بقلم محمد السعيد

رغم أن المجتمع الليبي يظل مجتمعا متجانسا من حيث الدّين والمذهب مع تناغم عرقي تاريخي بين الأمازيغ والعرب، فإن أقاليم ليبيا التي نعرفها اليوم في الشرق والغرب والجنوب فشلت في الاندماج معا تحت سلطة سياسية موحدة على مدار الجزء الأكبر من تاريخ البلاد.

.الجزء الثاني

وبالنظر إلى محدودية قدرات الجيش الوطني الليبي العسكرية، أصبح كسب شيوخ القبائل والأعيان هو العنصر الأساسي في استراتيجية حفترلتوسيع سلطته، حيث نجح الجنرال الليبي من خلال هذه الاستراتيجية في السيطرة على موانئ الهلال النفطي ذات الأهمية الاستراتيجية في سبتمبر/ أيلول عام 2016، وشرع في استخدام تكتيكات مماثلة في الجنوب عبر التفاوض مع شيوخ فزان والقبائل الموالية للقذافي مثل المقارحة والحساونة والقذاذفة، بخلاف القبائل الجنوبية الكبرى مثل الزوية وأولاد سليمان.

وهو ما مكن حفتر في النهاية من ادعاء السيطرة على مساحات كبيرة من الجنوب الليبي رغم أن قبضته الفعلية عليها ظلت ضعيفة جدا.

مكن هذا الدعم القبلي الكبير، بالإضافة إلى الدعم الذي تلقاه حفتر من العديد من القوى الإقليمية والدولية وعلى رأسها الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا وروسيا، مكن حفتر من التشبث بخطته في السيطرة على كامل ليبيا بالقوة والانقلاب على اتفاق الصخيرات السياسي الذي توسطت فيه الأمم المتحدة عام 2015 وتشكلت بموجبه حكومة الوفاق الوطني، في الوقت الذي عانت فيه الحكومة الجديدة المعترف بها دوليا بقيادة فايز السراج في التعامل مع القبائل وإشراكها في السلطة بطريقة ذات مغزى.

لم يكن هذا الفشل مفاجئا بالنظر إلى النظرة الحضرية السائدة لدى السلطات في طرابلس ومصراتة، وارتباط الحكومة بالمكونات الإسلامية المختلفة، وهيمنة النظرة المرتابة تجاه القبائل باعتبارها جزءا من النظام السابق، وفي ضوء هذا الإرث، كان من الطبيعي أن تبوء المحاولات المحدودة لحكومة الوفاق لصياغة سياسة متماسكة تجاه القبائل بالفشل الذريع.

بخلاف ذلك، عانت الحكومة المعترف بها دوليا أيضا في الحصول على أي دعم عسكري أو سياسي حقيقي من المجتمع الدولي، وتضررت قدراتها العسكرية بشدة من القيود التي فرضتها الأمم المتحدة على توريد الأسلحة إلى ليبيا، رغم تجاهل انتهاك حلفاء حفتر لهذه القيود مرارا وتكرارا.

وقد أغرى هذا الموقف الضعيف لحكومة الوفاق حفتر بتمديد نفوذه من الشرق إلى الغرب، وبسط سيطرته على ليبيا بأكملها، مدشنا في أبريل/ نيسان 2019 عملية عسكرية ضخمة بهدف السيطرة على غرب ليبيا والعاصمة طرابلس وتفكيك حكومة الوفاق الوطني.

ولكن بالنظر إلى كون الغرب الليبي الأقل قبلية من الشرق والجنوب، فقد واجه حفتر مصاعب كبيرة في استخدام نفس التكتيكات القديمة للسيطرة على العاصمة والمناطق الغربية.

ومع كون حفتر أضعف من أن يسيطر على العاصمة طرابلس بالقوة العسكرية، ومع كون الكثير من القبائل الشرقية الداعمة له لم تكن مهتمة بخسارة أبنائها في معارك للسيطرة على الغرب الحضري، كان حفتر مضطرا للاعتماد بشكل أكبر على الدعم الخارجي لمواصلة حملته ضد العاصمة.

حصل الجنرال الليبي خلال هذا العام على جرعات مكثفة من الدعم العسكري والمالي والاستخباراتي من قبل الإمارات ومصر وروسيا وفرنسا، بما يشمل الطائرات بدون طيار صينية الصنع ومنظومات الدفاع الجوي الروسية التي وفرتها الإمارات، وكذا الصواريخ والمعدات البرية التي زودتها القاهرة.

بالإضافة إلى المرتزقة الأجانب الذين وفرتهم أبوظبي من السودان وغيرها من الدول الأفريقية وكذا مرتزقة شركة فاغنر الروسية (تتراوح أعدادهم بين 1200 إلى 2000 شخص) الذين تدفقوا إلى محيط طرابلس للقتال إلى جانب حفتر.

