منذ انتقل الصراع الليبي إلى جبهة الشرق، وحكومة الوفاق المعترف بها دوليًا تواجه مشهدًا مُعقدًا ومُغايرًا لما كانت عليه الأوضاع سياسيًا وعسكريًا في معركة طرابلس.

فبعدما حققت تلك القوات المدعومة تركيًّا انتصاراتٍ عسكرية ونوعيةٍ متتالية انتزعت بموجبها الغرب الليبي بأكمله، توقفت عملياتها مؤخرًا على حدود مدينة سرت بعد تعرض قواتها في اليوم الأول للهجوم لقصفٍ جويٍ روسيٍ مُكثّف خلّف أكثر من 80 قتيلًا، ممّا أجبرها على التراجع لترتيب تمركزات الخطة برمتها.

وسرت التي تقبع في وسط ليبيا، وتوصف بأنها بوابة العبور إلى الشرق، كانت أيضًا بوابة الخلاف الكبير بين موسكو وأنقرة؛ فالتفاهم التركي الروسي الذي ظل ساريًا ومُتحكمًا لأشهرٍ في طرفي الصراع، تعثر مؤخرًا بعد فشل جولة المباحثات الأخيرة بين البلدين، بسبب رفض أردوغان طلب بوتين وقف إطلاق النار، وعدم اعتبار مدينة سرت هدفًا قادمًا للوفاق، وهو الخلاف الذي من المقرر أن تحسمه معركة ضارية على الأرض.

يشرح هذا التقرير أبعاد الصراع الروسي التركي، ولماذا قد ينتصر حفتر في معركة سرت تحديدًا رغم خسائره السابقة.

«خط أحمرٌ».. لماذا فجرت سرت الخلافات بين روسيا وتركيا؟

بعد نحوٍ عامٍ ونصفٍ على معركة طرابلس التي أطلقها حفتر في أبريل (نيسان) العام الماضي، نجحت حكومة الوفاق بدعمٍ تركي من السيطرة الكاملة على غرب ليبيا برًا وجوًا، كما سيطرت على كامل مدن غلاف العاصمة الليبية طرابلس بعد انسحاب قوات الجنرال الليبي منها، لتبدأ الوفاق هجومًا مضادًا للزحف على مدينة سرت، ومن بعدها قاعدة الجفرة الاستراتيجية، لتكون منطقة الهلال النفطي – تحوي 80% من النفط الليبي – في مرمى نيران مدفعية الوفاق.

ووفق الخُطة المُعلنة، تقدمت قوات حكومة الوفاق 120 كيلومترا حتى وصلت إلى أطراف مدينة سرت، لكنها واجهت حقول ألغام وتعرضت لغارات جوية روسية أوقعت خسائر في صفوفها، مما دفعها للتراجع لتصبح على بعد 50 كيلومترا من وسط المدينة.

نقلت صحيفة «ديلي صباح» التركية، المقربة من الحزب الحاكم، أنّ موسكو أبلغت تركيا وحكومة الوفاق بأنّ مدينة سرت ومنطقتها خط أحمر بالنسبة إلى روسيا، وتضيف الصحيفة بأنّ الرسالة التي نقلها، أحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، إلى فايز السراج خلال زيارته إلى موسكو، أشعلت غضب طرابلس التي واصلت إرسال تعزيزاتها بعد سحب المقاتلين من أغلب الجبهات.

الرغبة الروسية في منع سقوط سرت تكمن في التنافس التركي الروسي على المدينة، فبينما ترغبُ موسكو في إقامة قاعدة عسكرية دائمة في الجفرة على غرار قاعدة «حميميم» في سوريا، إضافة إلى قاعدة بحرية أخرى في سرت الساحلية تضمن لها موطئ قدم في شمال أفريقيا، والوصول عبر الجهتين – سوريا وليبيا – إلى شرق البحر المتوسط، حيث الدول التي تتصارع على الطاقة من جهة، ولتهديد حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهةٍ أخرى ردًّا على تهديدات «الدرع الصاروخية» للناتو بالقرب من حدودها الغربية.

