بقلم سعيد الحاج

قد يكون من المستهجن القول إن مصالح مصر وتركيا لا تتعارض بشكل كبير في المنطقة، رغم حدة الاستقطاب بينهما والتي تنقلب أحياناً إلى حدة في المواقف والتصريحات.

بل لعل جملة المصالح الحيوية والحقيقية تجمعهما ولا تفرقهما، بما في ذلك أزمة غاز المتوسط، حيث يصب الاتفاق التركيالليبي مثلاً في مصلحة مصر وليس العكس.

فإذا ما وضعنا في الحسبان أن أحد أهم أسباب الخلاف هو تصنيف تركيا (من قبل مصر وبعض دول الخليج) كداعم للثورات العربية و/أو الإسلاميين، أمكن القول إن المصالح المقصودة هنا هي مصالح النظام لا مصر.

 أكثر من ذلك، بالنظر إلى التصريحات التركية المتكررة عن ضرورة إصلاح العلاقات مع مصر، وحدوث أكثر من لقاء وزيارة بين الطرفين، واستعداد تركيا (فيما رَشَحَ) لإعادة مستوى ما من العلاقة يستثني الرئاسة، في مقابل إصرار مصري على اعتراف أنقرة بالسيسي رئيساً شرعياً والكف عن وصف ما جرى في 2013 على أنه انقلاب، يبدو الأمر كمصلحة شخصية للسيسي وليس حتى لنظامه بالمُجْمل.

يتواجد الطرفان في محورين متقابلين إن جاز التعبير ويتواجهان، في التصريحات والمواقف، بشكل ملحوظ في عدة قضايا وملفات وفي مقدمتها الأزمة الليبية، حيث تدعم أنقرة حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، بينما تقف القاهرة خلف الجنرال خليفة حفتر عسكرياً وسياسياً، لدرجة أنها قدمت “مبادرة” للحل بحضوره وحضور رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح حصراً، دون الطرف الآخر.

تصريحات السيسي الأخيرة حول خط أحمر لمصر ستتدخل الأخيرة عسكرياً إن اجتازته حكومة الوفاق وحلفاؤها؛ طرحت علامات استفهام كثيرة حول مدى جدية القاهرة في تهديدها، فضلاً عن احتمالات المواجهة بين مصر وتركيا، الحليف المقصود في التصريح.

بادئ ذي بدء، لا شك في أن حديث السيسي عن أن خط سرتالجفرة خط أحمر لا يعني بالضرورة أن مصر ستتدخل لتمنع سيطرة الوفاق عليه، وإنما يعني بشكل أكبر أن مصر لن تقبل بتخطيها ذلك الخط نحو الشرق.

كما أنه في غياب أي قرارات أو مواقف أممية وعدم وجود موقف روسي أو أوروبي مشجع علناً لتدخل مصري كبير في ليبيا، يصبح حديث السيسي عن “شرعية دولية” حصل عليها محصورة بالولايات المتحدة الأمريكية، علناً أو سراً، حقيقةً أو توهماً أو إيهاماً.

فهل ستتدخل مصر عسكرياً في ليبيا؟

وهل هذا يعني بالضرورة مواجهة عسكرية مع تركيا على الأراضي الليبية؟

تؤكد مصر وتركيا استحالة الحل العسكري في ليبيا، وتدعمان الحل السياسي ووحدة الأراضي الليبية. وإن كانتا تقفان على طرفي نقيض بالنسبة للطرف المحلي المدعوم من كل منهما، إلا أن مصالحهما المباشرة ليست في تناقض تام كما يُتوهم.

هدف تركيا الرئيس، ومنذ البداية، كان صمود طرابلس أمام هجمة حفتر وتثبيت حكومة الوفاق، بما يبقي على الاتفاقات التي بينها وبين الأخيرة، وخصوصاً اتفاقية تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة المرتبطة مباشرة بأمن الطاقة التركي، بينما تتبدى رغبة مصر في تغييب “الإسلاميين” عن حكم الجارة الغربية إن أمكن، وإلا فالحد الأدنى تأمين المنطقة الشرقية حيث الهلال النفطي والحدود المصرية.

هناك عوامل قد تدفع القاهرة للتدخل ودوافع ذاتية للنظام المصري قد تساهم في هذا السيناريو، في مقدمتها استراتيجيتها في مواجهة الإسلاميين في الداخل والإقليم، ورغبتها في تأمين حدودها والمنطقة الشرقية في ليبيا، وصرف الأنظار عن المشاكل الأساسية، مثل سد النهضة ووباء كورونا اللذين يهددان مصر في ملفي الماء والصحة.

