها مؤسسة النفط والبنك المركزي دون النظر في الوقت الحالي في مؤسسة الجيش التي يشمل الحديث عن رئاستها محور خلافات الأطراف الرئيسة، في إشارة إلى مستقبل حفتر في الملف الليبي.

وعلى هذا الأساس اقترح سلامة تشكيل سلطة تنفيذية مشتركة من الرئاسة والحكومة ويكون مقرها الرئيسي العاصمة طرابلس، مع استمرار جميع الأعضاء في أداء مهامهم إلى حين إجراء انتخابات نيابية ورئاسية، أما بالنسبة للبرلمان، فمنحه سلامة وفق اقتراحه سلطة سحب الثقة من الحكومة بموجب طلب مكتوب موقع من 50 عضوًا من أعضائه.

وتعليقًا على مبادرة المبعوث الأممي؛ لم يتأخر برلمان طبرق لإعلان موافقته بالإجماع على المقترح دون إبداء ملاحظات عليه، وعلى النقيض أبدى المجلس الأعلى للدولة تحفظاته على المقترح، وفشلت المبادرة في النهاية، بسبب رفض الوفاق لها من جهة، وتمسك اللواء المتقاعد خليفة حفتر بمنصبه، وعرقلته أي تسوية لا تضمن له دورًا فاعلًا بالسلطة العسكرية.

المبادرة الفرنسية.. 13 بندًا لم يتحقق

في أواخر يوليو (تموز) عام 2017 جمعت فرنسا طرفي الصراع الليبي بحضور المبعوث الأممي إلي ليبيا، لكنّ اللقاء والمفاوضات فشلت بسبب تمسك الوفاق باتفاق الصخيرات الذي يرفضه حفتر. وفي مايو (أيار) عام 2018، استضاف قصر الإليزية في فرنسا مبادرة جديدة حضرها رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، وقائد الجيش، المشير خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، ورئيس مجلس الدولة خالد المشري، بمشاركة مبعوث الأمم المتحدة الخاص لليبيا، غسان سلامة، وحضور ممثلين عن 20 دولة.

والمبادرة التي تتضمن 13 بندًا هدفت بالأساس إلى إنهاء ثنائية السُلطة في البلاد، وحل جميع المؤسسات الموازية، إضافة للاعتراف بالدستور الذي صاغته الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، ووقف إطلاق النار، وتوحيد الجيش الليبي والوصول إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل نهاية عام 2018.

حكومة الوفاق الوطني اشترطت خلال المبادرة الاستفتاء على مشروع الدستور قبل إجراء أي انتخابات، وإبعاد العسكريين عن العملية السياسية، والإبقاء على اتفاق الصخيرات السياسي مرجعية لحل الخلاف، ونتيجة لذلك اعترض رئيس المجلس الدولة خالد المشري على حضور حفتر؛ بدعوى أنه ليس من الأطراف السياسية المنصوص عليها الاتفاق السياسي.

المبادرة الفرنسية فشلت في النهاية لأنّها جاءت برعاية فرنسية، وليس من الأمم المتحدة مباشرة، وهو ما جعلها غير مُلزمة للأطراف المنخرطة في المفاوضات، خاصة وأنهم رفضوا التوقيع على البنود التي وافقوا عليها شفاهةً. وعلى خطا الأزمة حاولت ألمانيا فرض نفسها داخل الملف الليبي عبر مؤتمر برلين الذي عُقد أوائل العام الجاري، وضم 12 رئيسًا يُشار لهم بأنهم شركاء بشكل أو بآخر في الحرب بالوكالة بليبيا، لكنّ المؤتمر الذي فشل في وقت إطلاق النار جاءت مُخرجاته علانيةً على النحو الآتي: «نفط ليبيا أولًا.. ثم الهدنة».

الملتقى الوطني الجامع.. مبادرة فشلت قبل أن تبدأ

عوّلت البعثة الأممية على عقد المؤتمر الوطني الجامع بهدف وضع حلٍ نهائي للأزمة الليبية، وهو الذي سبقه قبل شهر اللقاء الأخير بين حفتر والسراج في أبو ظبي، ما أعتبر خطوة تمهدية لحلٍ سياسي شامل بعد اتفاق الطرفين على إنهاء المرحلة الانتقالية وإجراء انتخابات.