عل جانبٍ آخر، تمتلك تركيا الأهداف والدوافع ذاتها لمنع روسيا من السيطرة على المدينة، فبحسب ما كشفه مسؤول تركي لـ«رويترز»، تتطلع أنقرة لإنشاء قاعدتين عسكريتين لها في ليبيا على غرار قاعدتها في قطر، تكون الأولى في قاعدة الوطية الجوية في أقصى الغرب الليبي، بينما الثانية في مدينة مصراتة الساحلية، بمال يعزز وجودها البحري في منطقة تعج بموارد النفط والغاز البحرية، ولا ترغب تركيا في استحواذ روسيا على المدينة لأنه يهدد مشروع قواعدها.

الدوافع الاقتصادية التركية من التدخل رسميًا في ليبيا، باتت أكثر وضوحًا، بعدما أعلنت وكالة «الأناضول» الرسمية أنّ شركات الطاقة التركية تستعد لمواصلة مشاريعها في ليبيا في المناطق التي تسيطر عليها حكومة الوفاق، في وقتٍ تقدمت فيه أنقرة بطلب رسمي للحصول على تراخيص للتنقيب عن النفط وإنتاجه في ليبيا، ولامتلاك مدينة سرت أكبر حوض غاز مكتشف، اكتسبت المدينة أهمية اقتصادية كبرى لمن يسيطر عليها.

أهمية معركة سرت الجيوسياسية بالنسبة لروسيا دفعتها لنشر طائرات مقاتلة بالقواعد الجوية التابعة لحفتر، بهدف تهديد الطائرات التركية دون طيار «بيرقدار» التي قلبت موازين المعركة في الغرب، بالإضافة إلى قصف أية تحركاتٍ برية تستهدف مدينة سرت، وهي الأسباب التي أجبرت قوات حكومة الوفاق على الانسحاب في الجولة الأولى من المعركة بعد تعرضها لغاراتٍ مكثفة.

من وجهة نظرٍ عسكرية، فالسيطرة على سرت تفتح الباب أمام السيطرة على قاعدة الجفرة الجوية الاستراتيجية التي تتحصن بداخلها الطائرات الروسية، كما أنها بوابة العبور إلى مناطق الهلال النفطي، ومن ورائها قلعة حفتر الحصينة في بنغازي، وما يعقّد خريطة الصراع، هو أنّ الطموحات العسكرية لحكومة الوفاق العسكرية المتعلقة بالسيطرة على حقول النفط تصطدم باعتبارات إقليمية سياسية بالنظر إلى حرب الوكالة التي تشهدها الساحة الليبية.

ومع وصول التفاهمات الروسية التركية إلى طريقٍ مسدود، قدّرت قيادة القوات الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) عدد المرتزقة الروس الذين يقاتلون حاليًّا في صفوف قوات حفتر بنحو ألفي مرتزق قاموا مؤخرًا بتلغيم مدينة سرت لمنع قوات الوفاق من اقتحامها، وتعوّل روسيا ومن ورائها حفتر على تلك القوات غير النظامية في قلب ميزان المعركة.

عودة فاجنر.. كيف يرسم المرتزقة الروس اتجاه الصراع في ليبيا؟

تمثل مجموعة فاجنر الروسية كلمة السر في التحولات العسكرية الأخيرة التي شهدها محيط طرابلس لصالح قوات حكومة الوفاق، فبعد مكالمة هاتفي بين الرئيسين بوتين وأردوغان في 18 مايو (آيار) الماضي، انسحب المرتزقة الروس من الخطوط الأمامية قرب طرابلس، كما غادرت قوات مجموعة فاجنر مدينة ترهونة وتوجهت إلى بني وليد والجفرة، وهو ما تسبب في الخسائر التي نالتها قوات الجنرال الليبي وانسحابها من الغرب الليبي.