كما ينبغي ملاحظة الدفع الخليجي الواضح لمصر (ومن مسؤولين رسميين) للتدخل، إضافة لفكرة مواجهة الدور التركي وعدم رغبتها في رؤية وجود دائم لأنقرة في دولة جارة لها، فضلاً عن أن التصريح الأخير رفع القاهرة فوق الشجرة وسيجعل من عدم تنفيذ وعيدها أمراً في غاية الحرج لها.

في المقابل، ثمة عوامل وحسابات تمثل عقبات حقيقية أمام التدخل العسكري المصري في ليبيا، لا سيما إن كان القصد منه انخراطاً حقيقياً ومباشراً في عمق الأراضي الليبية. فتعدد الفواعل والقوى المنخرطة في الأزمة، علناً وسراً سياسياً وعسكرياً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، تدفع أي طرف إقليمي إلى إعادة التفكير مراراً والتمهل قبل اتخاذ قرار مشابه، ليس قبل التنسيق مع القوى العظمى والفاعلة على أقل تقدير.

وفي سياق متصل بذلك، ليس هناك وحدة موقف بين الدول الداعمة لحفتر، باعتبار أن لكل منها منطلقه ودوافعه وحساباته الخاصة، ما يعني أن حسابات القاهرة لا تتطابق مع حسابات باريس بالضرورة، فضلاً عن موسكو.

يعيدنا ذلك إلى مفهوم التنافس داخل المحور الواحد في الأزمة السورية، رغم أنه لا يمكن عَدُّ جميع داعمي حفتر محوراً واحداً وموحداً بطبيعة الحال.

الدعم التركي لحكومة الوفاق عامل مهم كذلك في تقييم الموقف، على الأقل على صعيد تنسيق عمل قوات الوفاق وتسليحها وإسنادها، لا سيما من خلال المضادات الأرضية والمسيّرات، ما يعني أن أي مواجهة مع قوات الوفاق ستكون مواجهة مع أسلحة تركية بالحد الأدنى وحالياً، وهو ما يفتح احتمالات المواجهة المباشرة في المستقبل، وإن كنت أرى أنها احتمال ضعيف للغاية.

ولا شك في أن ميزان القوى مع أنقرة من العوامل التي تأخذها القاهرة في الحسبان، حتى ولو لم يكن في نيتها خوض مواجهة معها. إذ تبدو تركيا هنا متفوقة نظرياً وعملياً، تسليحاً وجاهزيةً، في ظل عملياتها العسكرية المتعددة في السنوات القليلة الأخيرة في الداخل والإقليم، كما أن المعارك والعمليات العسكرية تكون واضحة البدايات ربما، ولكن أيضاً متعددة السيناريوهات وغامضة النهايات.

ومما يقلل من احتمال التدخل المصري هو أن حكومة الوفاق لن تتخطى منطقة سرت (في حال استطاعت السيطرة عليها) نحو الشرق وفق المعطيات الحالية. إذ يبدو أن هناك “فيتو” روسيا على ذلك، ولا تبدو تركيا متحمسة لخيار من هذا النوع بارتداداته وتبعاته العسكرية والسياسية المتوقعة، على الأقل في المرحلة الحالية وقبل التوصل لتفاهمات مع موسكو.

وعليه، ورغم أن الكثير من القرارات لا سيما العسكرية منها لا تبنى بالضرورة على حسابات منطقية، إلا أن المعطيات المتاحة تكاد تجزم باستحالة حصول تدخل مصري مباشر وكبير في عمق الأراضي الليبية، بينما سيكون تحرك قوات مصرية نحو الحدود الليبية وربما إلى داخلها في المنطقة الشرقية تطوراً محتملاً بمنطق دفاعي، بما يحقق للقاهرة ما تريده من رسائل ونفوذ، بينما يجنبها ما تخشاه من تطورات وتداعيات، خصوصاً إذا كانت قد حصلت على ضوء أخضر من واشنطن و/أو موسكو.

وبالتالي، فإن سيناريو حدوث مواجهة بين تركيا ومصر في ليبيا ليس مرجحاً وفق المشهد الحالي ولا في المستقبل القريب، إذ ليس هناك ما يدعو لذلك ولا ثمة نقاط احتكاك مباشر بينهما حالياً، خصوصاً وأن الطرفين سيسعيان لتجنبه لما له من تداعيات كارثية عليهما وعلى مجمل المنطقة.