حتى تلك اللحظة كان طرفا الصراع قد جمعتهما المبادرات والمفاوضات العلنية والسرية في فرنسا، وإيطاليا، وأبوظبي، بهدف الاتفاق حول إعادة تشكيل المجلس الرئاسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية يصدِّق عليها البرلمان، والاتفاق حول من يتولى قيادة المؤسسة العسكرية وتبعيتها، بالإضافة لإعلان انتخابات برلمانية قبل انتهاء العام الجاري، وتحديد موعد الاستفتاء على الدستور، وبالرغم أنّ هذه المفاوضات حضرها المبعوث الأممي، إلا أنّ حفتر لم يقدم وعودًا بتنفيذها.

وفي مارس عام 2019 دعت الأمم المتحدة الأطراف الليبية لعقد الملتقى الوطني الجامع الذي كان من المقرر عقده في 14 أبريل (نيسان) العام الماضي لتحديد موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والاتفاق حول موعد الاستفتاء على الدستور بهدف إنهاء ثماني سنواتٍ من الصراع على عرش القذافي.

لكنّ حفتر الذي كان قد عاد للتو من زيارته للسعودية، أطلق النفير العام للسيطرة على طرابلس قبل 10 أيامٍ من عقد المُلتقى الوطني الجامع الذي كان سيحضره الجنرال الليبي حينها كأقوى رجلٍ في ليبيا، لولا هجومه الذي فشل لاحقًا.

مبادرة القاهرة.. الخاسر يحاول يفرض شروطه

بعد نحوٍ عامٍ ونصفٍ على معركة طرابلس، نجحت حكومة الوفاق بدعمٍ تركي من السيطرة الكاملة على غرب ليبيا برًا وجوًا، كما سيطرت على كامل مدن غلاف العاصمة الليبية طرابلس بعد انسحاب قوات الجنرال الليبي منها، لتبدأ الوفاق هجومًا مضادًا للزحف على مدينة سرت بعد السيطرة على قاعدة الجفرة الاستراتيجية، لتكون منطقة الهلال النفطي – تحوي 80% من النفط الليبي – في مرمى نيران الوفاق.

«بيرقدار».. طائرة تركية قلبت موازين الحرب في سوريا وليبيا

هرع حفتر إلى القاهرة التي استضافت معه عقيلة صالح، رئيس برلمان طبرق، ليخرج الرئيس المصري بما عُرف بـ«مبادرة القاهرة» لإنهاء الأزمة الليبية تكون مرجعيتها مواثيق الأمم المتحدة. حددت المبادرة وقف فوري لإطلاق النار عبر استكمال المفاوضات وأعمال اللجنة العسكرية «5+5» بجنيف، مع إلزام الجهات الأجنبية كافة بإخراج المرتزقة الأجانب من الأراضي الليبية، وتفكيك الميليشيات وتسليم أسلحتها، مع تمثيل لأقاليم ليبيا الثلاثة في مجلس رئاسي ينتخبه الشعب تحت إشراف الأمم المتحدة، ثم اعتماد إعلان دستوري يمثل استحقاقات المرحلة المقبلة سياسيًا وانتخابيًا.

وجدير بالذكر أنه وقت مبادرة جنيف كان المتحدث باسم قوات حفتر أحمد المسماري قد صرح بأن مشاركتهم وذهابهم إلى المفاوضات والمؤتمرات الدولية ليس للبحث عن حل للأزمة الليبية، فالحل واضح بالنسبة له وهو يكمن في البندقية ومخزن الذخيرة بحسبه، وأكد حينها أن معركة طرابلس لن تتوقف حتى سيطرة حفتر عليها وإبعاد ما سماه هيمنة الميليشيات.

وبالرغم من الزخم العربي والدولي الذي أحاط بالمبادرة المصرية، إلا أنّ حكومة الوفاق أعلنت رفضها رسميًا للمبادرة وصرحت بأن «الليبيين ليسوا في حاجة لمبادرات جديدة»، كما رفضت ما أسمته محاولة حفتر للعودة إلى المفاوضات بعد هزيمة عسكرية، وحتى اللحظة تستمر معارك ضارية في مدينة سرت الليبية ضمن مرحلة جديدة بدأتها حكومة الوفاق تستند إلى إنهاء المبادرات والمفاوضات السياسية وبدء مرحلة الحل العسكري، إلى حين يفرض المنتصر شرعيته في النهاية.

_____________

مواد ذات علاقة