نجح الدعم العسكري الأجنبي في منح قبلة الحياة لحملة حفتر على الغرب الليبي ومكنت الجنرال من استقطاب بعض المناطق الغربية التي تتمتع بظهير قبلي قوي مثل مدينة ترهونة (90 كيلومترا جنوب طرابلس) وامتداداتها القبلية في عين زارة ووادي الربيع وقصر بني غشير، وهي المناطق التي اشتهرت سابقا بتوفير المجندين للحرس الجمهوري لنظام القذافي.

وكان الاستيلاء على ترهونة على وجه التحديد أهم المكاسب الاستراتيجية لحملة حفتر الغربية حيث نجح في ضم ميليشيات الكانيات القوية إلى الجيش الوطني الليبي واكتسب موطئ قدم لا يقدر بثمن على البوابة الجنوبية الشرقية للعاصمة.

ومع ذلك، سرعان ما أثبتت حملة حفتر الغربية أنها قصيرة النظر للغاية، بعدما وجد الجنرال الليبي نفسه عالقا لمدة عامل كامل مع معارك عسكرية لا تنتهي مع كتائب مصراتة القوية وغيرها من الفصائل الموالية لحكومة الوفاق، ولكن الحدث الذي غير قواعد اللعبة في غرب ليبيا حقا كان هو قرار تركيا التدخل عسكريا في ليبيا دعما لحكومة الوفاق.

ففي أعقاب توقيع أنقرة وطرابلس لاتفاق لتقاسم الحدود البحرية ومذكرة تعاون عسكري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، صادق البرلمان التركي مطلع عام 2020 على طلب الحكومة إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا بصحبة معدات عسكرية متطورة أبرزها الطائرات بدون طيار.

في غضون أسابيع قليلة، كان الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق قد نجح في تغيير موازين القوى في معارك الغرب، وفي منتصف أبريل/ نيسان نجحت قوات الوفاق مدعومة بالطائرات المسيرة التركية في الاستيلاء على عدة مدن على طول الطريق الساحلي بين طرابلس وتونس بما في ذلك مدينة صبراتة.

ولاحقا في 18 مايو/ أيار، حققت حكومة الوفاق الوطني أبرز انتصاراتها بالاستيلاء على قاعدة الوطية الجوية، قبل أن تعلن سيطرتها على مطار طرابلس في 4 يونيو/ حزيران، وفي اليوم التالي مباشرة أعلنت الحكومة الشرعية نجاحها في استعادة السيطرة على مدينة ترهونة وحقل الشرارة النفطي، وأكدت أنها تنوي مواصلة طريقها لطرد ميليشيات حفتر من مدينة سرت الحيوية، التي طالما تم اعتبارها الحد الفاصل تاريخيا بين الشرق والغرب.

وفيما يبدو، فإن الانتكاسات العسكرية التي واجهها حفتر وميليشياته في غرب ليبيا مؤخرا قد تعدت آثارها الجوانب العسكرية، نحو عملية إعادة تنظيم واسعة في المعسكر الشرقي.

باديء ذي بدء، تسببت الإخفاقات العسكرية التي مني بها الجنرال في الغرب في حدوث شقوق ملحوظة داخل معسكره في الشرق والجنوب، مع تراكم السخط بسبب حربه المستمرة ضد العاصمة منذ أكثر من عام وتكاليفها الباهظة مع افتقارها إلى أي أهداف ذات جدوى بالنسبة لحلفاء حفتر القبليين سوى دعم طموحات الجنرال الشخصية.

وردا على هذا السخط وفي محاولة لصناعة انتصار مسرحي، أعلن حفتر انقلابا تلفزيونيا ألغى بموجبه اتفاق الصخيرات السياسي ونصب نفسه حاكما على ليبيا.

ولكن مغامرة حفتر المسرحية جاءت بنتائج عكسية وتسببت في زيادة نفور حلفائه منه خاصة في القبائل الجنوبية التي قام بعضها بإعلان الولاء لحكومة الوفاق الوطني، فيما بدأت بعض القبائل الشرقية في التحوط لرهاناتها.

ظهر هذا جليا في رفض رئيس مجلس النواب الليبي المنتمي لقبيلة العبيدات عقيلة صالح عيسى، لانقلاب حفتر وإعلانه رغبته في السعي للوصول إلى حل دبلوماسي، وهو مسعى دعمته العديد من القبائل الشرقية التي أطلقت تهديدات علنية لحفتر محذرة إياه من محاولات المساس بـصالح“.