********

هل تذهب مصر إلى الحرب في ليبيا؟

بقلم تقادم الخطيب

ظهر الرئيس المصري، الجنرال عبد الفتاح السيسي، أخيرا، وسط الجنود والقوات في المنطقة الغربية، مستعرضا الجنود والمعدات العسكرية، طالبا منهم الجاهزية للدفاع والذود عن أمن مصر القومي، حال تعرّضه للخطر.

في الوقت نفسه، معلنا عما يسمّى الخط الأحمر، وهو يقصد الجفرة وسرت في ليبيا، لتكون منطقة عازلة بين الحدود الليبية والحدود المصرية. أعقبت ذلك موجة من التعبئة العامة، قادها الإعلام المصري المملوك للمخابرات، تمهيدا للدخول في الحرب في ليبيا للدفاع عن الأمن القومي المصري ضد الغازي التركي، كما يحلو للإعلام المصري أن يصفه.

لكن الواقع ومعطيات الأرض تقول إن مصر لن تخوض حربا في ليبيا، وإن مصر قد انخرطت في حربٍ جزئيةٍ في الصراع الدائر في ليبيا من خلال دعم الجنرال المتمرد، خليفة حفتر، وقوفا ضد حكومة الوفاق ذات التوجه الإسلامي، من وجهة نظرها، إلى جانب تصدير النموذج المصري في الحكم إلي الدول المجاورة.

ولم تراع القاهرة في ذلك اعتبارات عديدة، منها أن تصدير الشكل المصري في إدارة السلطة (جنرال على رأس السلطة، أو حكم المؤسسة العسكرية) بلدا مثل ليبيا هو عدم إدراك لطبيعة ليبيا، والتي تعتبر لا دولة بالمعني المتعارف عليه لتركيبة الدولة ذات المؤسسات.

كما أنه يعكس عدم وجود رؤيةٍ لدى النظام المصري، أو إدراك لطبيعة المتغيرات التي يمر بها العالم، وتمر بها المنطقة

إيعاز روسيا إلى الجانب المصري الدخول في الحرب الدائرة في ليبيا هدفه تكوين حلف موالٍ لها

وانخراط مصر في حرب الوكالة تلك، إلى جانب حلف الثورة المضادّة في المنطقة (الإمارات والسعودية) جعل مصر تفقد موقف الوسيط النزيه، أو لعب أي دورٍ في حلحلة الأزمة مستقبلا، كما أنه فوّت على مصر فرصا دولية عديدة للتدخل وتشكيل جبهة دولية لإنهاء الحرب، فقد فوّتت مصر مؤتمر الصخيرات، ومن قبله مؤتمرات عديدة، ثم أخيرا مؤتمر برلين الدولي لإنهاء الحرب في ليبيا.

كما أن انخراط مصر في دعم حفتر سهّل مهمة الأتراك الدخول في المعترك الليبي، فلو أن مصر اتخذت، منذ بداية الأزمة، دور الوسيط النزيه بين الأطراف المتصارعة، بالتعاون مع دول الجوار الليبي والقوى الغربية المختلفة، لقطعت الطريق أو صعّبت من سهولة الأتراك في أن يأتوا إلى ليبيا.

فمصر حينما تكون في قوتها هي الدولة الإقليمية الوحيدة القادرة على أن توقف الغزو الأجنبي للمنطقة، ولكن مصر الآن تعاني تحت حكم الجنرال السيسي، وتحاصرها الأزمات من كل ناحية، وأصبح هناك فراغ وتراجع في دورها الإقليمي، تحاول كل من السعودية والإمارات أن تملأهما

الآن وبعد هزيمة الجنرال خليفة حفتر ولجوئه إلى القاهرة (أحد حلفائه) للإعلان عن مبادرة إنهاء الحرب هو بمثابة إعلان لهزيمة قواته وانتكاسة حلفائه، كما أنه أتى متأخرا، إلى جانب أن تلك المبادرة جاءت منفردة، وبحضور طرف واحد من دون الأطراف الأخرى.

فضلا عن أن القاهرة لا تملك أي أوراق ضغط لتنفيذ مبادرتها أحادية الجانب التي ظهر الجنرال السيسي، بعد أيام من إعلانها، بين جنوده، متحدّثا عن خط أحمر، لو تم تجاوزه فسيكون هناك دفاع عن الأمن القومي المصري.

وهنا، لو تم تجاوز هذا الخط الأحمر الذي رسمه السيسي منفردا، هل تدخل مصر الحرب، وترسل جنودا بأعداد كبيرة إلى ليبيا؟ ذلك لن يحدث، ودخول قوات مصرية إلى ليبيا معناه اعتراف مصر بتقسيم ليبيا إلى دولة شرقية وأخرى غربية.