انسحاب فاجنر من محاور القتال للضغط على حفتر للقبول بوقف إطلاق النار تكرر مرة أخرى في يناير (كانون الثاني) العام الحالي، فبعدما رفض الجنرال الليبي التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، الذي فرضته روسيا وتركيا على طرفي النزاع، كانت ورقة فاجنر هي العقاب السريع الذي حرمه من استئناف المعارك.

بحسب تقرير سري صادر عن الأمم المتحدة مكون من 75 صفحة، تعمل مجموعة فاجنر في ليبيا منذ أكتوبر (تشرين الأول) عام 2018، وتقدم مساعدات فنية لإصلاح المركبات العسكرية وتشارك في العمليات العسكرية، ويقدر التقرير عدد عناصر المجموعة الموجودين في ليبيا بنحو 1200 عنصر.

عودة مجموعة فاجنر للمشهد مرة أخرى، لتخوض معركة سرت إلى جانب حفتر، تمثل تحديًا كبيرًا لقوات حكومة الوفاق التي ترغبُ في الهجوم على المدينة لكن وجود القوات الروسية يعرقل تقدمها للداخل، خاصة مع زرع المقاتلين الروس ألغامًا في محاور قتال غرب سرت وجنوبها، لإعاقة التقدم البري لقوات الوفاق وتأخير سيطرتها على المدينة.

استعدت روسيا أيضًا، بحسب الاتهامات الرسمية للوفاق، لمعركة سرت المرتقبة عبر استقدام مقاتلين من سوريا للانضمام إلى محاور القتال في سرت إلى جانب فاجنر، وهو الخطر الذي يعرقل تقدم قوات الوفاق داخل المدينة، رغم أنها عززت وجودها بالمدفعية الثقيلة والمتوسطة.

وإلى جانب أنّ سرت هي الجبهة الوحيدة التي يحشد كلا الطرفين قواته عندها، فإنّ استماتة فاجنر في الدفاع عن المدينة من الداخل، قد يؤدي لتحويل المعارك صوب الجنوب الليبي، خاصة أنّ تلك المجموعة الروسية تتواجد على بُعد عدة كيلو متراتٍ في قاعدة الجفرة الجوية الواقعة جنوب سرت، وهي، باعتراف حكومة الوفاق، أخطر القواعد التي استخدمها حفتر في هجومه على العاصمة، ومن المحتمل أن تؤدي دورًا مضادًّا ضد قوات الوفاق.

وأمام سيناريوهات الحرب، ربما تجد حكومة فايز السراج نفسها أمام خطتين؛ الاندفاع بقوةٍ إلى معركة مجهولة النتائج في مدينة سرت، أو الاتجاه جنوبًا في خطة بديلة لبدء معارك انتزاع الجنوب الليبي الذي يضم عددًا من حقول النفط، وأمام القصف الجوي المكثف الذي واجهته حكومة الوفاق، اتجهت قواتها بالفعل لاستهداف خطوط إمداد حفتر في الجنوب الليبي تمهيدًا للسيطرة عليه.

وبالرغم من خسارة حفتر الأخيرة، فلا يزال الجنرال الليبي يحصل على مظلة عسكرية سخية من حلفائه، إضافة لجبهات قتال قوية ممثلة في شرق ووسط ليبيا التي تحتوي على قواعد جوية، وقبائل موالية، وآبار نفط، إضافة إلى أوراق قوة أخرى؛ وهو الوضع الذي يفتح سؤالًا للطرف المنتصر حتى الآن في الغرب الليبي الذي لم يصل بعد لذروة انتصاراته: «ما مدى قدرة الوفاق على حسم معارك سرت؟».