بالتزامن مع ذلك، بدأت العديد من القوى الدولية الداعمة لحفتر في مراجعة جدوى دعمها للجنرال الليبي، وشرع بعضهم في التواصل بالفعل مع عقيلة صالح، باعتباره بديلا سياسيا مقبولا، وممثلا محتملا للشرق في أي مفاوضات محتملة مع حكومة الوفاق.

لكن المشكلة الحقيقية التي تواجه هذه القوى هي أن محاولات إخراج حفتر من المشهد السياسي الليبي قد فشلت مرارا وتكرارا، حيث نجح الجنرال المرة تلو المرة في إقحام نفسه كجزء من المعادلة السياسية والعسكرية في الشرق مستغلا فشل القوى الشرقية في اجتماع على بديل مقبول، بمن في ذلك رئيس مجلس النواب المنتخب عقيلة صالح نفسه، ومستفيدا من الدعم الخارجي في ظل وجود بعض الدول، على رأسها الإمارات العربية المتحدة وفرنسا، وبنسبة أقل روسيا، لا تزال ترى أن مصالحها في ليبيا سوف يتم خدمتها بشكل أفضل من خلال بقاء حفتر.

تجعل هذه المشاركة الأجنبية الموسعة على الحلبة الليبية الصراع في البلاد أكثر تعقيدا وخطورة، خاصة مع اختلاف مستويات مشاركة هذه القوى والتباين الواضح في أهدافها.

وكما يشير هلال خشان، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في بيروت في مقاله المنشور على موقع جيوبوليتيكال فيوتشرز، فمن بين جميع القوى المتورطة في الصراع، تبقى الإمارات القوة الأقدم حضورا والأكثر طموحا.

ظلت الإمارات تهدف من خلال تورطها في الصراع الليبي إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:

أولها هزيمة حكومة الوفاق الوطني التي تراها ممثلا للإسلام السياسي في البلاد،

ثانيها منع تركيا من إقامة وجود دائم في ليبيا،

آخرها ضمان موطيء قدم في ليبيا كجزء من خطتها للسيطرة على الدول الضعيفة في الشرق الأوسط.

بالمقارنة مع الإمارات، تمتلك مصر أهدافا محدودة نسبيا في ليبيا تتعلق بالأساس بمخاوف القاهرة من تسلل المسلحين الإسلاميين من ليبيا إلى مصر عبر الحدود الممتدة على طول 1150 كيلومترا بين البلدين، ورغبة مصر في الحصول على نصيبها من كعكة إعادة الأعمار فضلا عن إعادة أكثر من 1.5 مليون عامل مصري فروا من البلاد بسبب الحرب، بخلاف مقتضيات المنافسة الجيوسياسية التقليدية مع أنقرة.

غير أن قدرات أبوظبي والقاهرة على توفير دعم عسكري ذي مغزى لحليفهما الليبي سرعان ما أثبتت محدوديتها حين وجد البلدان نفسيهما في مواجهة خصم قوي وحازم مثل تركيا التي تمتلك هي الأخرى أهدافها الجيوسياسية الخاصة من المشاركة في الصراع الليبي.

فبالنسبة إلى أنقرة، تعد المشاركة في الحرب الليبية هي الخطوة الأهم في خطة أنقرة لمواجهة المحاولة المستميتة لقبرص واليونان ومصر وإسرائيل لعزلها واستبعادها من معادلة الطاقة في شرق المتوسط.

وفي هذا السياق يمكن تفسير إصرار أنقرة على توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا الذي يمنح تركيا نفوذا بحريا في المنطقة التي يمتد عبرها خط أنابيب إيست ميدالمقرر أن يتم عبره تصدير غاز المتوسط من إسرائيل وقبرص – عبر اليونان – إلى أوروبا، ناهيك عن مخاوف تركيا الأيديولوجية من سقوط طرابلس في يد المحور المعادي للربيع العربي بقيادة الإمارات والسعودية اللتين تقودان أيضا حملة لعزل تركيا في العالم الإسلامي.

بالنظر إلى روسيا، يمثل التواجد في ليبيا وسيلة منخفضة التكلفة لموسكو للتحكم في البوابة الجنوبية لأوروبا والضغط على القارة العجوز في ملفات حيوية مثل أمن الطاقة وتدفقات المهاجرين، والأهم من ذلك أن الكرملين ربما يسعى لتأمين وجود جديد على سواحل المتوسط في موانئ الشرق الليبي يضيف إلى تواجد روسيا القائم بالفعل في سوريا.

أما فرنسا فإنها تبدو أكثر اهتماما بالوصول إلى فزان التي تعتبر بوابة حيوية إلى دول جنوب الصحراء الكبرى التي تمتلك فيها فرنسا حضورا لافتا، ومع تركيز باريس في سياستها الأفريقية على محاربة التنظيمات الإسلامية ووقف تدفقات المهاجرين، فإنها تجد في حفتر حليفا مناسبا.