وفي ذلك تهديد كبير للأمن القومي المصري، في أن تكون هناك دولة منقسمة على حدودها، فمصلحة مصر في استقرار ليبيا، لما يمثله هذا البلد من امتداد للأمن القومي المصري، وسوق للعمالة المصرية.

لكن لو حدث ودخلت القاهرة تلك الحرب (وهو ما أؤكد مجدّدا على استبعاد حدوثه)ن فالسؤال الذي يصير مطروحا: هل تملك مصر من الأوراق والأدوات العسكرية ما يجعلها في المستقبل تضمن ولاء تلك الدولة الشرقية الناشئة على الحدود المصرية، من الناحية السياسية والجيوغرافية والديموغرافية، وهل ستضمن مستقبلا أن تكون تلك الدولة الشرقية منطقةً عازلة بينها وبين الدولة الناشئة في الغرب؟

انخراط مصر في حرب الوكالة تلك، إلى جانب حلف الثورة المضادّة في المنطقة (الإمارات والسعودية) جعل مصر تفقد موقف الوسيط النزيه

في المقابل، يصور النظام المصري وإعلامه أن الخطر الحقيقي في ليبيا هو التركي فقط، متناسين الخطر الروسي، وما تفعله روسيا بليبيا، في محاولةٍ لجعل ليبيا أشبه بسورية، حيث إنها تستخدم الأدوات نفسها التي استخدمتها من قبل في سورية في الواقع الليبي، فروسيا تجيد زرع بذور الفتنة بين الأطراف المتصارعة.

وفي الوقت نفسه، تجيد فتح قنوات اتصالات مباشرة ومنفصلة مع كل طرفٍ على حدة، فما نراه الآن أن هناك محاولات روسية مدعومة بمحاولات سعودية إماراتية لإدخال مصر الحرب في ليبيا، وجعلها متورّطةً هناك، فمن خلال قنوات غير رسمية، تبعث روسيا إلى النظام المصري رسائل أنها ستدعمه وتمدّه بالسلاح حال تدخله في ليبيا، محاولةً في ذلك إرسال رسالة أن النظام في القاهرة يتحالف معها.

وفي الوقت نفسه، لديها قنوات اتصال وتفاهمات مع الولايات المتحدة بهذا الشأن، إلى جانب تفاهماتها الواسعة مع تركيا، وقد برهنت الحرب السورية على أن هناك تفاهمات وتقاطعات واسعة بين الروس والأتراك، والقدرة علي تجاوز الخلافات، وتقديم حلول تخدم مصالح الطرفين.

إيعاز روسيا إلى الجانب المصري بالدخول في الحرب الدائرة في ليبيا هدفه تكوين حلف موالٍ لها يكون مرتهنا بها في المستقبل، وتتحكم فيه على الأرض الليبية. ولن تجد أفضل من القاهرة لتورّطها في ذلك، ثم تتخلى عنها، كما فعلت ذلك من قبل مرارا وتكرارا مع غيرها.

ولكن لو حدث ذلك، فهذا معناه عزل للقاهرة ومواجهة منفردة للعالم. وهنا يكون السؤال: هل تستطيع القاهرة امتلاك الإمكانات المالية والعسكرية لتبقى في ليبيا؟

الإجابة أن القاهرة المحاصرة بالأزمات لا تستطيع ذلك، وستكون عرضةً للضغوط والعقوبات الدولية. وأظن أن النظام المصري، أو بعضا ممن حوله، يدركون هذا. لذلك لن يكون هناك تورّط في الدخول في حرب في ليبيا.

يصور النظام المصري وإعلامه أن الخطر الحقيقي في ليبيا هو التركي فقط، متناسين الخطر الروسي

ولكن هل تملك القاهرة أي حلولٍ للوضع الليبي، أو تقدّم أي مساهمة في ذلك؟ على الرغم من أن الوقت أصبح متأخرا، لكن القاهرة تستطيع فعل ذلك في حالةٍ واحدة، وهي إعادة تقييم سياستها في ليبيا، وتراجعها عن دعم الجنرال حفتر، ولعب دور الوسيط بالتعاون من القوى الغربية، والعودة إلى قرارات الأمم المتحدة، وإلى ما انتهى إليه مؤتمر برلين.

لكن ذلك يستلزم أن تفكّ القاهرة ارتباطها بحلف الثورة المضادة في المنطقة (السعودية والإمارات)، وأن تعيد تقييم سياستها الخارجية بما يتوافق مع مصالحها ومصالح أمنها القومي، فهل تكون القاهرة قادرةً في فعل ذلك في ظل حكم الجنرال السيسي؟

____________

مواد ذات علاقة