السؤال المنسي.. ما مدى قدرة الوفاق على حسم معركة سرت؟

لا تنفصل الانتصارات العسكرية الأخيرة التي حققتها حكومة الوفاق في الغرب الليبي، عن ترتيبات ما قبل المعركة، والتي لا تعدو مجرد انتصاراتٍ مفاجئة كما يُروج لها، فحكومة الوفاق اعتمدت استراتيجة الاستنزاف وقطع إمدادات قوات حفتر إلى المنطقة الغربية عبر القصف المباشر من قبل سلاح الجو التي الذي احتكر سماء المعركة، وهي نقطة الضعف التي تواجه الوفاق في سرت.

تعدد جبهات القتال لم يكن أيضًا في صالح حفتر الذي قسّم جيشه عبر أكثر من جبهة حول العاصمة، لكنّ الوضع حاليًا يشهد جبهة موحدة للقتال، وهو السيناريو الذي لا يصب في مصلحة حكومة الوفاق نظرًا لطبيعة المدينة جغرافيًا وسياسيًا وعسكريًا.

نظريًا، تقع مدينة سرت في مرمى مدفعية حكومة الوفاق، لكنها جغرافيا منطقة صحراوية كبيرة ومقسمة لأحياء، وهو ما قد يدفع الوفاق لخسائر الخوض في حرب استنزافٍ فيها بدون امتلاك مظلة جوية تمكنها من تسيّد سماء المعركة.

ومن وجهة نظرٍ عسكرية، فالسيطرة على سرت تتطلب أولًا إسقاط قاعدة الجفرة الجوية التي قطعت الطريق على وجود الطائرات التركية المسيرة، وتسببت في انسحابات قوات الوفاق بعيدًا عن المدينة لأكثر من 50 كيلو متر هربًا من الضربات الجوية، والوصول إلى القاعدة الحصينة وللوصول إلى القاعدة الحصينة يتطلبُ أولًا المرور لانتزاع المدينة التي يعني سقوطها نقل المعارك إلى داخل قلعة الجنرال الليبي في قلب الشرق.

اعتبرت وكالة «الأناضول» التركية الرسمية أنّ قوات حكومة الوفاق لن تتمكن من السيطرة على سرت قبل تحييد طيران حفتر المسير، نظرًا لأنّ قوات المشاة لن تتمكن من التقدم بدون مظلة صاروخية، واستدلت الوكالة التركية بحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، حين خسرت مصر 250 دبابة في معركة المضائق بسيناء ضد الجيش الإسرائيلي بعد ابتعادها عن مظلة الصواريخ المضادة للطيران.

وسبق للقوات التي تقاتل حاليًا مع حكومة الوفاق أن خاضت معارك مريرة في سرت عقب سيطرة تنظيم الدولة عليها في (يونيو) حزيران عام 2015، ولم تتمكن من استعادتها إلا بعد عامٍ كاملٍ، بعد تدخل كتائب مصراتة – أقوى الكتائب في غرب ليبيا – التي حصلت على دعمٍ جوي وعسكري أمريكي.

وعلى النقيض فاستبدال تنظيم الدولة، بمجموعة فاجنر الروسية، إلى جانب التفوق الجوي لقوات حفتر يجعل معركة سرت بالنسبة للوفاق عملية مستحيلة، والسيطرة عليها سيتطلب وقتًا أطول قد يستنزف مواردها.

الأخطر في المدينة أنها مسقط رأس الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، وتتمركز بها قبيلته «القذاذفة» التي يُشار إليها بكونها أكثر القبائل تسليحًا، والتي تناصب قوات حكومة الوفاق العداء، إلى جانب أنّ المدينة نفسها تنتشر بها قبيلة الفرجان التي ينتمي لها حفتر، وهو العامل الديموجرافي الذي يجعل سرت بخلاف أهميتها الاستراتيجية، أصعب جولة من المعارك الدائرة التي قد ينتصر فيها حفتر رغم هزائمه الكبيرة السابقة.

___________

مواد ذات علاقة