من جانبها، ترى الولايات المتحدة أنها لا تمتلك مصالح حيوية في ليبيا في الوقت الراهن، وهو ما دفعها للانسحاب من السياسية الليبية بشكل فعلي منذ واقعة مقتل السفير الأميركي في بنغازي عام 2012، لتكتفي بدعم جهود الأمم المتحدة بشكل خافت، قبل أن تبدي إدارة ترامب انحيازا محدودا لصالح حفتر مع بدء حملته على طرابلس.

غير أن واشنطن بدأت في مراجعة سياستها تجاه ليبيا خلال الأسابيع الأخيرة مع تكثيف روسيا لتواجدها في البلاد، مؤكدة دعمها لحكومة الوفاق الوطني ومنتقدة قيام موسكو بإرسال تعزيزات عسكرية إلى قاعدة الجفرة دعما لحفتر في أعقاب خسارته لقاعدة الوطية، ومشيرة إلى عزمها تأسيس وجود لها في تونس المجاورة على مقربة من الصراع الليبي.

ومن المرجح أن التفاعلات بين هذه القوى الأجنبية سوف تلعب الدور الأهم في تحديد مستقبل الصراع الليبي خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، فعلى الرغم من الانتصارات التي حققتها مؤخرا، تدرك حكومة الوفاق الوطني، ومن ورائها تركيا، أن عليهما استثمار الكثير من الجهد العسكري للحفاظ على الأراضي الحالية تحت سيطرتهما فضلا عن السيطرة على مساحات جديدة.

ومن المنطقي أن نفترض أن أنقرة على وجه التحديد تدرك أن أي محاولات لاختراق الحدود العرفية الفاصلة بين الشرق والغرب والتوغل في المناطق القبلية ما بعد سرت سوف تأتي بتكلفة باهظة حيث ستتعامل العديد من القبائل الشرقية معها كقوة احتلال وليس كحليف لحكومة شرعية.

وأخيرا وليس آخرا هناك روسيا التي يبدو أنها تسعى من خلال سحب مقاتليها المرتزقة من المناطق الغربية ووضع طائرتها في قاعدة الجفرة لإرسال رسالة إلى تركيا مفادها أنها تعترف بأحقيتها في التقدم والسيطرة على المناطق الغربية، على أن تبدأ الخطوط الحمراء الفعلية من الشرق وتحديدا بعد سرت.

كانت الانقسامات التاريخية وبصمات القوى الأجنبية حاضرة في تشكيل تاريخ ليبيا ويبدو أنها ستواصل ذات الدور في تحديد مستقبلها، فبعد كل شيء، خضعت كل من طرابلس وبرقة لسلطة الدولة العثمانية لعقود طويلة لكنها لم تنضما أبدا تحت سلطة سياسية موحدة، وفي حين أن إيطاليا قد احتلت ليبيا في عام 1912 فإنها لم تنجح في توحيدها إلا بشكل ظاهري.

وبينما عملت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في ليبيا ضد القوات الألمانية والإيطالية خلال الحرب العالمية الثانية، وحاولت روسيا ستالين تأمين الانتداب على طرابلس في عام 1945، واحتلت فرنسا فزان قبل ذلك بعامين، فإن هذه القوى – جميعها – فشلت في بسط سيطرتها على كامل ليبيا، واكتفت بممارسة النفوذ المحدد بخطوط الصدع التي تم تحديدها سلفا.

واليوم، لا يبدو أن الوضع اليوم سيكون مختلفا كثيرا عن ذلك، حيث تبقى ليبيا منقسمة بشكل فعلي بينما تتهافت القوى الأجنبية على اقتسام كعكة النفوذ، ولكن الخبر الجيد هنا أن الليبيين يدركون هذا الانقسام جيدا، وقد خبروا على التعامل معه خلال فترات مختلفة في تاريخهم، وسيكون التحدي الأكبر هو إذا ما كان الليبيون واللاعبون الخارجيون سوف ينجحون في التوصل إلى صيغة سياسية تراعي هذا الانقسام وتحقق الحد الأدنى مصالح جميع الأطراف.

ولحسن الحظ فإن الخطوة الأولى في هذا المسار معروفة للجميع، وهي منح حفتر إجازة تقاعد إجبارية، وضمه إلى نادي المستبدين ومجرمي الحرب السابقين من أصحاب القصور الفارهة على شواطئ الخليج.

***

محمد السعيد ـ كاتب وباحث مهتم بشؤون العلاقات الدولية وقضايا التغيير السياسي

__________

مواد ذات علاقة